صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







محاضرة ( كلمة التوحيد .. مبنى ومعنى )

الشيخ صالح بن محمد الأسمري

 
[ مقدمة ]
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه أما بعد :
فإن لكلمة التوحيد منزلة عظيمة ، ومكانة جليلة ؛ إذ هي مفتاح الجنة كما جاء في الحديث عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم ، إلا أن كثيرين من الناس في زماننا هذا جهلوا أشياء تتعلق بمبناها ، وما دَرَوا ما يحويه معناها ، فما كان من فضيلة الشيخ الفقيه صالح بن محمد بن حسن الأسمري ـ حفظه المولى ورعاه ، ومن كل مكروه وقاه ـ إلا أن ألقى محاضرة مباركة في ذلك ؛ سداً للثغر ، وبياناً للحق ، ونفعاً للخلق .
ولعِظَمِ ما احتوته من فوائد مهمة تعين تلخيصها ، ومن ثمَّ نشرها في هذه الصفحة المباركة ، ونسأل الله الكريم أن يعمَّ بنفعها الجميع .

[ أهمية كلمة التوحيد ]
لكلمة التوحيد أهمية عظيمة ، وبتقريرها جاءت الرسل ؛ إذ بها يعتق الإنسان من النار ويكون مآله إلى الجنة بإذن الله تعالى ، ولذا فقد "صحيح مسلم": [أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع منادياً يؤذن، فقال: أشهد ألا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم : خَرَجَ من النار] ، وفي حديث الشفاعة، قال الله عزَّ وجلَّ كما في "الصحيحين": (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي ، لأُخْرجنَّ منها -أي النار- ، من قال لا إله إلا الله).

[ العناية بشأنها ]
وقد صرح الأئمة ـ يرحمهم الله ـ بتعيُّن الاعتناء بها مبنى ومعنى ، وأن الاتصاف بمضمونها من الواجبات العُمُرية ، كما صرح بذلك الإمام عليٌّ القاري - رحمه الله – في كتابه "التجريد في إعراب كلمة التوحيد" .

[ الكلام حول مبنى كلمة التوحيد ]
- أما مبنى لا إله إلا الله، فإنه يبحث من جهتين عادةً :
• الجهة الأولى: تتعلق بنطق ( لا إله إلا الله ) ، ولها مخرج وأداء.
أما المخرج : فلا بد أن يخرج الحرف عند النطق به من مخرجه العربي المعروف .
وأما الأداء : فهو أن تؤدَّ على وجهها بِمَدَّة وشَدَّة وغير ذلك .
فمن نطق لا إله إلا الله ، فأتى بأحرفها على غير وجهها لم ينتفع بذاك، وكذا من أدّاها على غير وجهها .

[ التنبيه إلى جملة أمور تتعلق بالمبنى ]
و ينبه هنا على أمور تتعلق بذلك :
ـ الأمر الأول : أن الألف في ( لا ) لا بد أن تمدَّ عند اللفظ بها بمقدار أقله حركتان ، وما دون ذلك إخلالٌ ، وللمرء أن يطيل فوق ذلك إلى أربع و إلى ست ، بمقدار عقدة الإصبع ومدها على وجه طَبَعِيٍّ ، كما قرره أهل التجويد والإقراء ، وكذا أهل علم الأصوات ، وممن قرر ذلك : ابن عرفة الدسوقي – رحمه الله - .
ـ الأمر الثاني : أن الهمزة في كلمة ( إله) همزة قطع ، فلا بد من إظهارها، ولا يصح إبدالها ياء ، كمن يقول : (لا يلاه) فإنه لم ينطق بالكلمة نطقاً صحيحاً ، ولا تحقق نفعها وثمرتها المرجوة منها في جملة أحكامها الشرعية ، كذا الأصل.
وممن قرر ذلك ابن عرفة الدسوقي ـ يرحمه الله ـ ، وقال السَّكْتَانِيُّ ـ يرحمه الله ـ : وهو لحن فاحش يغير المعنى .
