صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







رسالة إلى الشهر الكريم

الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية

 
أيها الضيف الكريم
يا شهر رمضان المبارك
يا شهر الجهاد في سبيل رب العباد
يا سيد الشهور ، وموسم الخير والسرور
يا شهر البركة والعطف ، وموسم الرحمة واللطف
سلام الله عليك ورحمته وبركاته ، وبعد :

فأهلا َوسهلاَ ومرحباَ بك يا شهر الإيمان وموسم القرآن في هذه المناسبة الإيمانية المتكررة في كل عام ، والمتجددة في كل حين . وحياك الله من ضيفٍ كريمٍ له في القلوب منزلة ، وفي النفوس مكانة ، ولا يسعنا إلا أن نُردد قول الشاعر الدكتور / عائض بن عبد الله القرني ، وهو يُرحب بشهر رمضان المبارك قائلاً :

مرحباَ أهلاَ وسهلاَ بالصيام *** يـا حبيـباَ زارنـا في كل عــــام
قد لقينـاك بـحبٍ مفعم *** كل حب في سوى المولى حرام
فاغفـر اللـهم ربـــي ذنـــبنا *** ثم زدنا من عطاياك الجسام

= أهلا َبك يا شهر رمضان المبارك في خضم هذه الأحداث التي تمر بها أمة الإسلام ، لتكون ـ بإذن الله فرصة مناسبة لتطهير النفوس من ذنوبها وخطاياها ، ولتكون زادا َروحيا َمباركاَ يسمو بالأرواح إلى بارئها ، فترتفع عن الأدناس ، وتتخلص من الأرجاس ، حتى تطهُر وتصفو ، وترتقي وتسمو ؛ فلا تنقاد للغرائز البهيمية ، ولا تستسلم للشهوات الحيوانية ، وإنما تتعلق بأنوار الهداية الربانية وأهداب السُّنة المحمدية .

= أهلا َبك يا شهر التوبة والرضوان ليجدد العباد صلتهم في أيامك ولياليك بالواحد الديان ، صلاةً وصياماً ، وقياماً ودعاءً ، وصدقةً وذكراً ، وبراً وإحساناً ، وقولاً وعملاً ؛ فتزكو نفوسهم ، وتطهُر قلوبهم ، وتسموا أرواحهم ، وتخشع جوارحهم ، وتوّجه أفكارهم إلى كل ما من شأنه صلاح أمور دينهم والدنيا .

= أهلاً بك يا شهر رمضان في زمنٍ يعيش فيه المسلمون أزماتٍ قاسيةٍ ، ومآسي عظيمة ، فالعالم الإسلامي اليوم مثخنٌ بالجراح من شماله إلى جنوبه ، ومن شرقه إلى غربه ، وهذا أمر يدعونا جميعاً في هذا الشهر الكريم إلى معايشة هذه القضايا الكبرى بالقلب والقالب ، واللسان واليد ، والنفس والمال ، حتى يكون الجميع على بصيرةٍ وعلمٍ بما يُراد بالإسلام والمسلمين ، وليكون الجميع صفاً واحداً في مواجهة الباطل وأهله على مختلف مللهم ومذاهبهم تحقيقاً لقوله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ( سورة الأنبياء : 92 ) . وحتى نعيش قول صلى الله عليه وسلم في وصف أبناء الإسلام : " مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 6586 ، ص 1131 ) .

وهنا يحضرني قول الشاعر الدكتور / عبد الرحمن العشماوي في وصفه الرائع لوحدة الأمة المسلمة بقوله :

إذا اشـــتـكى مسلمٌ في الصـيـن أرقــني *** وإن بكـــى مسلمٌ في الهند أبكاني
ومصرُ ريحانتي ، والشــــام نرجستي *** وفي الجزيـرة تاريـخـي وعـنوانــــي

= أهلاً بك يا شهر الجهاد في سبيل الله ، ففيك ارتفعت راية التوحيد ، وتم بحول الله تعالى دُحِرَ أعداء الله من الكفار والمشركين في غزوة بدرٍ الكبرى ، وعند فتح مكة المكرمة ، وغيرها من المعارك التي انتصر فيها المسلمون كحطين وعين جالوت وحرب العاشر من رمضان وغيرها .

= أهلاً بك يا شهراً أخرج فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سريةً لنُصرة الإسلام وإعلاء كلمته ، فكانت ثمارها ارتفاع راية التوحيد خفاقةً فوق هامات الرؤوس ، مُعانقةً لشوامخ الجبال ، مُناطحةً لقطع السحاب .

= أهلاً بك يا شهراً يُجاهد فيه العدو بالقتال والسلاح ، وتُجاهد فيه النفوس بالعبادة والصلاح ، ويجاهد فيه الجسم بالجوع والعطش ، وكف الأذى ، والبُعد عن الشهوات والشُبهات .

