بسم الله الرحمن الرحيم

أرضى بجوار الله عز وجل


اللهُ اللهُ لا أبغي به بـدلاً = اللهُ اللهُ مقصودي ومعتمدي

عندما تسمو هـمّـة المؤمن ، ويتسامق به إيمانه ، فإنه لا ينظر تحت قدميه ، بل ينظر إلى السماء مُتطلعاً إلى العلياء ، وذلك في كل أمر من أموره .
فإن استعان فبالله
وإن سأل سأل الله
وهو لا يرضي بما دون الجنة
بل يرضى باليلاء إذا كان في سبيل الله .

لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارَة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك ، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج ، أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة : مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له : إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر : إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله . رواه البخاري .

هذا ما كان من شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه وأرضاه .
فما هو خبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه وارضاه ، وهو أحد السابقين ؟

قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : لما رأى عثمان بن مظعون رضي الله عنه ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء ، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة . قال : والله إن غدوي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهل ديني يَلْقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي ، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس وَفَتْ ذمّتك ، وقد رددت إليك جوارك . قال : لم يا ابن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي . قال : لا ولكني أرضى بجوار الله عز وجل ، ولا أريد أن أستجير بغيره . قال : فانطلق إلى المسجد فاردُد عليّ جواري علانية ، كما أجرتك علانية . قال : فانطلقا ثم خرجا حتى أتيا المسجد ، فقال لهم الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري . قال لهم : قد صدق ، قد وجدته وفـيّـاً ، كريم الجوار ، ولكني قد أحببت أن لا أستجبر بغير الله ، فقد رددتُ عليه جواره ، ثم انصرف عثمان ، ولبيد بن ربيعة في المجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد : وهو ينشدهم :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان : صدقت .
فقال : وكل نعيم لا محالة زائل .
فقال عثمان : كذبت ، نعيم أهل الجنة لا يزول .
قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش ، والله ما كان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث فيكم هذا ؟
فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه ! قد فارقوا ديننا ، فلا تجدن في نفسك من قوله .
فَرَدّ عليه عثمان حتى سرى - أي عظم - أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل ، فلطم عينه فخضّرها ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ، فقال : أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، فقد كنت في ذمة مَنِيعة . فقال عثمان : بلى ، والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ! وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس .
فقال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه :

فإن تك عيني في رضا الرب نالها = يدا ملحد في الدين ليس بمهتد
فقد عوض الرحمن منها ثوابه = ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غوي مضلل = سفيه على دين الرسول محمد
أريد بذاك الله والحق ديننا = على رغم من يبغي علينا ويعتدي

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما أصيب من عين عثمان بن مظعون رضي الله عنه :

أمن تذكر دهر غير مأمون = أصحبت مكتئبا تبكي كمحزون
أمن تذكر أقوام ذوي سفه = يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
لا ينتهون عن الفحشاء ما سلموا = والغدر فيهم سبيل غير مأمون
ألا ترون أقل الله خيرهم = أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
إذ يلطمون ولا يخشون مقلته = طعنا دراكا وضربا غير مأفون
فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلا = كيلا بكيل جزاء غير مغبون

والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ! وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس .

أي عِـزّة يمتلكها المؤمن بالله عز وجل ؟
وأي استعلاء على الأعداء ، لإظهار عزة المسلم ؟
وأي صبر على البلاء ، بل أي تلذذ بالضرّاء ؟؟؟

فرضي الله عنهم ما أزكى سيرهم ، وما أطيب دروس مدرستهم .

فاللهم احشرنا في زمرتهم .

كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
assuhaim@al-islam.com

الصفحة الرئيسة