صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







محاضرة ( بيان الحق ونصرته )

الشيخ صالح بن محمد الأسمري

 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن للحق لساناً ينطق به دعاة الخير ، إلا أن هناك لذلك النطق أحكاماً ، ولبيان الحق آداباً ، ولابد من معرفة تلك الآداب والأحكام لكل ناطقٍ بالحقِّ أو ناصرٍ له ، ولذا فقد ألقى فضيلة الشيخ الفقيه : صالح بن محمد الأسمري – حفظه الله ومتّع به – محاضرة في هذا الموضوع بعنوان ( بيان الحق ونصرته ) .
ونظراً لأهميتها ، وشدة الحاجة إليها ، فهذا تلخيص وتهذيب لجملة ما اشتملت عليه من قواعد وآداب ، والله نسأل أن يَعُمَّ بنفعها الجميع .
* أهمية تدارس هذا الموضوع .
تأتي أهمية تدارس هذا الموضوع لعلتين :
العلة الأولى : الجهل بتلك الأحكام والآداب .
العلة الثانية : ما يصدر من بعض من يبين الحق من استكبار أو غرور أو سوء خلق .

* مقدمتان مهمتان :
ولا بد قبل الشروع في الموضوع من ذكر مقدمتين مهمتين :
المقدمة الأولى : معنى كلمة ( الحق ) ، إذ الحق يضاد الباطل ، كما أن الهدى نقيضه الضلال ، ولذا قال الله سبحانه وتعالى : {فماذا بعد الحق إلا الضلال }. وقال : {ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل }. فليس بين الحق والباطل منـزلة ثالثة في الأمور القطعية ، ومن أهمها : مسائل الاعتقاد كما قال العلماء .
وقد استعمل جماعات من الأئمة كلمة ( الحق ) بمعنى الإصابة للصواب ، ولو كان في مسألة فروعية ، وهو استعمال قليل .
والمراد من ( الحق ) هنا شيئان :
أولهما : مسائل الشريعة بياناً ونصرةً ، جملةً وتفصيلاً.
والثاني : نصرة الخير ، ودفع الضير على اختلاف صوره.

المقدمة الثانية : ذِكر مسألتين كُبْريين تتعلقان بنصرة الحق :
• الأولى : مسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
• الثانية : مسألة العلم والتعليم ، وبيان ذلك تدريساً وتربيةً وما يتبعه؛ ذلك أن الأحاديث قد تتابعت في التعلم وتبليغ العلم ، ومن ذلك : ما جاء في "صحيح البخاري" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – وفيه : قال النبي صلى الله عليه وسلم )): بلغوا عني ولو آية )) ، وقوله : (( ولو آية )) يدخل فيه أيُّ شيء ولو قلَّ .

أحكام نصرة الحق :
ولنصرة الحقِّ ثلاثة أحكام مجملة مشهورة :
• الحكم الأول : حكم اتباع الحق . وهو واجب في الجملة ، و رَدُّه محرَّمٌ ولا يجوز ، وهو من كبائر الذنوب على ما قرره أهل العلم ، ومن أولئك :ابن حجر الهيتمي يرحمه الله في (( الزواجر)) ، وكذا الحافظ ابن حجر في (( فتح الباري )). ومن أدلة ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكِبْر من بَطِرَ الحق ( أي : من دفعه ورده عُجْباً واستكباراً ) ، وغَمَطَ الناس ( أي : احتقر الناس وازدراهم ) " .
( تنبيه ) :
ومن كان على خطأ ثم استبان له الحق فيجب عليه الرجوع إلى الحق في الواجبات ، ويستحب فيما هو صالح لهذا الحكم من المسائل ، إلا أن الأصل الوجوب كحكم مجمل ، وعلى هذا من الأئمة العمل . وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( ومن جاءك بالحق ؛ فاقبل منه ولو كان بعيداً ، ومن أتاك بباطل ؛ فاردده وإن كان حبيباً قريباً )).

• الحكم الثاني : حكم بيان الحق وإيضاحه للخلق ، وهذا له جهتان من حيث الحكم الشرعي عند الفقهاء:
- الجهة الأولى : حكمه من حيث ذاته دون النظر إلى الاعتبارات العارضة وأحوال المخاطَبين وما إليه ؛ فهذا له حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث الأصل ، وأصل ذلك : أنه فرض كفاية في الجميع . ومن الأدلة على ذلك قول الله عز وجل : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ، وفرض الكفاية إذا لم يقم به أحد من الأمة : أَثِم الجميع ، وإن قام به الكفاية فهو مستحبٌ في حق الأفراد ، وورد في الحث على ذلك أدلة ، ومنها حديث : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال :" إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير " .
(تنبيه) :
والمقصود بالعابد هنا : من عنده العلم العيني فيما لزمه ثم جرَّد نفسه للعبادة كما قال مُلا علي القاري رحمه الله في :"مرقاة المفاتيح" ، وأما من لم يعرف ما يجب عليه من أحكام ، كشروط الصلاة وأركانها ونحو ذلك فليس داخلاً هنا .
- الجهة الثانية: حكمه عند مجيء العوارض المتعلقة ، أو أحوال الشخص المبينِ للحق ، فهذه تأتي على أحكام ، والأصل في ذلك الوجوب ؛ إذ إن بيان الحق للخلق واجب على الإنسان ، لكن بشرطين :
- الشرط الأول : ألا يكون ثمة غيره يبينه.
- الشرط الثاني: أن يكون قادراً على ذلك.
- ويتبع ذينك الشيئين : أن يكون متعلقاً بما هو واجب من واجبات الدين ، أو محرم يحرم الأخذ به ، أو كبيرة من الكبائر التي لابد أن ينهى عنها المسلم .
- وقد قرر تلك القيود جماعات من الأئمة ، وهي مقررة في كتب المذاهب المتبوعة في آخر كتاب الجهاد أو أثنائه ، وذكرها جماعات كابن مفلح الحنبلي يرحمه الله في (( الآداب الشرعية )) .
أدلة وجوب بيان الحق .
ويدل على وجوب بيان الحق للخلق أدلة ، ومن ذلك : قول الله عَزَّ وجَلَّ :{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }. يقول الإمام القرطبي يرحمه الله مبيناً دِلالة الآية على المقصود :" أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى أنه ملعون" ا.هـ.
ومن الأخبار في ذلك : ما جاء عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم في " مستدركه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم )):من سُئِلَ عن علم فكتمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار )).
تنابيه تتعلق بحكم بيان الحق :

ويتعلق بما سبق تنابيه مهمة :
- الأول : تبليغ الشريعة من أحاديث وأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، و ما يتصل بها بلاغاً : داخل في الوجوب العيني على المشهور عند الأئمة. ومما يدل على ذلك : ما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : (( لو وضعتم الصَّمْصَامَة ( اسم للسيف الذي لا ينثني ) على هذه ( وأشار إلى قفاه ) ثم ظننت أني أُنْفِذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُنْجزوا عليّ لأنفذتها )) .
- الثاني : وجوب بيان الحق على أهل العلم له شرط ، وهو أهلية المخَاطَب ، فلا يجب بيانه لغيره ، وهذا مشهور عند الفقهاء وأهل العلم ، وقد ذكر ابن شاكر في (( الباعث الحثيث )) أنه سئل بعض العلماء عن شيء من العلم ، فلم يُجب . فقال السائل : أما سمعت الحديث : ( من علم علماً فكتم ؛ ألجم بلجام من نار ) ؟ فقال : اترك اللجام واذهب ، فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمني به ) كذا قال ، وهذا عليه الفقهاء .
- الثالث: إذا ترتب على بيان الحق ضرر على المرء بيقين أو بغلبة ظن سواء أكان الضرر على نفسٍ أو على مالٍ (ويدخل في ذلك الوظيفة)أو على عرض لزوجة أو بنت ونحو ذلك فلا يجب عليه بيان الحق . وقد نص على الغالبية للظن ( واليقين من باب أولى ) في ذلك الأئمة ، ومن أولئك الغزّالي في (( الإحياء )) ، ونقله عنه جماعة مقرين له ، وكذلك ابن مفلح في (( الآداب الشرعية )) ، لكن يُستدفع ذلك بأنواع وآلات ووسائل من البيان .
- الرابع : إذا ترتب على البيان للحق ضرر على الأمة مثله يراعى في تأخير البيان ، وتُؤُكد من وقوعه يقيناً أو بغلبة ظن ، فإنه يحجم عن بيان الحق حينئذ .
- الخامس : قد يكون حُكم بيان الحق مكروهاً ، وهذا في مَضَايق من المواضع ، ومن ذلك : أن يُظن وقوع ضرر على الغير من الناس ظناً متردداً فيه دون ترجيح لأحد طرفيه ، وهذا هو الذي يفهم من تقرير الفقهاء لقاعدة ( إذا ظُن وقوع الضرر كُرِه)، وهي قاعدة نص عليها : الشافعية والحنابلة والجماهير من الفقهاء .