ـ الأمر الثالث : لا بد من الإفصاح عن الهمزة في كلمة ( إلا ) مع تشديد اللام بعدها ، فلا يصح قلبها ياءً ( لا يلاه إلاَ الله ) وهو لحن ، وممن أشار إلى ذلك الإمام السنوسي – يرحمه الله – ، وقال الدسوقي ـ يرحمه الله ـ : ( وهذا لحن فاحش أيضاً ؛ لأنه يغير المعنى ) .
ـ الأمر الرابع : لا بد من تفخيم اللام في لفظ الجلالة ( الله ) ، فلا يصح ترقيقها، وينبغي أن لا يطيل مدّة ( الله ) عند النطق بها ، فلا يقولنّ : (الل‍~‍ه ) كذا الأصل . مع أنّ جماعة من الأئمة استحسنوا المَدَّة فيها ؛ لأنه يدل على شيئين :
الأول : أن المرء مشتغل بذهنه في إيراد النفي مَوْرِده ، والإثبات محله ، فهو عندما يقول ( لا إله ) يتذكر جميع المفردات التي يُنسب إليها أنها معبودةٌ بحق ؛ لينفيها ، وكذا عندما يقول (إلا الله) فينشغل ذهنه بالإثبات .
والثاني : أن في هذه المدة نوع تعظيم ، فهو يأتي بِمَدةٍ مُسْتَشْعراً فيها عظمة الله عز وجل .
وممن ذكر ذلك الإمام الهِبْطِيُّ الكبير في كتابه ( كنز السعادة في بيان ما يحتاج إليه من نطق بكلمة الشهادة ) .
إلا أن الأصل أن يأخذ الحرف مأخذه من الإخراج والصفة على المقنن في علم اللغة وعند المجودين ، ولكن لو وقعت المدة على وفق ما حكي آنفاً ، فإن ذلك متسامح فيه ، وله وجهه .
• الجهة الثانية : تتعلق بـإعراب ( لا إله إلا الله ) ، والمراد نسبة الأحكام النحوية إليها ، سواء أكان إعراباً أم بناءً .
وإعراب لا إله إلا الله فيه أمور ينبه إليها :
أولها :
( لا ) نافية للجنس ، وهي حرف مبني على السكون ، وعلى هذا إجماع النحويين ، حكى ذلك جماعة ، ومن أولئك : ابن السَّمِين الحلبي – يرحمه الله – في " الدر النضيد " .
وثانيها:
( إله ) لفظ مبني على الفتح على المشهور ؛ لتضمنه معنى ( مِن ) التي للتنصيص على العموم ،والتقدير : أن ( لا إله إلا الله ) هي في الأصل جواب لسؤال تقديره : هل من إله غير الله ؟ فيكون التقدير : لا مِنْ إله إلا الله .
ولما تضمن اسم الإله معنى ( مِن) حذفت (مِن ) ولم تذكر مع نيتها هنا ، ولذا كان البناء على الفتح فيه ، فدل على ما حذف في الجملة .
وخبر ( إله ) مقدّر بأشياء ، اشتهر عند النحاة تقديره بقولهم : لا إله كائن في الوجود ، أو لا إله موجود في عالم الوجود ، والنحاة عند تقديرهم هنا ينشغلون بالصنعة النحوية عن التقرير الشرعي ، فيقدرون أيَّ خبرٍ يصلح تقديره في (علم النحو والإعراب) .
وإلا فتقرير الكلمة الشرعي: إدخال استحقاق العبادة فقط ، فيكون التقدير : لا إله يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى . وممن ذكر التقرير الشرعيَّ : السيوطيُّ – يرحمه الله – في " الإتقان في علوم القرآن" ، وقال : ( قد توجب الصناعة النحوية التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه في التقرير ،وإنما يقدّر النحوي ليعطي القواعد حقها ،وإن كان المعنى مفهوماً ) كذا قال ، وعليه فإن كثيرين من الأئمة عند إعرابهم لهذه اللفظة في كتب التفسير أو النحو ينصرفون عن التقرير الشرعي لمفهوم الكلمة ومعناها ، والمرء وهو في صدد تقرير علم ما ينشغل به عن غيره ، ولا يأخذ في تقرير سواه عادة .