= أهلاً بك يا شهر التربية الروحية للنفوس المؤمنة المطمئنة ، لتنشأ وتُربى وتُصاغ وتوجَّه إلى السبيل القويم ، والمنهج السليم الذي تطمع أن يبلغ بها مدارج الكمال والجمال والجلال . وما أحسن قول الشاعر :
فقوت الروح أرواحُ المعاني وليس بأن طعمتَ ولا شربتَ
= أهلاً بك يا شهراً تقوى فيه العزيمة الصادقة ، وتُربى فيه الإرادة الحازمة ، فيقل فيه التهافت على الشهوات ، ويُمسكُ فيه عن المحرمات ، وتُجتنب فيه المنكرات . وهنا يحضرني قول الشاعر :

أتاك شهر السعدِ والمكرُمات *** فحيـه في أجـمل الذكريات

= أهلاً بك يا موسم الصلح مع الله تعالى ، وميدان التنافس في كثرة الطاعات ، والبعد عن المعاصي والمُحرمات ، فيزداد الإيمان ، ويعظُم اليقين ، وتتحقق محبة الله عز وجل في كل وقتٍ وحين ، وتُحيا سُنن رسوله الأمين ، وتُستثمر فيه الأوقات بكل نافعٍ ومُفيد ، ويُبارك الله تعالى في أيامه ولياليه ، وتنشط الدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدروس الدينية ، وتنظيم المحاضرات التوعوية ، وعقد الندوات ، وإلقاء المواعظ ، وغير ذلك من مجالس الذكر وحلق العلم وأُمسيات الخير .

= أهلاً بك يا شهر القرآن الكريم لتكون دافعاًً لجلوس العباد إلى مائدة القرآن الكريم حتى ينهلوا من معينه الطيب المُبارك الفياض ، ويتدبروا آياته البينات ، ويستكثروا بتلاوته من الحسنات فقد صح في الحديث أن للقارئ بكل حرفٍ من القرآن حسنة ، والله يُضاعف لمن يشاء .

= أهلاً بك يا شهراً يصوم فيه المسلم كله لوجه الله سبحانه امتثالاً لأمره وابتغاءً لمرضاته ، فالقلب يصوم عندما يتجه إلى خالقه جل في علاه في كل لحظة ، ويبتعد عن المحرمات والمعاصي ، ويُعمرُ بالتقوى . والبطن يصوم عندما يمتنع عن أكل الحرام سواءً كان رباً أو رشوةٍ أو سُحتٍ أو غشٍ أو أكلٍ لمال اليتيم أو طعامٍ مُحرمٍ أو شرابٍ مُسكر أو مُفتِّر أو نحو ذلك مما حرمه الله تعالى ورسوله . والأذن تصوم عندما تنتهي عن سماع اللغو والباطل ، والغناء والموسيقى ، والقول الفاحش والكلام البذيء . والعين تصوم عندما تمتنع عن النظر إلى ما حرَّم الله تعالى من المناظر والمشاهد ونحوها . واللسان يصوم عندما يتوقف عن كل قولٍ باطلٍ لا خير فيه من لغوٍ وغيبةٍ ونميمةٍ وكذبٍ وفجورٍ وسبٍ وشتمٍ وفضولٍ ونحوها .

= أهلاً بك يا شهراً يُجدد فيه المسلمون عهدهم مع الله تعالى على التوبة الصادقة ، فيعودون إلى الله سبحانه ويُنيبون إليه ويستغفرونه ( جل في عُلاه ) بعد أن كثُرت خطاياهم ، وعظُم زللهم ، وزادت سيئاتهم ، وطال زمن عصيانهم ؛ فكان شهر رمضان المبارك فرصةً لا تُفوت للتوبة والاستغفار والعودة والإنابة . قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ( سورة الزمر : 53 ) .
وما أجمل قول الشاعر في هذا المعنى :

أتوب إليـك يـا رحمن مما *** جنت نفسي فقد كثرت ذنوبي
وأشكو يا إلهي من معاصٍ *** أصـابتني وآذتــني عيــوبــي

= وختاماً أيها الضيف الكريم ، لا يسعُني إلا أن أُردد الترحيب بك مراتٍ ومرات قائلاً ومعي كل مسلمٍ على وجه الأرض : حللت أهلاً ، ووطئت سهلاً ، فحياك الله من ضيفٍ كريمٍ نصوم أيامه ، ونقوم لياليه ، ونتقرب إلى الله تعالى فيه بالقول الجميل والعمل الصالح طمعاً في ما وعدنا الله فيه من المغفرة والرحمة والعتق من النار . والله نسأل أن يكتب لنا جميعاً الأجر والثواب ، وأن يوفقنا جميعاً لما فيه الصلاح والفلاح ، وأن يرزقنا الجنة إنه تعالى على كل شيءٍ قدير ، وبالإجابة جدير ، والحمد لله العلي القدير .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
صالح أبوعرَّاد
  • كتب وبحوث
  • رسائل دعوية
  • مقالات تربوية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية