صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ثلاث بعد الاستقامــة

الشيخ صالح بن محمد الأسمري

 
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما مباركا مزيدا إلى يوم الدين .
أمــا بعـــد :
فضمن سلسلة تربوية تأتي هذه المحاضرة الطيبة المباركة إن شاء الله تعالى ، وقد عنون لها بثلاث بعد الاستقامة ، ولا شك أن الاستقامة جاء ذكرها في كتاب الله عز وجل ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله سبحانه وتعالى : { فاستقم كما أمرت } واستوفى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم فقال له : [ قل آمنت بالله ثم استقم ] إلا أن هذا المعنى الذي وضع الاستقامة معنى عميق لا يقصد به معنى ضيق جعل في عرف الناس ؛ وإنما المقصود به الاستقامة المطلقة على نهج الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا انحراف في السلوك ولا نيلة في الاعتقاد ، ولا انحراف نفسي ولا اجتماعي ولا سلوكي ولا غير ذلك ؛ وإنما السيرة مستقيمة على منهاج الإسلام لا عوج فيها ولا انحراف ، لا من بين يديها ولا من خلفها ، وهذا هو الذي كان يتمثله النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهـا عن خلته الكريمة عليه أفضل الصلاة والسلام ، قالت : ( كان خلقه القرآن ) أي أنه كان يتمثل أحكامه وكان يتمثل آدابه واقعا علنيا مشاهدا محسوسا في أقواله وفي تصرفاته وفي جميع مجالاته صلى الله عليه وسلم .
وهكذا من يريد أن يأتي بمعنى الاستقامة ينبغي أن يتمثل جميع تعاليم الإسلام ومبادئه وأخلاقياته وأسسه في واقعه كله ، في جميع مجالاته سواء أكان مجالا سياسيا, أم كان مجالا اقتصاديا, أم كان مجالا عباديا ,أم كان مجالا سلوكيا وأخلاقيا, أم كان في غير ذلك من المجالات وفي جميع الفئات التربوية والاجتماعية ينبغي أيضا أن يستقيم فيها .
ففي الفئة الأولى المسماة ببيئة( الأسرة والعائلة) ينبغي أيضا أن تنـزل أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه النواة الأولى في جميع تصرفاتها وشئونها وعلائقها بين زوجين وأبناء أو بنات وآباء أو غير ذلك ، كذلك يقال في بيئة هي أكبر كبيئة المدرسة ,أو أكبر كهيئة المجتمع, أو أكبر كبيئة دولة ، أو أكبر في غير هذه المجالات .
فينبغي أن تنـزل أحكام كتاب الله عز وجل وسنة مصطفاه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم على جميع بيئاتنا التربوية والاجتماعية وغيرها في جميع المجالات .
والاستقامة التي نريدها ، وذكرت في عنوان محاضرتنا إليكم معشر الأبرار ؛ إنما هي الاستقامة التي فيها انتقال من ضلالة إلى هداية ، ومن غواية إلى رشاد ، ومن كفر إلى إيمان وما إلى ذلك .
وهذا الإطلاق أطلقه كثير من الناس ، وأصبح عرفا معروفا بينا واضحا ، وإلا فالاستقامة لها معنى عام أعمق مدلولا مما نحن بصدده ، وقد ذكرناه آنفا .
والاستقامة بالمعنى الذي نريده وحوله يدور حديثنا إليكم ؛ إنما هو الانتقال من الضلالة إلى الهداية ، ومن الغواية إلى الرشاد ، ومن الكفر إلى الإيمان وما يتعلق بهذه المعاني الثلاثة .
يمدي الاستقامة عندما ينادى بها ، ويذكر المنهج الذي يتبعه الإنسان بعد هداية الله سبحانه وتعالى له ، كأن يكون في مجتمع منحلا كان صارخا بالكفر ليلا ونهارا ، ولكن الله عز وجل منَّ عليه فهداه ، أو أن يكون ضالا ولو في مجتمع إسلامي فهداه الله عز وجل بعد ضلالة ، أو غير ذلك من المعاني التي هي بمعنى الاستقامة التامة .
إنما كان ذلك كذلك ؛ لأن هناك قضية وعدم وضوح عند كثير من المهتدين والمستقيمين على أمر الدين لا يدري ما الذي يفعله بعد استقامته ، ولا يدري ما الذي يفعله بعد أن هداه الله عز وجل ، كثير من الناس يظن أن الاستقامة تقف عند عتبة تقصير ثوب وإطالة لحية فقط ، فإذا صح المظهر لا بد أن يصح المخبر ، ويأخذه كانعكاس أخلاقي وديني وغير ذلك ، ولا شك أن الأمر أعمق مما يتصوره كثير من الناس ، فعدم وضوح الرؤية بماهية العمل الذي سيعمله بعد استقامته ولأعماله وخطواته التي سيأتي بها في ميدان استقامته وهدايته ، كان لا بد من التكلم عن تلك الثلاث التي هي خطوات عملية في حياتك الدينية والتربوية والاجتماعية وغيرها عند استقامتك وبعدها .
ولما أهمل كثير من الناس عدم معرفتهم بالخطوات العملية المباشرة في حياته التي يحياها بعد استقامته وهدايته ، أصبح يخبط خبط عشواء ، وربما أراد أن يصلح نفسه فأفسدها ، وربما تركها على حالتها عندما وضعت أولى خطواتها في سيرها في طريق الهداية ، فلا يتعاهدها بتوجيه وتربية ونصح وإرشاد وغير ذلك من المعاني التربوية والدينية الإسلامية التي لا بد منها .
فإيضاحا لهذا المنهج, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,وتقريرا لمبادئه, وأصوله, وأسسه ؛كان حديثنا إليكم أيها الأخوة والأخوات .
والاستقامة حري أن يتكلم عنها وأن يثنى بعد بدء بالكلام عنها أيضا ، وأن يثلث وأن يؤتى عليها مرات ومرات ؛ ذلك أن الإنسان بحاجة إلى مزيد تبصير بها وإيقاظ بعد وهن يعتريه
فالإنسان وهو يسير في دنياه يصاب بالغفلة ويصاب بمرض الوهن ، وربما اعتراه ما اعتراه مما يليه عن شق طريقه قدما ، وهو قادم على ربه سبحانه وتعالى مما ينسيه أنه في هذه الدنيا يحمل زادا فوق ظهره يلقى به ربه يحاسبه عنه يسمى بالعمل .
فهل أعد لأجله عملا يكون سببا لعتقه من النيران؟! , أم أنه أوبق دنياه بالخسران بأعمال ,وأفعال, وأقوال ,وتركات وغير ذلك ؟ لا تزيده في الآخرة إلى خسارة ..!!!
ولذلك لما أتى ابن القيم "يرحمه الله" ليتلكم عن الاستقامة الذي هو بمعنى الهداية بعد الضلالة والرشاد بعد الغواية والإيمان بعد الكفر ، ذكر "يرحمه الله" : أن الإنسان في هذه الحالة هو في حالة ولادة جديدة ، كالذي ولد من بطن أمه ورحمها ، كذلك الرجل والمرأة إذا هداه الله عز وجل بعد كفر أو بعد ضلالة أو بعد غواية كالذي ولد تماما .
فنسبة ولادته الثانية كنسبة ولادته الأولى تتفتح عيناه في ولادته الأولى عن الدنيا وما فيها والمحيط الخارجي, كذلك الإنسان إذا هداه الله سبحانه وتعالى كأنه ولد ولادة جديدة ، فعيناه تبصران الأشياء بغير المفاهيم السابقة ، وتبصران الكون, والحياة, والإنسان ,وتحركاته بمفاهيم إسلامية محررة واضحة صحيحة يحكمها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فالإنسان في هذه الهداية وفي هذه الاستقامة يولد ولادة جديدة ، فهو في حاجة إلى محضن تربوي يبصره كيف يكف نفسه ؟، وبحاجة إلى خطة عمل يسير عليها حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى .

خطة العمل وبرنامجه الذي يسير عليه هي هذه الثلاث بعد الاستقامة :
أولها : التخلية .
ثانيها : التحلية .
ثالثها : الثبات .
فلا بد من المجيء بالتخلية الذي هو تخلية نفسك وروحك وأفكارك مما كنت فيه في أوقات الجاهلية ، ومفاهيم خاطئة وسلوكيات مشينة وغير ذلك .
وكذلك لا بد من التحلية ، بأن تحلي نفسك بأوامر الإسلام من واجبات, وفرائض ومستحبات, وسنن وأخلاقيات وغير ذلك ، فلا بد من التحلية أيضا كما أنه لا بد من أن يثلث بالثبات على الاستقامة إلى أن يتوفاه الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك هذه الثلاثة هي البرنامج العملي الذي يسير عليه الإنسان منذ أن وضع أولى خطواته في طريق الاستقامة ، فلا بد أن يباشر عملية التخيير ، فيتخلى عن معايبه ,وسيئاته ,والمفاهيم الخاطئة التي حملها معه في جاهلية جهلاء تاه فيها ، أو ضلالة عمياء كان في أوحالها ، أو خبط عشواء ، ولو كان يسميه الناس الرجل العادي ، ورجل الشارع ، ولكنه هو أيضا بحاجة إلى مزيد من التحلية حتى يتخلى عن جميع ما علق بشخصيته جسدا وروحا وعقلا حتى يخلي هذه النفس منه ، ويبعد هذه الأوبئة عنه ، وهو أيضا بحاجة إلى تحلية ، أن يحلي نفسه بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه بجميع المأمورات ، والتخلي عن المنهيات والتزود بالإيمان الذي عند أهل السنة والجماعة ، يزيد وينقص ، كذلك هو بحاجة إلى مثبتات تثبته على هذا الطريق حتى لا يغوى .
وليكن حديثنا عبر هذه المحاور الثلاث حتى نأتي على هذه الخطوات العملية ، وعلى هذا البرنامج العملي تبصيرا به وبيانا بنهجه .

أول هذه المحاور يتعلق بالتخلية : والتخلية إنما ينادى بها ، ويقال لكل مستقيم التزم ووضع أولى خطواته في طريق الاستقامة يجب عليك أن تتخلى عن كل سيئة وخطأ سلوكي تربوي أو عقائدي أو غير ذلك ، ما دام أنك على هذا الطريق وبدأت في أوله ، فهو أمر الله عز وجل .
أمرنا الله عز وجل أن نزكي أنفسنا : { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها }؛: أي أفلح من طهر نفسه ، والتطهير يكون بإبعاد جميع الأوبئة الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والعقائدية وغير ذلك ، وإحلال محلها مضادات لها ، وهو ما جاء في شرع الرب سبحانه وتعالى .
ثم إن التخلية ضرورة حتى يزكو ما عندك من خير حليت به نفسك ، فكل شيء وقع في النفس ( أي من الخير)، وحليت هذه النفس به بدون التخلية من الأوضار لا ينتفع به.
ولذلك يقول ابن القيم "يرحمـه الله" ويشـير إلى هذا المعنى كمـا في ( مدارج السالكين ) يقول "يرحمه الله" : ( فمتى خلصت الأبدان من الحرام وأدناس البشرية التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة ، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا ، زكت أرض الخلق فقبلت بذر العلوم والمعارف ) ، وهذا فيه تدليل واضح على أهمية تنظيف النفس ومباشرة التحلية أيضا ، وأن جميع ما تتبعه في نفسك من أفكار ومفاهيم وأخلاقيات وعبادات وعقائد وغير ذلك لا بد أن يكون هناك عملية أخرى هي عملية التحلية ، وإلا لن يترعرع الذي نميته في نفسك وغرزته في ذاتك في تعاليم تربوية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، حتى من الأخلاق والعوائد الجميلة التي تسمى بالمروءة والتزامها ، فلا بد إذا من التخلية ، ثم إن الإنسان وهو يباشر عملية التخلية ، سيتعرف على معايبه وسلوكيات خاطئة عنده ، وبعض العلاقات الاجتماعية الفاسدة والأفكار المهارات التي كان يفعلها على غير وجه استقامة, وصحة , ومطالعة العيب من السائر إلى الله عز وجل مهم جدا في إصلاحه ؛ لأنه إذا استشرف الكمال وظن بنفسه أنه بلغ المجد في النواحي التربوية والتزكوية والأخلاقية وغير ذلك ، فلا شك أن ذلك سيحدث عنده غرورا ، ويولد هذا آثار سيئة على شخصيته نفسيا ,وأخلاقيا, واجتماعيا وغير ذلك .
ومطالعة عيب النفس هو ثاني جناحي الإنسان وهو يسير إلى الله تعالى ، والجناح الآخر مطالعة النعم التي هي نازلة عليك من أعظمها ، بل أعظمها نعمة الاستقامة .
