صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سُنن الفطرة وآثارها التربوية في حياة المُسلم

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد  

الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية

 
الحمد لله فاطر السموات والأرض ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير قدوةٍ وأُسوة ، نبينا محمد بن عبد الله الأمين ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، وعلى التابعين ، وتابع التابعين ، وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين ؛ أما بعد ؛
فإن الإسلام دين الفطرة التي قال فيها الحق سبحانه : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ( سورة الروم: من الآية 30 ) . ولأن للفطرة كثيراً من المعاني التي لا يتسع المُقام لبيانها ؛ فإنني سأقتصر على المعنى الذي يخُصُ موضوعنا وهو المعنى الذي يرى أن الفطرة تتمثل في طهارة المسلم الظاهرية والباطنية، فـأمـا طهارة الباطن فهـي متعلقة بالجانب الروحي من شخصية الإنسان ، وتعني تطهير النفس الإنسانية بمُختلف جوانبها من الشرك بالله تعالى ، وهي بذلك طهارةٌ تتطـلـب إخــلاص العـبادة لله وحده لا شريك له، وأداء الأعمال الصالحة الخيّرة طاعةً لله تعالى ، وامتثالاً لأوامره سبحانه ، وطلباً لمرضاته جل في عُلاه .

وأما طـهـارة الـظـاهر فهي مُتعلقةٌ بجوانب الفطرة العملية التي تشتمل على كل ما له علاقةٌ بجمال مظهر الإنسان المسلم وحُسن سمته ؛ لما في ذلك من ملاءمةٍ للفطرة السوية التي خلق الله الإنسان عليها في أحسن تقويم ، ولما فيها من التزامٍ فعليٍ بهدي النبوة المبارك الذي جاءت به التربية الإسلامية واضحاً جلياً ؛ فعن ابن عباس م أن النبي ض قال : " الاقتصاد و السمتُ الصالح جزءٌ من خمسة وعشرين جــزءاً مـن النبوة " ( رواه أحمد ، ج 1 ، ص 296 )  .

ولأن الإسلام دين الفطرة الذي عَرَف أسرارها، وكشف خباياها، وسَبَر أغوارها، فقد قدَّم لها ما يُصلحها وما يصلُح لها من تعاليم وسُنن وتوجيهاتٍ وآدابٍ اجتمعت كلها في التربية الإسلامية التي جاءت كالثوب الـمـنـاسـب لمختلف الأعضاء في الجسم ، والملائم لشتى الأبعاد في البدن . هذه التربية التي جاء بها مُعلم البشرية الأكبر ، وأُستاذ الإنسانية الأعظم نبينا محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لهداية الناس وسعادتهم في كل زمانٍ ومكان . هذه التربية التي جاءت بكل جليلٍ وجميلٍ ، وكل نافع ومُفيد ؛ وليس أدل على ذلك من خصال الفطرة أو سُنن الفطرة التي جاءت لتشكل رافداً مهماً مــن روافــد الـتـربية الجمالية في حياة الإنسان المسلم ، ولتعرض أُنموذجاً عملياً مثالياً لتربية المعلم العظيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ولتكفل تحقيـق مـعـنـى التوازن الشامل الذي تفتقدُه معظم الفلسفات والنظريات التربوية البشرية التي عرفها الإنسان قديماً وحاضراً .