• الحكم الثالث : حكم نصرة الحق . ونُصرة الحق هي : أن يكون المرء واقفاً مع مُبَيِّنِهِ ، قائماً بواجب الإيناس والدفع به نحو الأمام ، وهي واجبة إذا كان نشر الحق واجباً ؛ ولكن بالشروط السابقة ، ويُضاف إليها : ألا يستطاع إيصال الحق إلى الخلق إلا بنصير، ولذا ندب النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى نصرته ؛ لأن نصرته كانت واجبة . كذا قال الغزَّالي وابن مفلح – رحمهما الله - .

* آداب بيان الحق ونصرته :
ولنصرة الحق آداب ، وعلى رأس ذلك أربعة آداب مشهورة :
-
الأدب الأول : الرفق بالخلق عند بيان الحق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف )) أخرجه مسلم . لكن قد يدعو داعي البيان للحق والنصرة له في تقوية الحق بكلام شديد ، كما وقع من بعض الأئمة عند نصرهم للعقيدة الحقة ، لكن بقدر الاحتياج ، ويُقَدِّر ذلك العالم في وقته.
- الأدب الثاني : الصبر ، وهو : حبس الإنسان نفسه على الثبات على الحق بياناً ونصرة ، مع تحمّل الأذى ، فإنه لابد أن يلقى الأ لاقي ، وأن يؤذى بأنواع من المآذي . قال الله تعالى : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } ، وقال عمير بن حبيب رحمه الله : " إن سِلْوانَ المرء عند الأذى أن يدَّكِرَ الثواب " .
- الأدب الثالث : الحكمة ، والحكمة في أصلها : وضع الشيء في مواضعه . { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } ، وعليه فينبغي أن يكون المرء حكيماً في نشر الحق ، فيعرف ما الذي يخرجه في أوقاته ، وما الذي يؤخره ، وله أن يُقسِّط الحق على أوقات وعلى أماكن وعلى أحوال ؛ حتى يوصل ما يريد .
- الأدب الرابع : المداراة للناس ، بعيداً عن المداهنة ، فإن المداراة من حيث الأصل هي : الدفع برفق ، كما قاله الحافظ ابن حجر في (( فتح الباري )) ، فيدفع المرء مضرةً ومشكلة بمداراة لأهلها ، سواء أكان موقفاً أم كلمة أم عبارة أم غير ذلك .
واستعمال المداراة قد يجنب المرء أخطاراً وأضراراً ، كبطش ذي سلطان أو صاحب شوكة ، والأصل في المداراة : أنها سلوك حسن في الشرع ، وعند العقلاء ، وقد قامت عليه الدلائل ، ومن ذلك ما خرّجه ابن حبان في (( صحيحه )) قال ابن مفلح : في (( الآداب الشرعية )) : (حديث حسن ) ، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( مداراة الناس صدقة )) .
وقال الحسن البصري يرحمه الله : ( كانوا يقولون : المداراة نصف العقل ، وأنا أقول : هي العقل كلُّه )) .
ومن المداراة : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لمّا عطّل واجباً على المشهور ، وهو : بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، فإنه في الأصل كان واجباً ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دارى الناس بعدم فعل ذلك ؛ حتى لا تقع فتنة أعظم ، وضرر أكبر فيرتدّ أناس من حدثاء عهد بإسلام . وهذا يصلح أن يُدخل في أصل المداراة على ما سبق من معنى.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
صالح الأسمري
  • زاوية الفتاوى
  • زاوية المقالات
  • زاوية المحاضرات
  • زاوية الكتب
  • الصفحة الرئيسية