ولذا لم ينكر جمع كثير من الأئمة على النحاة هذا التقدير ؛ لأنه ليس محلّه .
وذهب أئمة كثيرون إلى أنه لا يجوز ذلك مطلقاً ، لا في الصنعة النحوية ، ولا في غيرها ، وممن قرر ذلك الشيخ : سليمان بن عبد الله آل الشيخ – رحمه الله – في كتابه " تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد " ، وذكر أن هذا التقدير فاسد في الأصل ، والتقدير الحق شرعاً في المسألة هو ما سبق ، وهذا معلوم قطعاً من الدين ، وعليه الإجماع دون خلاف بين الأئمة والفقهاء ، ولا يخالف في ذلك الأشعري أو الماتوريدي ولا المعتزلي ولا الرافضي فكلهم يقولون : إن المستحق للعبادة أصالة هو الرب سبحانه وتعالى وحده دون غيره .
وعليه فلا يجوز شرعاً أن يكون الخبر هو ( كائن في الوجود أو ممكن في الوجود أو نحوها ) ؛ لأن تقدير الإمكان تجويز لوقوع الممكن ، وتجويز وقوع الممكن كوقوعه ، فكونك تقدّر جواز وقوع استحقاق غير الله بالعبادة ، كقولك إن هناك موجوداً مع الله يستحق العبادة وهذا باطل ، وكذلك إذا قلت إن غير الله موجودٌ ، يستحق العبادة ، فإن هذا باطل أيضاً . وأشار السيوطي وجماعة إلى ذلك .
وممن قرره الإمام الرازي في "تفسيره" ، وقال :" بل يكون الخبر هو قولنا في نفس الأمر" أي : أن الله مستحق للعبادة دون غيره في نفس الأمر ، أي : ليس هناك آخر ممكن أن يستحق بل في نفس الأمر حقيقة لا وجود لشيء يستحق العبادة لا إمكاناً ولا وجوداً إلا الله سبحانه وتعالى .
وإذا نفينا وجود من يستحق العبادة مع الله وإمكان وجوده في نفس الأمر فإنه لا يعنينا بعد ذلك ما وقع من الكفار في جعلهم مناة تستحق العبادة مع الله أو جعلهم غيرها من الآلهة مستحقة للعبادة مع الله ، ففرق بين نفس الأمر وبين دعوى الغير ، فإنّها تكون باطلة مردودة عليه .
وثالثها :
أن جملة ( إلا الله ) هي على البدلية ، وهو المشهور الجاري على ألسنة المعربين ، وهو رأي ابن مالك وجماعات من المحققين من المتأخرين من النحاة ، والأقرب أنه بدل عن الضمير الذي قُدّر في الخبر الذي سبق ؛ لأن الضمير المقدر في الخبر هو أقرب شيءٍ إليه .
وقيل : بل لفظ الجلالة هنا مرفوع للخبرية ، فتكون في محل رفع ابتداء ، وهذه خبر عنها ، فيكون إعراباً صِرْفاً .
ـ أما معنى ( لا إله إلا الله ) :-
وهو الأهم من حيث الاستفادة الحقيقة من الكلمة ، وقد نصّ العلماء على أنه لابد من فهم معناها ، وإلا لم ينتفع بها صاحبها في الإنقاذ من الخلود في النار .
ومعنى ( لا إله إلا الله ) يُتَنَاول من جهتين :
• الجهة الأولى : جهة تتعلق بالوجوب لعامة المكلفين ، وهو أن يعلم النفي والإثبات الذي ضُمِّن كلمة التوحيد ، وهو نفي استحقاق العبادة عن غير الله عز وجل في نفس الأمر ، وحصره فيه سبحانه وتعالى ، ولا يجب عليه معرفة دقائقها ، وإعرابها ، ومفهوم كل لفظة عند اللغويين .
وقد قرر ذلك : الإمام الهِبْطي الكبير في " كنـز السعادة " وحكى الاتفاق عليه ، وكذا جماعات كثيرون كالقرافي – يرحمه الله – في شرحه على الأصول ، والموفق ابن قدامة –يرحمه الله- في "المغني" ، وابن عبد البر في " التمهيد" وشيخ الإسلام ابن تيميّة في " مجموع الفتاوي " وابن القيم في " مفتاح السعادة " في آخرين .
وهذا المعنى هو المفهوم العام لـ ( لا إله إلا الله ) .
• الجهة الثانية : هي الجهة العلمية الصناعية ، ومعرفتها فرض كفاية على جملة الأمة ، فلا بد أن يعرفها الخاصَّة ممن عندهم الأهلية ، وقد قرر ذلك الحكم على القاعدة المعروفة في ذلك جماعة ، ومن أولئك ابن عبد البر في " الاستذكار" و"التمهيد " ، وكذا الموفق ابن قدامة في " المغني " في آخرين .
وعليه فإن لـ( لا إله إلا الله ) معنى تقوم على شيئين :
الشيء الأول : النفي ، وهو جزئها الأول نطقاً ، وهو ( لا إله ) : وهذا النفي يقوم على ثلاثة أركان ، إذا سقط ركن منها اختلَّ توحيد المرء في النفي .

[ أركان النفي ]
الركن الأول : معنى ( الإله ) ، إذ إنه بمعنى الإله ( أَله يَأله إلهةً ) المعبود بحق ، حيث قرر ذلك اللغويون كالزَّجَّاج وجماعة .
وعليه فما سواه من المعاني باطل ، كالموجود أو القادر على الاختراع ، ولا ينتفع الإنسان بلا إله إلا الله إذا جعلها على معنىً باطل .
ودلل الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ في " تيسير العزيز الحميد " في نفي المعنى الباطل بدلالتين :
الأولى : أنه لا يعرفه أحد من علماء الشريعة وأئمة اللغة الذين يعَوّل عليهم .
والثانية : أن القادر على الاختراع والخالق هو لازم للإله الحق ؛ فإنه القديم ( الذي لم يسبق بعدم ) ، وهو المخترع للأشياء القادر عليها .
الركن الثاني : العموم في النفي ، بحيث يكون مستغرفاً لجميع معناه الكلي ، والمعنى الكلي الاستغراقي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشَّرِكة فيه ، كذا عرّفه أهل الصناعة .
وعليه فإن قولك : ( لا إله ) : هو نفي يشمل كلَّ مُفْرَدَةٍ تدخل في ذلك المعنى الكلي وهو استحقاق العبادة ، فلا بد أن يكون النفي واقعاً هذا الموقع ، وإذا قَصَرْت النفي على جزء من مفردات هذا المعنى الكلي الذي نَفَيْتَ فيه فإنه لا يكون نفياً صحيحاً ، ولا يكون نفي توحيد الذي هو مفهوم كلمة ( لا إله إلا الله ) شرعاً .
الركن الثالث : نية الاستثناء في الذهن لله عز وجل عند النفي مع العموم فيه ، ومن أطلق دون استثناء فإنه يكفر ، ولذلك قيل : ( كم من ناطق كلمة التوحيد كفر بطرفها الأول ) ؛ لأنه لم يستحضر استثناء الله عز وجل عند نفيه ، ومعلوم ( أن ورود الكفر على الذهن مع إقرار لحظة ، كوروده على الجوارح وإقراره ولو لحظة ) ، فيكون الكفر سيان هنا وهناك ، ولذلك قيل : ( لا إله نفيٌ مقدّم نطقاً في لا إله إلا الله و إلا الله إثباتٌ مقدم حقيقة ) .

[ تنبيهات مهمات ]
وعليه ينبه إلى أمرين :
أولها : أن من الخطأ ما يظنه بعضٌ من أن النفي متعلق بالمعبودات الباطلة ، ولا ريب أنها جميعاً ليست مستحقة للعبادة في نفس الأمر ، فكونه يزيل النفي عليها باطل وخطأ ، ولا يُحدث مفهوم النفي المراد في كلمة التوحيد ، وهو واقع في الإبطال من جهتين :
الأولى : جهة الشرع ، إذ إن الشرع أثبت وجود معبود مع الله لكن بباطل كمناة والعزى ، فمن قال بخلاف ذلك فقد كذب الشرع ، ومن كذب قطعي الثبوت والدلالة كفر.
الثانية : جهة الحس ؛ إذ إن الحس المشاهد يخالف ذلك ، فهناك نصارى يثلثون ، وهناك وثنيون لغير الله يعبدون ، وهكذا ،ومن نفى الحس كَذَبَ ، والأصل أن ينطق المرء بكلمة التوحيد بصدق .
وثانيها : أن إطلاق اسم ( الإله ) على الذي يعبد (ولو بباطل) : إطلاق باطل ؛ لأنها متمحضة للمعبود بحق فقط ، وعليه فلا ينفعه هذا النطق .
وثالثها : ليس المراد من النفي في الاستغراق الكلي وجود آلهة أو إله يستحق العبادة مع الله نفينا عنهم أنهم يستحقون العبادة ، ومحضنا العبادة لله ؛ إذ إن النفي الكلي قد يكون على محل لا يقبل إلا واحداً ، ومن أمثلته اتفاقاً وإجماعاً : ( الإله ) عند نفيه عن غيره سبحانه ، فكأن النفي تأكيد للإثبات حتى يتمحض الإثبات صرفاً نقياً ، كذا قال جماعة من الأئمة ، ومنهم الدماميني – يرحمه الله- في آخرين .
الشيء الثاني : الإثبات ، وهو الطرف الثاني نطقاً ، وهو المقدَّم حقيقة ، وهو إثبات كون الله عز وجل هو المستحق للعبادة دون غيره .

[ أركان الإثبات ]
وله ركنان :
الركن الأول : إثبات وجود الله سبحانه وتعالى إثباتاً حقيقياً ، فليس الإله خيالاً أو مُتَصَوَّراً في الذهن لا وجود له في الحقيقة خارج الذهن ، كمن يثبت إلهاً ليس له حقيقة يسميه بالنور .
الركن الثاني : توحُّد هذا الإله فلا يَشْرَكه في استحقاقه العبادة أحد أياً كان .

[ تنبيهان مهمان ]
وينبه هنا إلى أمرين يتعلقان بذلك :
أولهما : أن المراد بلفظة ( الله ) : الوصف العَلَمِيّ ، أي الخاص بالذات الإلهية سبحانه ، وهذا اللفظ في الأصل مشتق من ألَه يأله إلهةً ، فهو تصريف اشتقاقي لـ( ألَه ) ، فعاد إلى كلمة ( إله ) المذكورة في النفي ، من حيث الاتفاق في الاشتقاق ، ولكن فُرّق بينهما في الرسم كما هو التفريق في النطق .
ففي جملة ( لا إله إلا الله ) إشارة إلى أن المستثنى في الإثبات صفة عَلَمِيَّة لفرد واحد لا للمعنى الكلي الذي أدخل عليه النفي في لفظ ( إله ) ، فكلمة ( إله ) هي للمعنى الكلي ، وكلمة ( الله ) هي للوَصف العَلَمِي .
والثاني : أن كلمة التوحيد قضية خبرية , والقضية الخبرية عند أهل الصناعة لا بد أن تشتمل على : تصور ، وتصديق (أي على ماهية وحقيقة وعلى حكم يناط بها ).
فأما التصور فهي مركبة من أربع كلمات ، لا ، إله ، إلا ، الله .