* ما المقصود بسُنن الفطرة ؟
            سنن الفطرة هي الخصال التي فطر الله الناس عليها ، والتي يكمُل المرء بها حتى يكون على أفضل الصفات وأجمل الهيئات . وقد ورد ذكرها في أحاديث نبوية مُتعددة منها :
( 1 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه  : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الفطرة خمسٌ : الختانُ ، والاستحدادُ ، وقصُّ الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الآباطِ " ( رواه البخاري ، الحديث رقم 5891 ، ص 1036 ) .
( 2 ) عن ابن عمرٍ رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من الفطرة : حلقُ العانة ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب " ( رواه البخاري ، الحديث رقم 5890 ، ص 1036 ) .
( 3 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الفطرة خمس -أو خمسٌ من الفطرة -: الختانُ ،  والاستحدادُ ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وقصُّ الشارب " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 597 ، ص 124 ) . 
( 4 ) عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عشرٌ من الفطرة : قصُّ الشارب ، وإعفاءُ اللحية ، والسِّواك ، واستنشاقُ الماء ، وقصّ الأظفار ، وغسل البراجِم ، ونتفُ الإبط ، وحلقُ العانة ، وانتقاص الماء " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 604 ، ص 125 ) .
( 5 ) عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عشرٌ من الفطرة : قصُّ الشارب ، وإعفاءُ اللحية ، والسِّواك ، والاستنشاقُ بالماء ، وقصّ الأظفار ، وغسل البراجِم ، ونتفُ الإبط ، وحلقُ العانة ، وانتقاص الماء " يعني الاستنجاء بالماء . قال زكريا : قال مصعب بن شيبة : ونسيت العاشرة ؛ إلا أن تكون المضمضة . ( رواه أبو داود ، الحديث رقم 53 ، ص 13 ) .
( 6 ) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الفطرة : المضمضة ، والاستنشاق " ( رواه أبو داود ، الحديث رقم 54 ، ص 14 ) .

      ومن مجموع هذه الأحاديث النبوية وغيرها يتبيّن أن سُنن الفطرة ليست محصورةً في عددٍ مُعينٍ ، وأنها أكثرُ من أن تُحصر ، إلا أن من أبرزها كما جاء في بعض كتب أهل العلم ، ما يلي :
قص الشارب ، إعفاء اللحية ، السواك ، استنشاق الماء ، قص الأظفار ، غسل البراجم ، نتف الإبطين ، حلق العانة ( الاستحداد ) ، الاستنجاء ( انتقاص الماء ) ، المضمضة  ، الختان  ،  عدم نتف الشيب ، خِضَابُ الشيب ، ترجيل الشعر . 

وهنا يمكن ملاحظة أن جميع هذه السنن تُعنى بمظهر الإنسان المسلم وجمال هيئته . وأنها تعمل في مجموعها على وضع الشخصية المسلمة في وضعٍ متوازنٍ ، يُمثل الوسطية المطلوبة من الإنسان المسلم ؛ فلا إفراط ولا تفريط ، ولا غلو ولا تقصير . وليس هذا فحسب ؛ بل إن هـذه الـسـنـن تمنح الإنسان تكريماً إلهياً يأتي كأبدع ما يكون التكريم .

ويأتي هذا الموضوع ليُقدم مــن خـلال سُنن الفِطْرة أُنموذجاً فريداً للتربية الإسلامية ، يتحقق في كرامة الإنسان المسلم الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون مُستخلفاً ومُكرَّماً في الأرض، ويتمثل في توازن شخصيته المُتميزة في جوانبها المختلفة ،كما يتحقــق فـيـه أيـضـاً هدف التربية النهائي المُتمثل في استقامة الإنسان واستقامة الحياة من خلال تحقيق معنى العبودية الخالصة لله تعالى القائمة على السمع والطاعة ، والامتثال والإتباع ؛ وذلك أسمـى مــا تصـبـو إلـيـه العملية الـتـربوية عند بنائها لشخصية الإنسان المسلم .

= سُنن الفِطْرَة أُنموذج تربوي نبوي   :
من المُسلمات أن كل تربيةٍ تحتاج إلى أُنموذجٍ واضحٍ يُجسد معالمها، ويوضح تعاليمها بصورةٍ واقعيةٍ تنقل المجرد إلى محسوس ، وتُترجم القول إلى عمل ، وتحول النظرية إلى تطبيق . ومن المؤكد أنه لا يوجد أعظم ولا أكمل ولا أفضل ولا أجمل من شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتكون أُنموذجاً حياً للتربية الإسلامية ، وقدوةً حسنةً للإنسان المسلم في كل زمان وأي مكان . ولا ريب فهو من اصطفاه ربه سبحانه وتعالى وقال فيه :  {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ( سورة الأحزاب : الآية رقم 21 ) .

وهو الذي بعثه الله جل جلاله ليكون معلماً ومزكياً ومربياً لأُمته ، فقال سبحانه وتعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ( سورة آل عمران : الآية رقم 164 ) .

وهو الذي مدحه ربه سبحانه بما منحه فقال له جل من قائلٍ في كلماتٍ موجزاتٍ مُعجزات : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }( سورة القلم : الآية رقم 4 )؛  فكان كُل خُلقٍ فاضلٍ ،  وكُل سُلوكٍ سليمٍ متمثلاً في حياة رسول الله  صلى الله عليه وسلم وشخصيته المتكاملة التي استوعبت كل جوانب الحياة الإنسانية . وبذلك جسَّد الرسول صلى الله عليه وسلم منهج التربية الإسلامية السامية في الواقع العملي لحياته من خلال تطبيقه لسُنن الفطرة وتمسكه بها ، وتربية أصحابه الكرام عليها رضوان الله تعالى عليهم لتبقى منهجاً تربوياً نبوياً إسلامياً للأُمة حتى قيام الساعة .

من هنا فإن للمحافظة على هذه السنن أثراً تربوياً عظيماً يتمثل في أن التزام المسلم بها وتطبيقه لها في واقع حياته يدل على أمرين هما :  
* التصديق بما ورد في سيرة وهدي الرسول ض عن طريق التقليد والإتباع الصادق لهدي التربية النبوية في كافة الأعمال وجميع التصرفات والسلوكيات . وهذا بدوره كفيلٌ بتربية أفراد المجتمع المسلم على السمع والطاعة ، والامتثال لأوامر الله تعالى وهدي الرسول ض، لاسيما وأن في الناس نَزعةً فطريةً لتقليد ومحاكاة من يحبون ،  وليس هناك أحب عند المسلم من رسول الله ض.
* اتخاذ القدوة الحسنة من المعلم الأول والمربي الأعظم ض كشخصيةٍ فذةٍ متكاملةٍ متوازنة . وتتضح هذه القدوة في الاهتمام بكل ما له علاقةٌ بالجانب الجسمي وما يحتاج إليه من النظافة العامة حينما يتفقد المسلم أظافره فيقلمها ،  وفمه فينظفه ، وأسنانه فيسوِّكها ،  وشاربه فيقصه ، وشعره فيُرجله ويُسرحه ، ولحيته فيُعفيها ، وإبطيه فينتفهما... إلخ . وهذا بدوره ينفي الزعم الباطل الذي يقول : إن الإسلام لا يهتم بالناحية الجسمية ، بل ويؤكد قضية التوازن في اهتمامات التربية الإسلامية ورعايتها لمختلف الجوانب الجسمية والروحية والعقلية ، فلا يستغرب بعد ذلك أن يُعرَف المسلم لأول وهلةٍ حين يُرى سمته ووقاره ، وهيئته الخارجية ،  وشكله العام الذي يُميزه عن غيره من الناس ، ويجعله فريداً في شكله وهيئته ؛ لأن هذه السنن في مجموعها جعلت له شخصيةً مميزةً ،  ومظهراً خاصاً ،  وأُنموذجاً فريداً يقتدي فيه بإمام الطاهرين وقدوة الناس أجمعين صلى الله عليه وسلم .

= سُنن الفطرة والتربية الجسمية :  
            غني عن القول إن التربية الإسلامية تُعنى بجسم الإنسان عنايةً كبيرة ومُستمرة ؛ لاسيما وأن الجسم بمثابة الوعاء الذي يحوي الذات الإنسانية بدليل أنه محلُ ثلاثٍ من الضروريات الخمس التي دعت الشريعة إلى احترامها و الحفاظ عليها ؛ فالجسم محل ( النفس ، والعقل ،  والنسل ) . وتتمثل عناية التربية الإسلامية بالجسم وسلامة تربيته في كثيرٍ من الجوانب التي يأتي من أبرزها الحث على التزام المسلم بسُنن الفطرة التي " يُطلب من المسلم التمسك بها؛ لتجعل مظهره إسلامياً كريماً ، ورائحته حسنةً مقبولة ، وهيئته وقورةً حسنةً مقبولة ، وليتميز عن غيره من أهل الكتاب الذين لا يغتسلون من جنابةٍ ، ولا يأبهون بالنظافة الحقيقية -وإن حافظوا على مظهرهم الاجتماعي -، فضلاً عما فيها من فوائد صحيةٍ  واجتماعية ،  وفوق ذلك كله التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( عبد الحليم عويس ، 1989م ، ص ص 11 – 12 ) .
والمعنى أن هذه السُنن ذات علاقةٍ وثيقةٍ بالجانب الجسمي للإنسان ، وتأتي المُحافظة عليها دليلٌ على العناية الكاملة بأعضاء الجسم من أعلى الرأس إلى أُخمص القدمين ، وهو ما أشار إليه أحد الكُتّاب بقوله :
" هذه السُنن تمتد مواطنها من أعلى هامة الإنسان إلى قدميه ، ففي أعلى الرأس تكون سنة ترجيل الشعر وتنظيفه وتطييبه ، وفي الأنف تكون سنة الاستنشاق ، وفي الفم تكون سنة السواك وسنة المضمضة ، وفي الإبطين تكون سنة نزع ( نتف ) الشعر ، وفي وسط الإنسان تكون سنة حلق العانة وسنة الختان وسنة الاستنجاء ، وفي الكفين تكون سنة غسل البراجم ، وسنة قص الأظافر ، وفي القدمين تكون سنة قص الأظافر منها أيضاً " ( أحمد الشرباصي ، د . ت ، ص 130 ) ، ويُضاف إلى ذلك سنة قص الشارب وسنة إعفاء اللحية في الوجه .

            وهنا يمكن الخلوص إلى أن عناية المسلم بسُنن الفطرة ومُحافظته عليها ؛ إنما هي عنايةٌ بسلامة جسمه ، ومُحافظةٌ على صحته ، وحرصٌ على حيويته ونشاطه .

= سُنن الفطرة والتربية الجمالية :  
         تدعو التربية الإسلامية دائماً ، وتحث على الاهتمام بالمظهر الشخصي والناحية الجمالية ، ليكون المسلم جميلاً في مظهره ، متناسقاً في هندامه ، بعيداً عن الدروشة والقذارة والإهمال والعشوائية . قال تعالى : } يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ  { ( سورة الأعراف : الآية رقم 31 ) . فالله سبحانه كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله جميلٌ يُحب الجمال " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 265 ، ص 54 ) .
وليس هذا فحسب ؛ بل إن في ذلك إشباعاً لحاسة الجمال في نفس المسلم ، فيتولد في أعماقه إيمانٌ شديدٌ بعظمة الخالق سبحانه الذي خلق فأحسن الخلق ، وصور فأحسن التصوير ؛ فكان من الملائم أن يُحافظ الإنسان على ذلك الحُسن والجمال ، وأن يحرص على عدم تشويهه أو إفساده أو العبث به .

كما أن من عناية الإسلام بالمظهر الحسن والهيئة الجميلة ؛ أمره للمسلم وحثه إياه للالتزام بسنن الفطرة وخصالها التي تُربي المسلم تربيةً جماليةً تتمثل في  :                      
( 1 ) طهارة الجسم الحسية : ويُقصد بها تطهير وتنظيف البدن بالوضوء خمس مراتٍ في اليوم والليلة ،  والغُسل في كل أسبوعٍ مرةً أو عندما تدعو الحاجة إلى ذلك ، وهي مما يحبه الله سبحانه وتعالى مصداقاً لقوله تعالى : } واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ { ( سورة التوبة : الآية رقم  108 ) . كما أنها من الأمور التي أمر بها نبينا محمدٍ  صلى الله عليه وسلم وحث عليها في سنته القولية والفعلية .
( 2 ) الطهارة المعنوية : ويُقصد بها تطهير النفوس البشرية بجميع جوانبها المختلفة من كل ما لا يليق بها من الخصال والصفات والطباع . وبذلك يُغرس في النفوس طهارة وسلامة الضمير من كل ما يشينه عبادةً وطاعةً وامتثالاً لأوامر الله سبحانه ، وإقتداءً بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوةٌ تُحتذى في هذا الشأن ، وهو ما يُشير إليه ابن الجوزي بقوله : " وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس" ( أبو الفرج بن الجوزي ، د . ت ، ص 90 ).

والمعنى أنه متى ما تحققت للمسلم تلك الطهارة بنوعيها ؛ انعكس أثرُها على المظهر الخارجي للإنسان المسلم الطاهر النظيف ، ومن ثم على المجتمع المسلم الذي جرت العادة أن يوصف أفراده بأنهم أصحاب النفوس الزكية ، والوجوه الحسنة ، والأيدي المُتوضئة ، والسمت الصالح . وهنا إشارةٌ إلى أن هذه التربية الجمالية تؤدي بدورها إلى تطهير النية والعمل والسلوك ، فنظافة المظهر مدعاةٌ لنظافة الجوهر ،  ونظافة الشكل مدعاةٌ لنظافة الضمير ،  ونظافة الفرد مدعاةٌ لنظافة المجتمع . وبذلك يتحقق بعدٌ تربويٌ إسلاميٌ عظيمٌ يتمثل في طهارة المجتمع المسلم طهارةً معنويةً من الفواحش والمعاصي والذنوب والآثام والانحرافات السلوكية والأخلاقية  ونحوها؛ فترتفع النفس المسلمة بتلك الطهارة من رجس الفوضى ، وحمأة الرذيلة ، وأوحال الوحشية إلى مستوىً رفيعٍ من سمو الأخلاق وحُسن السلوك وجمال الطِباع . ومن ثم يتم تطهير الحياة الاجتماعية عامةً حتى تصبح التربية شاملة للروح والعقل والجسم .

وليس هذا فحسب ؛ بل إن في هذه السنن والخصال مدعاةً لتأليف القلوب ، ومداً لجسور المحبة والمودة ، وتوطيداً للصلة بين الإنسان المسلم وزوجه ، فتكون حياتهما مبنيةً على الرحمة  والمودة ، وقائمةً على السكن والراحة والقبول . وليس أجملُ ولا أروعُ من أن يكون كلا الزوجين مناسباً للآخر ، وملائماً له ، مقبولاً عنده في شكله وهيئته ؛ لأن ذلك مدعاةٌ للائتلاف والرضا، وسببٌ مباشرٌ لقناعة كل منهما بالآخر . وهذا بدوره سيؤدي ( بإذن الله تعالى ) إلى استمرارية سعادتهما الزوجية .

= سُنن الفطرة والتوازن في شخصية المسلم :
              مما لا شك فيه أن الكيان البشري يشتمل على ثلاثة جوانب رئيسة هي : الجسم ،  والعقل ، والروح . ولذلك فإن التربية الإسلامية حرصت على الربط بين هذه الجوانب برباطٍ  واحدٍ  لتجعل منها كياناً واحداً مترابطاً ، واختطت لذلك منهجاً فريداً في إحاطته بجميع الجوانب الإنسانية ، فجاء هذا المنهج متوازناً مهتماً بالذات الإنسانية في كل حالاتها . ولا ريب فهي تربية للإنسان كله جسمه وعقله ، روحه ووجدانه ، خُلقه وسلوكه ، سرائه وضرائه ، شدته ورخائه ، أي أنها تشمل كل الجوانب الشخصية دون قهرٍ أو كبتٍ أو فوضى أو تسيبٍ أو إفراطٍ أو تفريطٍ .