تطالع هذه النعمة ، وأن الله سبحانه وتعالى اختارك من بين سائر أهل الأرض فمنَّ عليك بهذه النعمة ، وما أعظمها من نعمة ، ثم تطالع النعم الأخرى سواء أكانت محسوسة, أم كانت معنوية بجميع أنواعها ومفرداتها ، وهذا المعنى ذكره ابن القيم "يرحمه الله" كما في ( الوابل الصيب ) في قوله : ( من أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار ، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وهوانها ، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده ) فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما ، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية "يرحمه الله" والكلام لابن القيم "يرحمه الله" : ( العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ، ومطالعة عيب النفس والعمل ) ، ثم قال "يرحمه الله" وهو يذكر آثار رؤية العيب ورؤية المنة أيضا يقول "يرحمه الله" : ( ومشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر ، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت ، وإلا يرى نفسه إلا مفلسا ) ، فمهم حينئذ أن يباشر الإنسان عملية التخلية ، وفيما تربيه له ، وفيها مكاسب أخلاقية أولية ، هو المستفيد منها كمطالعة عيب النفس ، وأن نفسه فيها من الأمراض وفيها من الأوبئة السلوكية ، وفيها من المفاسد الأخلاقية أشياء وأشياء ، فلا بد حينئذ من التخلية ، أن يخلي الإنسان جميع ما علق بنفسه روحا وعقلا وجسدا جميع المعايب والمسالب سواء تعلقت بأمر الدين ، أم تعلقت بالمروءات ، فلا بد حينئذ أن يفهم قاعدة التخلية حتى يحقق المراتب العلا التي يريدها كل عاقل وذو إرادة قوية عالية .
فالتخلية ليست ذا مجال واحد مجالها العقل فقط ، أو مجالها الروح فقط ، أو مجالها فقط أمر الديانة ؛ إنما التخلية تسير عبر المجالات كلها ، التربوية والتزكوية وتسير أيضا في الروح والعقل والجسد ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة في كل ذلك ، فكان صلى الله عليه وسلم يربي جسده وينميه ببعض الرياضات المتاحة في زمنه صلى الله عليه وسلم كرياضة مقارعة العدا ومصاولتهم بالجهاد ، وهو ذروة سنام الإسلام ، ومن أعظم العبادات التي تقرب فيها إلى الله سبحانه وتعالى ، وأعلاها بذل النفس رخيصة في سبيل الله عز وجل .
كذلك رياضة الرماية ، كذلك رياضة المسابقة بالقدم ، أو بالساقين ، وهذا كله مما يريض الجسد .
كذلك المجال العقلي سواء كان بمعرفة المعارف العامة والتجوال فيها ، ومحاولة تنظر الذهن فيها .
كذلك الحكم في المواقف الآنية والتي لها آثارها العامة والكبرى في المستقبل .
كل ذلك أيضا يتعلق بتربية العقل ، ثم تحليته – كما سيأتي في التحلية – بما أمر الله ، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم .
كذلك ينبغي أن تكون التخلية في جميع مجالاتها أيضا ، سواء كان متعلقا بالمجال السلوكي وما أكثر الأخلاق الطائشة المنحرفة التي ربى عليها الإنسان في الجاهلية ، أو ربما في أسرته ، ثم هداه الله عز وجل وانفتحت عيناه على الخير , وعلم ما كان فيه غواية هو ومن معه في البيئة الأولى وهي الأسرة ، فينبغي حينئذ أن يسعى أيضا في تطهير نفسه وتخليتها في الأوبئة الخلقية والسلوكية في جميع مجالاتها .
كذلك المجال الاجتماعي – العلاقات الاجتماعية بينه وبين جيرانه وذي رحمه والموظفين إن كان موظفا ، والأصدقاء ، ولا بد أن يصحب آخرين ، ومعلوم أن الإنسان مدني بطبعه ، اجتماعي بفطرته كما يقوله ابن القيم "يرحمه الله" في ( إغاثة اللهفان ) وهي قاعدة مقررة أيضا عند ما يتكلم في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما .
فلا بد حينئذ أن ينظر أيضا نظرة أخرى في علاقاته الاجتماعية ، كذلك ينظر في المجال النفسي ، يدخل فيه أيضا التحليل والتدليل والأفكار والمفاهيم ، وكم من مفهومية مغلوطة حملها الإنسان من ماضيه السيئ معه وقت هدايته ومضى قدما في طريق الاستقامة لا ينوي على تفتيشها والنظر فيها وتقليبها ، وهل هي صحيحة في ميزان الشرع , والعقل الصريح إن كانت من أمور الدنيا وغيرها .
فينبغي أن يعمم مبدأ التخلية وهذا هو المقصود فيما نحن بصدده أيضا .
فالإنسان في عملية التخلية التي يقوم بها لا بد أول شيء أن يبذل السبل والطرق في سبيل الوقوف على معايب نفسه وأخطائها .
وأما أن يريد أن يخلي نفسه من معايبها ، فهو لا يعرف عيبها ولا يدري أخلاقياتها السيئة وغير ذلك ، ولا شك أن هذا من الأخطاء في الفهم قبل أن يكون خطأ عمليا ، فلا بد من العلم قبل العمل ، وهذا مبدأ موجود في جميع تصرفات الإنسان سواء كانت في التربية أو كانت في الدين ، أو كان في غير ذلك .

وهناك سبعة طرق ذكرها الأئمة من قبل بها يستكشف الإنسان عيب نفسه ، وقد حددها الإمام الرازي "يرحمه الله" ، وقررها من بعده غير واحد كابن الجوزي "يرحمه الله" في ( الطب الروحاني ) وألمح إلى شيء منها في ( صيد الخاطر ) وكذا غيرهم :
أول الطرق في الكشف عن معايب النفس ومسالبها : هو عرض الأعمال على الشرع ، تنظر إلى أعمالك في جميع المجالات : اجتماعية أو دينية أو غير ذلك ، وتعرضها على شرع الله عز وجل ، وهذا المبدأ هو المسمى بشرعنا المحاسبة بأن يقف الإنسان مع نفسه ويحاسبها ويزن عملها ويفتش دقائقه وجلياته على ميزان الشرع وقانونه ، هل هو موافق لما أمر الله سبحانه وتعالى به ، أم أنه قد انحرف يمنة أو يسرة على اختلاف مجالات الانحراف بعدا وقربا ؟
ينبغي أن تحاسب نفسك ، والمحاسبة لا يستطيع الإنسان أن يحصل ثمارها حقا إلا إذا أقامها على شرط ساقيها :
الساق الأولى : العلم ، أن يكون عنده علم بشرع الله وعلم بما سيقدم نفسه به ، وأما أن يزن عمله على شيء يجهله ولا يدريه فإنه لن يحصل ثمار المحاسبة ، وإن كان عابدا زاهدا باكيا خاشعا .
الساق الثانية : فالصدق والصراحة مع النفس وعدم المراوغة . والمحاسبة عندما يرديد أن يطبقها ليست هي محاسبة الذات والنفس في الأعمال الظاهرة فقط ، هل هرعت إلى الصلاة وكنت أول المتسابقين إليها ؟ أم أنك كنت من المتأخرين عن الصلاة ؟ هل حضرت صلاة العصر في الصف الأول ، أم الثاني ؟ هذه كلها من المحاسبة ، وليست كل المحاسبة ، وهي أعمال ظاهرية .
كذلك أيضا ينبغي_ يرعاك الله _ أن تحاسب نفسك عن الأعمال القلبية ، وهي أهم وأعظم من أعمال الجوارح ؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلفتنا إلى هذا المعنى في النظر إلى أعمال القلب وأقواله : [ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ] وهذا فيه دلالة صريحة واضحة .
مثلا تسأل نفسك هل رآيت في صلاة المغرب التي صليتها الآن , أم أنك خشعت وحضر قلبك من أولها إلى أخرها ؟ هل أتيت إلى حلقة الذكر هذه حتى يثني عليك أنك من رواد حلق الذكر والعلم , أم أنك قصدت بذلك وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة والزلفى , والاستفادة والإفادة ؟
حاسب قلبك في أعمال القلب وأقواله ، وهذا أهم أنواع المحاسبة ؛ لأن أعمال الجوارح كلها تقوم على القلب .
فالمحاسبة مهمة وضرورية ، ولكن لا بد أن تقام على ساقيها بعلم وبصدق .
كثير من الذين يباشرون خلق المحاسبة يروق على نفسه يبدأ بفتح باب المبررات ، وأنا ما أتيت لأجل كذا وكذا ولعلي أقصد كذا ، وربما دفعت إلى هذا دفعا ، وأنا مكره وليس باختياري ، ويبدأ يختلق الأعذار ويختلق المبررات حتى لا يورط نفسه في مشكلة تربوية أخلاقية وقع فيها ، وفي مشكلة عقائدية أو في غير ذلك .
فينبغي أن يحاسب الإنسان نفسه ، والمحاسبة لها مراتب ، ومن مراتبها الدقيقة : ما كشف عنه ابن القيم "يرحمه الله" في ( إغاثة اللهفان ) في قوله : ( وهي تفصل في ثلاثة أشياء :
أحدها : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله فلم توقعه على الوجه الذي ينبغي .
ثانيها : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خير له فعله .
ثالثها : أن يحاسب نفسه على أمر مباح ، أو معتاد لما فعله ، وهل أراد به الله عز وجل والدار الآخرة ، فيكون رابحا حتى المباحات .
تحاسب نفسك عليها ، النوم الذي نمته البارحة ، هل نمته لأجل أن تتطوع في طاعة الله عز وجل أم نمته مثل ما ينامه البهائم ؟
فالمحاسبة لها مراتب عليا لا ينالها إلا خلص ، ولا يأتي عليها إلا خلص من الناس ، ولا شك أن أول ما يحاسب الإنسان نفسه عليه الفرائض وأعظم الفرائض : التوحيد وسلامته من الشرك .
الشرك الخفي ، والشرك الأصغر ، والشرك الأكبر ، شرك الطاعة ، والشرك في الأسباب الذي وقع فيه الكثير من الناس اليوم ما يسمى بشرك التوكل ، حتى اعتمد كثير منهم على أسباب معينة ، أن الرزق يأتي منها , ولا يمكن أن ينقطع وإن رزقي موجود إلى غير ذلك .
فينبغي أن يدير عملية المحاسبة إدارة ناجحة صحيحة على قدميها السابقتين بصدق وبعلم أيضا .
ثاني الطرق لمعرفة عيب النفس اختيار صديق عاقل صادق على علم ليبين لك عيوبك ، لا شك أن الصداقة أنواع وأن الأخوة أنواع .

الأخوة نوعان :
أخوة خـاصة : تزامل فيها أناس تختارهم أنت على بينة وفق موازين معينة وموازين محددة ، تلتف حولهم ويلتفون حولك ، ويكون بينهم وبينك أخوة خاصة ، مثل هؤلاء تستفيد من هذه البيئة المصغرة تربويا .
فتسأل أخاك الذي بينك وبينه أخوة خاصة ، أطلب منك أن تذكر لي معايبي التي في نظرك سواء كانت معايب في علاقتي الاجتماعية معك ، أو كانت معايب في أمر ديني وصلاتي إذا رأيت ريبة عليَّ في صلاتي فأشعرني وأخبرني ، هذا واجب النصيحة إلى غير ذلك .
لك أيضا أن تذكر ذلك بأسلوب غير متكلف وفي تصنع ؛ ولذلك يبقى بعض الناس عندما يسأل أخوانه نصحا ونحو ذلك ، ربما نصف ساعة وهو يأتي بالكلام ويقبل به ويدبر به ، حتى ربما جعل هناك قناعة نفسية عند السامع أنه لا يريد أن يكاشفه حقا ؛ وإنما يتصنع هذا ، وربما خرج من موعظة وعظه فيها أحد أن أحرص على النصيحة ، وأنصح الآخرين ، فهو موقف نفسي كان عنده ؛ ولذلك أتى به وفعل هذا الفعل .
ليكن عملك معه عند طلب النصيحة بكل يسر وسهولة وليونة ، وعدم تكلف وليس فيه تصنع ، وليكن هذا أيضا إلفا لك اجعله عادة ، أن تستنصح أخوانك في أمرك .
تلقى الله عز وجل وعندك من الأخطاء السلوكية والأخطاء التربوية عموما سواء في الدين أو غيره مما يحاسبك الله سبحانه وتعالى عليه ، ولم تستنصح ناصح تندم بعد ذلك .
من أخلاقيات الأخوة الخاصة وهي مهمة جدا للإنسان وهذه من ثمارها .
ثالث الطرق في معرفة عيب النفس : البحث عما يقوله الناس عنك بدون تجسس ، أنت في هذه الدنيا على علاقات اجتماعية واسعة وضيقة بحسب حركتك ونشاطك وأهدافك وغير ذلك .
لماذا لا تحـاول أن تستكشف آثار حركتك يمنة ويسرة من الآخرين ؟ خذ وأعطي واستقبل ، وخذ النقد من الآخرين ولو كان من صغير ، وينبغي على الإنسان أن يحرص على أن لا يدخل في خلق مذموم يسمى بالتجسس ، فهذا منهي عنه في الإسلام ، وتستفيد من العلاقات الاجتماعية واسعة وضيقة باستكشاف عيوب نفسك أيضا ، فقد تستفيد من الوالدين وأنت تعاملهم وتلاطفهم بعض معايبك .
بعض الأبناء قد لا يحسس الوالدين بالعاطفة منه إليهما ، والوالدان فيهم جوعة نفسية إلى سماع الكلمات العاطفية من الابن وإلى رؤية الحنان والمودة والبر ونحو ذلك ، تقبيل الرأس أو نحوه – الكلمات الطيبة والدعاء لهما ، تقبيض رجليهما إذا احتاج ذلك .
كل ذلك مما يشبع العاطفة النفسية عند الوالدين فقد يكشف لك الوالدان أنك لم تلبي هذه العاطفة فيكون هناك تقصير في السلوك التربوي تجاه والديك ، فأنت عرفت أيضا بعض المعايب ، ومن أصدق الناس إيضاحا لمعايبك لك الوالدان .
كذلك قد يفيدك أبوك أو تفيدك أمك في بعض معايبك في تعامل الزوج مع زوجته إذا كنت متزوجا ، أن هناك خطأ منك ، وهناك تقصيرا ، وتعاملك مع أبنائك إلى غير ذلك .
المهم أن يراجع الإنسان علاقاته الاجتماعية ، وأن يستفيد منها تربويا ، ومن طرق ذلك أن يعرف المعايب التي خرجت منه تجاه الآخرين عن طريق الاستكشاف التام .
رابع الطرق في معرفة المعايب : الاستفادة مما يقوله الأعداء ، الأعداء كثيرون ولا نعني بالأعداء دوما عندما نطلقها هم الخارجون عن بيضة الإسلام ودائرته ودولته ، أعداء قد يكون مسلما يصلي ويصوم ، إما ذي حسد أو عداوة سابقة ، أراد أن يظلمك بأخذ أرض له ، فقمت واقفا أمام مالك تحمي عنه وتذب عنه ، فوقع في نفسه عليك ، وبدأ يتكلم ضدك في بعض المجالس والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك .
التفت إلى بعض الذي يذكره إن كان حقا ، ولا تجعل شخصيتك مثل الإسفنج تستشرب كل ما حولها ولو كان غير صحيح ، ولكن كن كمثل المرآة تنظر إلى العـداء والأعداء وتفرزها ، هل هذا العيب عندي ؟ فإذا كان عندك استفد من هذه الأقوال وارجع عن هذا السلوك ، الخلق السيئ النفسي والاجتماعي .
خامس الطرق في معرفة عيب النفس : أن تصور أفعالك في غيرك ، صور أفعالك في زيد من الناس أنه هو أنت ، هو الذي يصلي ، تنظر إلى طريقة صلات ، هو الذي يقوم بالعبادة لله عز وجل ، هو الذي يقوم بالعلاقة الاجتمـاعية مع الوالدين أو ذوي الرحم ، أو الجار إلى غير ذلك .
صور شخصيتك تتحرك في غيرك ، وقس هل هذه الشخصية التي أراها الآن غير صحيحة ؟ لأن الأنفس جبلت على أنها تعي وتعرف معايب الغير أكثر من معايب النفس في المشاهدة المحسوسة ؛ ولذلك لو وضعته في غيرك ربما بدا لك عيب نفسك وتقصيرك في جنب الله وتقصيرك ربما في علاقات واجبة مع ذوي الرحم ، أو الجار وغير ذلك .
تقصيرك أيضا في تلبية النفس ، والنفس أيضا لها حقوق كثيرة ، وكثير من المستقيمين بعد ضلالة لم يربى التربية الصحيحة بمعنى كان في أسرة القائم على الأسرة ليس عنده تأهيل تربوي يستطيع أن يمد الابن والبنت به ، كثير من الأسر القائمون عليها من أم وأب لا يحسن العملية التربوية ، وليست ناجحة عنده ؛ ولذلك إذا استقمت حينئذ ينبغي أن تلتفت لنفسك ، هل جوعاتها النفسية والعاطفية والعقلية والسلوكية والاجتماعية وغير ذلك ، لبيت وأشبعت وغديت بالأشياء الصحيحة .
أم أنها أهملت وسيّت وتركت ثم أنت تستمر على ما أنت عليه وإن كان خطأ ، فينبغي الاستفادة من هذا الطريق الخامس .
سادس الطرق: أن تتفكر في عواقب صفاتك وثمراتك ، صفة المراوغة التي تجدها مع كثيرون حتى مع الباعة ، تجدك يراوغ يرواغ إلى أن يضع فخا للبائع أن يصيد فيه السلعة بأقل الأثمان ، ولو كان في كذب وتزوير ، ويقول ذهبت إلى المحل الثاني وقالوا لي السلعة أقل مما عندك ، المهم أنه يأخذ السلعة بثمن أقل .
انظر إلى ثمار هذا الفعل فيه كذب ، فيه تضليل ، وفيه مراوغة ، وفيه شخصية غير واضحة صريحة ينبغي أن تعالج هذا الخطأ السلوكي حينئذ ، وهكذا كفكر في عواقب صفاتك وأحوالك وثمراتها .
التفكر في العواقب يجعل الإنسان ينظر ويقايس ويستكشف أخطاءه .
سابع الطرق في معرفة عيب النفس وآخرها : أن تقايس نفسك بسير السابقين الكمل من السلف الصالح وغيرهم ، انظر مثلا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، نعم له خصوصيات ، انظر في سلوكياته وهو قدوة ، كيف كانت علاقته بزوجته ، هل علاقتك بزوجتك مثل علاقته بزوجاته صلى الله عليه وسلم ، العلاقة العاطفية بالزوجة والعلاقة السلوكية وعلاقة الحوار بالزوجة ، أي علاقة أخرى ، هل هي مثل علاقة النبي صلى الله عليه وسلم .
كذلك خذ في غير ذلك من العلاقات ، ضع لك رمزا من الرموز الكاملة وأعظمها على الإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأطرح خصوصياته ، موضع النبي صلى الله عليه وسلم لنقتدي به ننظر إلى سيرته ونتتبعها .
فهذه طرق سبعة يتعرف الإنسان من خلالها على عيب نفسه ومسالب ذاته ، ثم إذا تعرف فليعالج هذه النفس .

ومعالجة النفس بعد اكتشاف عيوبها ومسالبها تكون عن طرق ثلاث :
أولها : حاول أن تستكشف السبب الذي جعلك تقع في هذا العيب ، مثلا من العيوب الأخلاقية التي تقع عند بعض الناس : خطأ الحديث أثناء الحوار بينه وبين آخر ، يجب أن لا يطيل المحاور عليه الكلام ، فإذا حاور إنسان قطع الحديث ولا يزال في تقطيع أحاديث الناس في جميع حواراته وجداله وكلامه ، فهو أخل بأحد آداب الكلام المهمة ، من أين أتى هذا الخلل ؟
إن كان الخلل في تقليد آخر ، فينبغي أن تضع نصب عينيك أن الذي يقلد عموما ويؤخذ بأفعاله هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن غيره قد يصيب ويخطئ مهما كان ، وكذلك إن كان العيب أن نفسيتك ربيت على العجلة وعدم التصبر وعدم التحمل ، فينبغي أن تعالجها بالصبر ، وأن تحاول أن تصبر هذه النفس وتربيها على الصبر وحبسها عن شهوة تريدها ، فمن أهم معالجة المشكلات إن كانت خلقية أو نفسية أو اجتماعية أو غير ذلك أن تحاول اكتشاف السبب الباعث على هذا المرض أو هذا السلوك أو نحو ذلك .
ثانيها : دافع هذا المرض بضده ، حاول أن تدافع الكذب بالصدق ، قد يكون هناك صعوبة على الإنسان في تعاملاته المالية ، والمال فتنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ جعلت فتنة أمتي في المال ] قد لا يستطيع أن يربي نفسه على الصدق في جميع علاقاته سواء إن كان مع سعودي أو مع بنقالي أو مع عربي أو أجنبي ، فينبغي أن يدافع الكذب المشين بالصدق والتنازل عن حظوظ النفس ؛ لأجل أن يكون صريحا صـادقا ، ويعلم عواقب الصبر على هذا السلوك ، وهو الصدق ، وأنه لا يزال الإنسان يصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وأن من أعظم العبادات والسلوكيات الاجتماعية والنفسية التي يربي عليها الناس .
ثالثها : الاستمرارية ، ينبغي أن تكون مستمرا من متابعة نفسك في تخليتها عن عيب تريد أن تزيلها منها ، كثير من الناس مع الأسف عندما يغرس في نفسه خلقا جديدا أو مبدأ جديدا ، لا يتابع نفسه .
من المبادئ مثلا : اتقان العمل ، وهو ليس مبدأ سهلا ، اتقان العمل في الدعوة ، اتقان العمل في علاقاتك الاجتماعية ، إتقان العمل في أي شيء تعمله وتقوله وتتحركه ، كثير من الشخصيات تجدها لا تبالي باتقان العمل ، ربما راجعت ووجدت أن ماضيه السابق قبل استقامته زرع فيه عدم إتقان العمل ، وقد يكون في المهد وفي الطفولة في مراحلها الباكرة والمتأخرة .
من وسائل زرع إتقان العمل في الطفل إذا لون دائرة مثلا أن لا يخرج تلوينه عن هذه الدائرة ، فهو أتقن حينئذ التلوين ، وهذا مثل سهل قس عليه ما هو أكبر منه ، فقد يربى بعض الناس على هذا .
كذلك بعض الأمهات قد تربي طفلتها على عمل ، ثم أعمال ليس فيها إتقان ،( اكنسي يا بنتي هذه الغرفة )، وتكنس جزءا منها ، والجزء الآخر ، وتجعل وسط الغرفة غير مكنوس حينئذ لو كررت هذه البنية تربى في نفسها عدم إتقان العمل .
وكم هي الأسر التي تربي في أنفس أبنائها وبناتها مبادئ خاطئة ومنها عدم إتقان العمل .
فينبغي للإنسان أن يعالج سلوكياته ونفسيته ، وأن يحملها هذا المبدأ ، وأن تقوم به ؛ ولذلك مهم جدا أن يتابع نفسه في جميع مواقعها ومواقفها وتعاملاتها بأن تلتزم هذا المبدأ وهو الإتقان في العمل .
واجعل هذا المثل أصلا وقس عليه مبادئ وأسس الإنسان بحاجة إليها في شخصيته ، فينبغي أن تدار عملية المعالجة بتخلية النفس من عيوبها عبر هذه البوابات الثلاث :
أولها : معرفة السبب .
ثانيها : مرافقته بهذه .
ثالثها : الاستمرارية في التغذية والرقابة على وجود ما دفع به الضر .
ثاني خطوات ما بعد الاستقامة : ما يسمى بالتحلية ، وهو أن تحلي نفسك بجميل الأخلاق والعوائد التي تركها يخرم المروءة والعوائد الحميدة والمعارف العامة التي بين البشر ، والتي يجب على الإنسان أن يطلع عليها ، وأن يعرفها ، وأن يزكي نفسه بمطالعتها وتعلمها .
فينبغي أن يحلي نفسه بالكمالات ، أنى كانت ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وهذا دافع إلى سر تزكية النفس ، والله عز وجل قد أمر بتزكية النفس .
وتزكية النفس تغذيتها بما أمر الله سبحانه وتعالى وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ومما يلحق بذلك محامد الأخلاق والسلوكيات التي هي من العوائد عند البشر أو المعارف العامة التي ينبغي أن يعرفها الإنسان ، فينبغي حينئذ أن يزكي نفسه بها ، وزكاء النفس ونماؤها يكون بالتخلية ، أما من يخلي نفسه من المعايب ويبقى مثل الحارس الذي يقف على سور نفسه ، أنى رأى عيبا أتى أو طائر خطأ حل طرده ، ولكنه لا ينمي شيئا من الأخلاقيات والسلوكيات وغيرها في شخصيته ، فإنه لن ينمي هذه الشخصية ، ولن تكون على وجه استقامة في تزكيتها وتربيتها .
التحلية عندما ينادى بها أيضا هي تحلية كاملة للعقل وللجسد وللروح أيضا ، وينبغي أن يزكي نفسه الإنسان في جميع المجالات .
انظر إلى أخذك وعطائك حتى طريقة كلامك ومد يدك للآخرين ، هل هي طريقة صحيحة قويمة ، أم أن فيها تراخي وتماوت إن كنت رجلا ؟
كذلك يقال في غيره حتى مشيتك ، نعم نحن نؤمن أن هناك سلوكيات وراثية يأخذها الإنسان عن أبيه وأمه ، ولكن يستطيع الإنسان أن يتحكم في هذه السلوكيات بتهذيب وتحرير وتقليل ودفع ومجاهدة قدر جهده .
مشيتك هل هي مشية المتماوت المتخاذل ؟ أو مشية المعجب المتكبر المتغطرس ؟
والمشيات عشر أقسام كما يقول ابن القيم "يرحمه الله" في ( زاد المعارف ) ليست مشية واحدة .
كذلك كل غير ذلك ، كثير لا ينظر إلى مثل هذه العوائد والأخذ والعطاء ونحو ذلك حتى المفاهيم ، المفاهيم الخاطئة كثير ممن هداه الله سبحانه وتعالى نظر إلى بعض الأفلام السيئة ، ومنها أفلام كرتون تلفزيونية ، وفيها أفلام ماجنة محرمة لا يجوز للإنسان أن يجعل أولاده يشاهدونها ، ويجب أن يخرج مثل هذا المفسد .
كثير من الناس التزم واستقام بعد أن رأى أشياء وأشياء جعل في تصوره أفهام خاطئة ، فهو إذا ذهب في ظلمة يتخيل أشكال غير معقولة ، ووجود متناقضات إلى غير ذلك .
من أين أتى هذا ؟ من بيئة سابقة من تصورات سيئة لم يقم بتصليحها وإصلاحها ، لم يقم بإصلاحها وتهذيبها ، فالتحلية عامة في الجسد تحركاته وتصرفاته وجلوسه .
أيضا التحلية تكون للعقل ، العقل كما سبق ، فيه أفكار وأوهام ينبغي أن تنظر فيها ، وأعظم الأخطاء التي تقع ، خطأ في التصورات ، إذا كان التصور خاطئ ، كل ما بعده وأقيم عليه يكون خاطئا ، وكم هي تصوراتنا خاطئة .
من التصورات الخاطئة : التشاؤم ، يمر الإنسان على الطريق أوله حادث ، و شك أن هذا التشاؤم لا يجوز ، ومحرم في ديننا .
التصور هذا يزال معه من قبل وأخذه معه ، كذلك تصورات عن حركات الناس ، فلان تحرك هذه الحركة إذا هو محسوب على صنف معين ، وهذا لا شك من التصورات التي يجب أن يعالجها الإنسان .
كذلك تحلية الروح ، تغذيتها بالجوعة العبادية ، وأن لها خالقا تعبده وتذل نفسها له وتنكسر له .
أيضا تلبي جوعات النفس أنى كانت وهي جوعات صحيحة .
فالتحلية عامة في جميع المجالات العقلية والجسدية والروحية ، والتحلية هي التربية هنا التي فيها تغذية للجسد بالخيرات والطاعات والمروءات وجميل الأخلاق والعوائد ، وهي تقوم على ركيزتين :
الركيزة الأولى : هي الركيزة العملية التي سماها ابن القيم "يرحمه الله" بالقوة العملية ، والإنسان لا يستطيع أن يدير القوة العملية ويتحكم فيه ويجعلها على وجه استقامة وصحة إلا إذا أقامها على ساقيها ، وهما الإرادة والمجاهدة .
كثير من الناس تحاول أن تزرع فيه بعض الأشياء الخيرة هي معلومة عندهم من قبل ، ولكنه لا يستطيع أن يريك هذا الخير ليقدم نفسه نحو الخيرات ؛ ولذلك قوة الإرادة من الأهمية بمكان إذا اعتلت همتك اعتلت أعمالك ، وإذا كان همتك حول الحش كان أعمالك حولها ، وإذا كانت همتك نحو العرش علت أعمالك وهمتك وأفعالك .
فالإرادة هي التي تقوم عليها الأعمال ، والمجاهدة فيها ترويض للنفس وتصبر ومحاولة زرع الخيرات في النفس ولو أبت هذه النفس .
الركيزة الثانية : فهي القوة العلمية المعرفية ، ولا بد فيها أن يعرف الإنسان ما الشيء الذي يريد الإنسان أن يحلي نفسه به وأن يعرف الطريقة التي يوصل عن طريقها هذه التعليمة التربوية أو الدينية إلى نفسه ليحليها بها ، ومن يكون جـاهلا ما يدري ما هي الطريقة الصحيحة ، فإنه ولو علم الخيرات والطاعات لن يستطيع أن يكسبها ويأخذها من الطرق مثلا .
طريق الصحبة بأن تصاحب بعض الأخيار في أمرك وشأنك بأن تكتسب عنهم بعض المعارض وبعض العبادات وبعض الأخلاق الطيبات النافعة ، وهذه طريقة عظيمة كبيرة عظمها الشرع ؛ ولذلك قيل : قل من تصاحب أقول لك من أنت ، لا بد أن تشرك طباعك وأن تأخذ عنه .
شئت ذلك أم أبيت ، وكثير من الناس لا يشعر أنه أخذ هذا الخلق أو ذاك من صاحبه أو من عاشره في بيئة معينة ، الضحكة التي يضحكها ، والمشية التي يمشيها ، والأخذ والعطاء وبعض الكلمات التي تقولها ، ثق تمام الثقة أن مأخوذه عن غيرك تحاكي بها ، تحاكي بها أمك أو أباك أو شخصا في بيئة تعليمية أو تربوية أو وظيفية أو غير ذلك مما تكتسب عن الأخلاق .
هذه من الطرق ، وهناك طرق كثيرة وأحكام تتعلق بالتربية ، وليس حديثنا عن التربية ؛ وإنما حديثنا عن خطوة ثانية في مسيرة الإنسان بعد هدايته واستقامته ، وهي التحلية .
ثالث الخطوات وآخرها : هو الثبات بأن يثبت الإنسان نفسه على طريق الاستقامة .
والثبات مهم جدا ؛ لأن القلب يتقلب ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان أنه قال : [ ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع رب العالمين ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أو يزغه أزاغـه ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك ] والحديث أخرجه أحمد وصحح سنده في ( معجمه ) ، ومن الأحاديث التي تؤكد تقلب القلب وشدة تقلبه وتغيره وعدم ثباته ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ما أخرجه أحمد والحاكم في ( مستدركه ) : [ إن قلب ابن آدم أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانه ] ومن الأحاديث في ذلك ما أخرجه أحمد في ( مسنده ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ مثل القلب مثل الريشة تقلبها الريح بفلاة ] وهذا لا شك يوجب على الإنسان أن يستنفر قواه العقلية والخلقية والتربوية وغير ذلك حتى يثبت هذه النفس على طريق الاستقامة على المبادئ والأخلاق وعلى الذي حلى نفسه بها وزرعها حتى يلقى الله سبحانه وتعالى .
كذلك الأعمال بالخواتيم تتغير ربما قبضت روحك على تغيرك ، وإذا بدلت ربما قبض الله روحك وأنت مبدل .
والناس يبعثون على ما ماتوا عليه ؛ ولذلك أخرج البخاري في ( صحيحه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إنما الأعمال بالخواتيم ] وهذا كله من موجبات الاهتمام بعملية الثبات والتثبيت على الاستقامة .
والثبات ليس الثبات فقط على الشعائر الظاهرة ، الثبات على تطهير القلب من الرياء ، الثبات على تغير القلب من أمراضه كالحسد والنفاق وغير ذلك .
الثبات أيضا على المبادئ الأخلاقية والتربوية الصحيحة ، ينبغي أن يثبت الإنسان نفسه عليها من البدء كما سبق إتقان العمل .
فالثبات معشر الأخوة والأخوات له مراتب ، وليس مرتبة واحدة ، وله مجالاته ، فينبغي أن يكون الثبات في الإنسان في جميع مجالاته الخيرة ، والتي كان عليها ؛ ولذلك كان أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل .
سلوك اجتماعي حميد دائما تفعله ، لماذا لا تواظب عليه ؟ لماذا لا تثبت نفسك عليه ؟ مبدأ من مبادئ العمل عملت وفعلت لماذا لا تثبته شخصيتك ، ولو كان قليلا ولو كان صغيرا في أعين الناس .
من المبادئ الحسنة المبادرة إلى أعمال الخير ، قليل جدا من يكون أول من بادر إلى عمل خير ، لماذا لا تحاول أن تزرع في نفسك هذا المبدأ العظيم وتنميه ويكون ثابتا عندك ، وقل غير ذلك من المبادئ ، وهن كثيرة ، وكذلك الأخلاق وهي كثيرة كثيرة .
والثبات أول مراتبه : الثبات على الدين الواجب المفروض عليك ، التوحيد وأفعال الإسلام الواجبة الظاهرة وغير ذلك .
ثم يأتي بعد ذلك مراتب منها : الثبات على المستحبات وترك المكروهات .
ويأتي بعد ذلك مرتبة أعلى : المداومة على قرائن الأخلاق والعوائد الحميدة وعلى المبادئ الكريمة في العمل وغير ذلك .
فالثبات ليس معنى واحدا ، وليس مرتبة واحدة ؛ وإنما هو معنى كامل يأتي تحته مراتب عديدة ، ويدخل في المجالات الخيرة كلها .
وينبغي أن يحاول الإنسان أن يقي نفسه من مزالق الانتكاس وعدم الثبات ليس بانتكاس أيها الأخوان في الهداية .
الانتكاس في الأخلاق حتى لو كنت تعملها وتركتها ، حتى لو في قيام الليل ؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعض أصحابه يصلي ويترك أحيانا في قيام الليل ، فحثه النبي صلى الله عليه وسلم على جعل عمله ديمة ، كذلك صدقة كان الإنسان يتصدق كل يوم ريالا واحدا ، ترك هذا العمل ، لماذا لا تجعل هذا العمل ديمة ؟ كذلك قل غير ذلك في الأخلاقيات والمبادئ وغيرها .
أيضا تحاول أن تعمل الأسباب التي تدفع الانزلاق في هوة الانتكاس عن الأعمال الخيرة والطيبة والمبادئ الكريمة والأخلاقيات وما حليت به نفسك وربيتها عليه ، ومن أعظم الأسباب في ذلك : الدعاء ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك ] وهذا من أعظم الأدعية التي يدعو بها الإنسان ربه سبحانه وتعالى .
وأنت لا تنوي فقط مجال معين من مجالات الدين يثبتك عليه ، والأعمال بالنيات ، انوي جميع مجالات الدين أن يثبتك الله عليها ، وأن تكون ملازما لجميع الثغور قائما فيها بالكمال المتاح لك .

والإنسان إذا عمل شيئين لن يضـل بعدهما أبدا كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية "يرحمه الله" :
الشيء الأول : فهو أن يكون عنده فهم كامل .
الشيء الثاني : فهو أن يكون عنده علم تام كامل ، وذلك أن الضلال لا يأتي للإنسان إلا عن طريق الشهوة أو شبهة ، والشبهة تدفع بالعلم ، فإذا تم لا تأتيه شبهة ، والشهوة عن طريقها تدخل كثير من المعايب والسيئات ، فيدفعها الإنسـان بالإيمان ، فإذا تم لا يدخل عليه أي شهوة ، إذا كمل إيمانك وعلمك فإن ذلك حصن منيع لا يأتيك الضلال بعده كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية "يرحمه الله" في ( مجموع فتاويه ) .
والوسائل المعينة على تقصير الثبات كثيرة ، ذكرنا منها : الدعاء ، كذلك منها : الصحبة الطيبة ، وينبغي أن يكون الإنسان علاقات اجتماعية وصحبة طيبة تعينه على الثبات على الاستقامة ، فهي مثل جرعات مناعة ، أو يتقبل الناس أنك تنتكس عن خلق كنت عليه أو عبادة كنت عليها ، مثلا زوج عود زوجته على قيام الليل في الأسحار ، هي تقوم وهو يقوم ، فإذا رأت فيه انتكاسة في هذا الخلق له آثاره ، لماذا لا تحصن الزوجة على أن لا يقع هذا الانتكاس ، أيضا هي بيئة مصغرة ينبغي أن تحصنها .
تقرآن سويا في بعض الليالي وبعضا من الأيام شيئا من الفضائل في قيام الليل ، كذلك الصدقة ينبغي أيضا أن تخرج منها على ظهر غنى إلى غير ذلك .
فينبغي أن تحصن البيئات الاجتماعية التي أنت فيها وأولها البيئة المصغرة إن كنت متزوجا وهي البيئة الزوجية .
ذلك معشر الأخوة والأخوات هو حديثنا إليكم عن ثلاث بعد الاستقامة سائلين الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى مرضاته وأن يجعلنا من مقيمي طاعته والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد عبده ورسوله .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
صالح الأسمري
  • زاوية الفتاوى
  • زاوية المقالات
  • زاوية المحاضرات
  • زاوية الكتب
  • الصفحة الرئيسية