ويُعْرفُ المعنى لكلٍ بـ (الحَدِّ) ، كذا هو المعروف عند أولي النظر .
فـ (لا) : حرف موضوع للنفي المختص بالنكرات ، ومعنى النفي العدم ، ومعنى العدم ألا يكون في العيان .
و ( إله ): اسم موضوع لمعنى المعبود بحق .
و( إلا ) : حرف موضوع للإثبات ، ومعنى الإثبات الوجود ، وهو الكون في العيان ضد النفي الذي سبق .
ولفظ الجلالة ( الله ) : هو الاسم الموضوع على ذات مولانا سبحانه وتعالى .
وأما التصديق (الذي هو الحكم) فهو نفي استحقاق غير الله للعبادة ، ويُحَصَّل هذا الحكم بالبرهان ، والبرهان بالنفي مُكَوَّنٌ من مقدمتين يقينيتين :
الأولى : أن كل فَرْد من أفراد حقيقة (الإله) غير مولانا سبحانه وتعالى ، مستحيل الوجود عقلاًَ وشرعاً .
والثانية : أن كل مستحيل الوجود عقلاً ، وكذا بالتبعة نقلاً لابد أن يكون منفياً .
وأخِذ من هاتين المقدمتين القطعيتين نتيجة وهي : أن كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا سبحانه وتعالى منفي الوجود ، فليس هناك شيء يستحق العبادة له وجود خارج الذهن ألبتة ، وليس له وجود مطلقاً .
وأما برهان الإثبات ، فهو مأخوذ من مقدمتين قطعيتين :
الأولى : أن الله واجب الوجود لذاته (لم يسبقه بعدم ولا يطرأ عليه عدم ) .
والثانية : كل واجب الوجود هو مُثْبَتٌ قطعاً .
وأُخِذ من هاتين المقدمتين القطعيتين نتيجة إثبات توحيد الله عز وجل بالوجود والاستحقاق للعبادة .

[ أحكام تتعلق بكلمة التوحيد ]
وهناك أحكام تتعلق بكلمة التوحيد :
الحكم الأول : الانتفاع بـ ( لا إله إلا الله ) ، في جملة الأحكام الشرعية الفرعية له شرطان :
الشرط الأول : النطق بها ، ولا بد أن يكون صحيحاً ، فيشمل شيئين :
أولهما : أن يكون بصوت أقله إسماع النفس ، لا في جوف ذاته دون إسماع أذنيه صوته.
والثاني : النطق بها بأحرفها من مخارجها المعروفة .
الشرط الثاني : أهلية الأداء ، بحيث يأتي بشروط الأداء الثلاثة المشهورة :
أولها : أن يكون ذا عقل .
وثانيها : أن يأتي بها على الإسلام .
وثالثها : أن يكون مختاراً ، إذ إن المكره لا يعتبر تلفظه بها .
الحكم الثاني : أن الانتفاع بها له شروط ، وقد جمعها جماعة في سبعة شروط :
أولها : العلم ، لقوله سبحانه : { فاعلم أنه لا إله إلا الله }.
وثانيها : اليقين ، وضدُّ اليقين عدمه ، ومنه الشّك والتردد ، وليس الوسواس شكاً ، بل بينهما فرق ، فالوسواس ليس حكماً ، وإنما هو حالة مرضية تجعل النفس تورد على ذاتها وذهنها موارد باطلة، وأما الشك فهو حكم نحو الشيء بالتردد وعدم رجحان طرفيه، فمن أتى عليه الوسواس فلا شيء عليه ، وقد نطق بها حقاً .
ولليقين أدلة كثيرة ، ومنها ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : [ من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة ].
وثالثها : القبول ، وضده الرفض . وفي الحديث عند الشيخين من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ...الحديث ] ، وهذا فيه دلالة على القبول تشبهاً للفؤاد بالأرض التي قبلت الماء.
ورابعها : الانقياد للكلمة ظاهراً وباطناً ،والمراد أدنى الانقياد المصحح لذلك وليس تمامه الذي يدخل في الأحكام الشرعية الفرعية ، فإن ذلك شيء زائد عن ذلك ، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ]، قال النووي في الأربعين (حديث حسن صحيح ) .
وإن كان الحديث أعل إسناده ابن رجب - يرحمه الله - بعلل ثلاث وتبعه جماعة ، لكن المعنى صحيح .
وخامسها : الصدق ، وضده الكذب ، يقول الله عز وجلَّ : { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون }.قال ابن عباس : هي لا إله إلا الله ، خرجه ابن جري الطبري في تفسيره عنه .
وسادسها : الإخلاص ، وضده الرياء والتسميع وما إلى ذلك من شوائب ، جاء في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه - أو قال: من نفسه - ].
وسابعها : المحبة لها : أي الرضا بها وُداً ، وكذا يتبع ذلك المحبة لأهلها في الجملة ، أي لأصل من أتى بها ، وهذا مقعَّد على عقيدة الولاء والبراء المعروفة ، وأدلتها متواترة قطعية مشهورة .
الحكم الثالث : أن من قال ( لا إله إلا الله ) بشروطها فإن مآله إلى الجنة قطعاً لا ظنّاً ، مالم يأت بناقض من نواقض الإسلام ، وقد عدّها بعض إلى أربعمائة ناقض ، جاء عند أحمد في المسند وأبي داود في السنن وصحّح سنده الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرّم الله عليه النار ) وقد اختلف الأئمة في التوفيق بين النصوص الموجبة لدخول الجنة والتحريم على النار مع النصوص التي جاءت في دخول أهل الكبائر في النار وما إليه ، ولهم في ذلك مذاهب ، وهناك مذهبان مشهوران مُرْتَضَيَان :
المذهب الأول : أن هذه الكلمة تنفع صاحبها بشروطها ، وترك موانعها ، فيدخل الجنة مباشرة ، وهذا هو مذهب الحسن البصري ووهب بن منبه ، وقال ابن رجب في " كلمة الإخلاص " : "هو الأظهر" ، وينبه إلى أن جنس أصحاب الكبائر لا بد أن يعاقب بعضهم قبل دخول الجنة ، وأما أعيانهم وآحادهم فقد يعفو الله عنهم بداءةً .
المذهب الثاني : هو أنها تنفع صاحبها أن يدخل الجنّة مطلقاً ، إذا كان بإيقانٍ وإخلاصٍ وصدقٍ ، لكن إن أصر على ما يخالفها كالمعاصي والكبائر فإنه يعاقب ويكون مآل الموحد إلى الجنة ، وهذا قول ذهب إليه جماعة ، واعتمده ابن قيم الجوزية – يرحمه الله – في آخرين .
الحكم الرابع : أن من أتى بكلمة التوحيد بشروط الأداء سوى الإسلام ، مع النطق الصحيح ، فإنه يدخل بذلك في الإسلام ، وأما الأخرس ونحوه فيصح إسلامه ؛ لانتفاء القدرة.
ويصح عند جماعة الفقهاء الدخول في الإسلام بالصلاة إذا نوى الدخول في الإسلام بذلك.
وكذا على قولٍ : الإقامة والأذان ، إذا أتى بها ناوياً الدخول في الإسلام .
الحكم الخامس : ما يتعلق بشهادة محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله , فإنها صنو ( لا إله إلا الله ) في الشهادة ، فيأتي الإنسان بها ولها ما لها من أصل شروط سبقن ، وتوحيد النبي محمد بالخاتمية في الرسالة : واجب مصحح للشهادة ، فهو آخر الرسل في التشريع قطعاً ، وآخرهم موتاً هو عيسى عليه السلام .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
صالح الأسمري
  • زاوية الفتاوى
  • زاوية المقالات
  • زاوية المحاضرات
  • زاوية الكتب
  • الصفحة الرئيسية