ولذلك جاءت شخصية الإنسان المسلم متوازنةً سويةً متكاملة ، لا يطغى فيها جانبٌ على آخر ، أو يُهمل جانبٌ على حساب الجانب الآخر . و هو ما نلمسه في هذه السنن التي إلى جانب كونها من المظاهر الدنيوية فهي عبادة يثاب عليها المرء ، وتُكسبه الأجر والثواب متى قصد بها وجه الله سبحانه وتعالى ، والاقتداء بهدي النبوة . وفي ذلك ربطٌ وثيقٌ بين الهدفين الديني والدنيوي للتربية الإسلامية . كما أن ذلك كفيلٌ بتحقيق خاصية التوازن في شخصية الإنسان المسلم حينما نرى أن التزامه بهذه السنن يجعل الجسم يحظى بحقه من العناية والرعاية والاهتمام فيما يخص المظهر الخارجي والشكل العام اللائق المقبول . فيدل ذلك على أن الإنسان المسلم ينعُم بعقلٍ راجحٍ ، وتفكير سديد، ومدارك واسعة ، وفهم عميق لحقائق الأشياء وجوهرها . الأمر الذي يدفعه من ثم إلى السمو الروحي والرفعة الإنسانية والتعالي عن سفاسف الأمور وصغائرها وحطامها المادي الحقير .   

         كما أن تمسك المسلم بهذه السُنن يؤدي إلى ما يُسمى بالقبول الاجتماعي للفرد . حين يقترب منه الناس ويطمئنون إليه ويعاملونه بكل حُبٍ وتقديرٍ واحترام ؛ لأنه يفرض ذلك عليهم بحسن مظهره وحسن تدبيره . لذلك كله نقول ونؤكد أن دين الإسلام هو الدين الوحيد القادر على ربط الإنسان بخالقه ، وإصلاح حاله في كل زمان ومكان حينما يمشي على الأرض بجسمه، ويتوجه بروحه إلى السماء ليستمد منها أنوار الهداية والمعرفة ؛ فيُحَكِّم عقله فيها ، ويختار منها ما يناسب حاله ، ويوافق قدراته ، ويلبي حاجاته ، فتسير حياته وفق منهج شرعيٍ مستقيمٍ ، وهدي تربويٍ قويم  .

= سُنن الفطرة دليل تكريم الله للإنسان المسلم :
      لمّا كان الدين الإسلامي هو المنهج الرباني المتكامل والمناسب للفطرة الإنسانية ، لأنه جاء من عند الخالق سبحانه وتعالى لصياغة شخصية الإنسان صياغةً متوازنةً متكاملة ، لا ترفعه إلى مقام الإلوهية ، ولا تهبط به إلى درك الحيوانيةٍ أو البهيميةٍ ، وإنما لتجعل منه خير أُنموذجٍ  على الأرض ؛ فقد خصه سبحانه وتعالى بتكريمٍ يليقُ به لكونه مُستخلفاً في الأرض ليعمُرها وينشر منهج الله بين ربوعها ويقيم شريعته فيها. ثم لأنه سبحانه وتعالى خلقه في أحسن تقويمٍ فكرَّمه بالصورة الحسنة والمظهر الجميل ، فكانت سنن الفطرة عاملاً مهماً في إبراز هذا الجمال والمحافظة عليه . وليس هذا فحسب بل إن الله كرَّم الإنسان بأن نفخ فيه من روحه وهو ما يُشير إليه قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } ( سورة الحجر : الآيتان 28 – 29 ) .  فكان ذلك زيادةً في تكريمه ، وتمييزاً له عن سائر المخلوقات الأُخرى ، إضافةً إلى ما خصه الله به من نعمة العقل العظيمة ؛ فكان للجانب العقلي انعكاسٌ واضحٌ وجليٌ على جميع سلوكياته وتصرفاته بصورةٍ تجعله يُحَكِّم ذلك العقل في كلُ شأنه ، لاسيما وأن ذلك العقل يُعدُ مناطَ التكريم الإلهي للإنسان  .

        ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن في هذه الخصال والسنن النبوية نمطاً تربوياً إسلامياً يتناسب مع مسئوليات مهمة الاستخلاف في الأرض وما يترتب عليها من وظائف تعمير الكون ،  وهي أمرٌ يتميزُ به الإنسان ، وفُضل به عن غيره من الكائنات الحية الأخرى لقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ( سورة الإسراء : الآية رقم 70 ) . ففي قص الأظافر مثلاً تمييزٌ للإنسان عن غيره من الكائنات ذات المخالب من كواسر وقوارض ونحوها .  وفي حلق الشعر وقصه ونتفه تمييزٌ له عن غيره من المخلوقات ذات الشعور المرسلة والمسدلة على أجسادها بلا ترتيبٍ  ولا انتظام . وفي السواك والمضمضة تمييز ٌله عن غيره من الكائنات التي لا تُنظف أفواهها ، ولا تعتني بنظافة أسنانها.. وهكذا في كل سنةٍ من هذه السُنن التي لا شك أن في مُحافظة الإنسان المسلم عليها رفعاً لمستواه وتكريماً لإنسانيته ؛ فكان عليه أن يحترم هذه المكانة التي أكرمه الله تعالى بها ،  وأن يحرص على ألاّ يهبط بنفسه عن مستواها الإنساني الرفيع الذي خصها الله به عمن سواها.

         والخُلاصة ، أن سنن الفطرة دليلٌ على تكريم الخالق سبحانه وتعالى للإنسان المسلم لأمرين :
أحدهما / أن تكريم الله سبحانه للإنسان نابعٌ في الأصل من كون هذا الإنسان يحمل منهج الله تعالى في الأرض . 
والثاني / أن من السُنة الاقتداء برسول الله ض ،  وهذا يحصلُ للمسلم متى حافظ على سُنن الفطرة وخصالها امتثالاً وإتباعاً  .
 
= سُنن الفطرة والاستقامة الإيمانية :
من المسلمات التي يتفق عليها الجميع أن التربية الإسلامية تسعى إلى تحقيق هدفٍ أسمى ، و غايةٍ عظمى تتمثل في تحقيق معنى استقامة النفس البشرية على نهج الإيمان الواضح الصحيح الذي لا تشوبه شائبة ، وذلك أمرٌ لا يُمكن تحقيقه إلا بممارسة شرائع الإسلام وإتباع تعاليمه ، والانقياد لأوامره والابتعاد عن نواهيه . فالاستقامة إذاً مرحلةٌ تأتي بعد الإيمان ؛ لأنها أثرٌ من آثاره ونتيجةٌ من نتائجه . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا  } (  سورة فصلت : من الآية 30 ) .
وروي عن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال : قلت : يا رسول الله ! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك . قال ض : " قل آمنتُ بالله ، ثم استقم " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 159 ،  ص 39 ) .  والمعنى أن الاستقامة تتمثل -كما أشار إلى ذلك أحد الباحثين - في " سلوك المسلم في حياته وجميع أحواله وفق تعاليم القرآن الكريم والسُنة النبوية " ( عيد بن حجيج الفايدي ، 1424هـ ، ص 267 ) .

فهذه الاستقامة الإيمانية المنشودة لا تتحقق إلا بالفقه والعلم الشرعي ومعرفة أمور الدين معرفةً صحيحةً ، والإحاطة بتعاليمه وتوجيهاته وتطبيقها في واقع الحياة ليُصبح الإنسان المسلم بذلك قدوةً صالحةً وأسوةً حسنةً . ثم لأنه متى استقام قلب المسلم على معرفة الله سبحانه ، وعلى خشيته وتقواه في كل لحظةٍ ،  وفي كل صغيرةٍ وكبيرةٍ ؛ استقامت جوارحه كلها على الطاعة والامتثال . وهذا يؤهل من قام به والتزامه ليكون من حملة الرسالة الخالدة الذين قال الله سبحانه فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ( سورة فصلت : الآية رقم 30 ) .  

من هنا يمكن القول : إن من ثمرات التزام المسلم بسُنن الفطرة ما تحققه هذه السُنن من ملامح الاستقامة الإيمانية عنده حينما يُطبقها بشكلٍ مناسبٍ ومقبولٍ يعتمد في المقام الأول على الاعتدال والاتزان ، والإتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم دونما إفراطٍ أو تفريط . إضافةً إلى تربية المسلم من خلالها على استمرارية المحافظة على هذه السنن المباركة والخصال الحميدة ؛ لما فيها من خيرٍ للفرد ،  وصلاحٍ للمجتمع .

وختاماً / أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لصالح القول ، وجميل العمل ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
صالح أبوعرَّاد
  • كتب وبحوث
  • رسائل دعوية
  • مقالات تربوية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية