صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بأيِّ شيء تدخل الجنة ؟

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 

أسئلة استوقفتني ، ثم سألت نفسي سؤالا !
استَوقَفَنِي سؤالُ النبي صلى الله عليه وسلم لِبَشير بنِ الْخَصَاصِيّة : فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا ؟ وسأقِف معه لاحِقًا .
واستَوقَفَتْنِي هذه الآية : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) .

بأي شيء تدخل الجنة ؟

قال ابنُ رجبٍ : وَقَدْ وَرَدَ تَرَتُّبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ هَذِهِ الأَعْمَالِ كَالصَّلاةِ ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ لِوَقْتِهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي الَّذِي لا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلاَّ بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ ؛ وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى مَا خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةِ رضي الله عنه ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لأُبَايِعَهُ ، فَشَرَطَ عَلَيَّ : شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلاةَ ، وَأَنْ أُوتِيَ الزَّكَاةَ ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَمَّا اثْنَتَانِ فَوَاللَّهِ مَا أُطِيقُهُمَا : الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ ، فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ ، ثُمَّ حَرَّكَهَا ، وَقَالَ : فَلا جِهَادَ وَلا صَدَقَةَ ؟ فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لا يَكْفِي فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ هَذِهِ الْخِصَالُ بِدُونِ الزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ الْكَبَائِرِ يَمْنَعُ دُخُولَ الْجَنَّةِ ، كَقَوْلِهِ : لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ ، وَقَوْلِه : لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، وَقَوْلِه : لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا . وَالأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ فِي مَنْعِ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالدَّيْنِ حَتَّى يُقْضَى، وَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا الصِّرَاطَ ، حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْبَسُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مِائَةَ عَامٍ بِالذَّنْبِ كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا . فَهَذِهِ كُلُّهَا مَوَانِعُ .
وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مَعْنَى الأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ فِي تَرَتُّبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّوْحِيدِ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : مَا مِنْ عَبْدٍ قَال : لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟! قال : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ، قَالَهَا ثَلاثًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ ، فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .
وَفِيهِمَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ ، وَالنَّارَ حَقٌّ ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ .
وَفِيهِمَا عَنْ عُِتْبَانَ بنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال : إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَن قال : لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ، يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ .
وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَلِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ ، لَكِنْ لَهُ شُرُوطٌ ، وَهِيَ الإِتْيَانُ بِالْفَرَائِضِ ، وَمَوَانِعُ وَهِيَ إِتْيَانُ الْكَبَائِرِ . قال الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ : إِنَّ لِلا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ شُرُوطًا ، فَإِيَّاكَ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَةِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قال : هَذَا الْعَمُودُ ، فَأَيْنَ الطُّنُبُ . يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ عَمُودُ الْفُسْطَاطِ ، وَلَكِنْ لا يَثْبُتُ الْفُسْطَاطُ بِدُونِ أَطْنَابِهِ ، وَهِيَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ : إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ : مَن قال : لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، فَقَال : مَن قال : لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا ، دَخَلَ الْجَنَّةَ .
وَقِيلَ لَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : أَلَيْسَ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ ؟ قال : بَلَى، وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلاّ وَلَهُ أَسْنَانٌ ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ ، فُتِحَ لَكَ ، وَإِلاّ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ .
وَيُشْبِهُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ : هَلْ يَضُرُّ مَعَهَا عَمَلٌ ، كَمَا لا يَنْفَعُ مَعَ تَرْكِهَا عَمَلٌ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : عِشْ وَلا تَغْتَرَّ . اهـ .
فـ عِشْ وَلا تَغْتَرَّ .
وفي وَصيةِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم : كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ . وَكَان ابْنُ عُمَرَ يَقُول : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . رواه البخاري .
وبعض الناس يَحفَظ : اعمَلْ لِدُنياك كأنك تَعيش أبدا ، واعمَلْ لآخِرتِكَ كأنك تموت غدا !
وهذا لا أصل له .
ولو كان له وَجْه ؛ فإن كثيرا مِن الناسِ يأخُذ الشِّقَّ الأولَ مِنه ، وهو العمل للدّنيا كأنه مُخلّدٌ فيها ، ويَنْسَى الشقَّ الآخَر ، وهو أن يَعمَل لآخِرته كأنه قد دَنَا أجَلُه .
قال ابن الأثير عمّا يُروَى : اعمَلْ لِدُنياك كأنك تَعيشُ أبدا : النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَدب إِلَى الزُّهْد فِي الدُّنْيَا ، والتَّقْلِيل مِنْهَا ، وَمِنَ الانْهمَاك فِيهَا والاسْتِمتاع بلَذَّاتها ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أوَامره ونَواهيه فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا ، فَكَيْفَ يَحُثُّ عَلَى عِمارتها والاسْتِكْثار مِنْهَا ؟ . اهـ .

وفي مواعِظ النبي صلى الله عليه وسلم : الحثّ على الإقبالِ على العَمَل ؛ كأنه عَمَل مُودِّع
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال : عِظْنِي وَأَوْجِزْ ، فقال : إذا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ . رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، وحسّنه الألباني .

إيّاكَ والاغتِرارَ :
ففي حديثِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أنه تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ، ثُمَّ قَال : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَهُوَ فِي هَذَا المَجْلِسِ ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الوُضُوءِ ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ . قال : وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَغْتَرُّوا . رواه البخاري ومسلم .

قال ابنُ بَطّالٍ : نَهَى اللهُ عبادَه عنِ الاغترارِ بالحياةِ الدنيا وزُخرُفِها الفَانِي ، وعنِ الاغترارِ بالشيطانِ ، وبيّنَ لنا تعالى عَدَاوتَه لَنَا لئلا نَلتَفِتَ إلى تَسْويلِه وتَزيِينِه لَنَا الشّهواتِ الْمُرْدِيَة ، وحَذّرَنا تعالى طاعتَه ، وأخْبَر أنَّ أتْبَاعَه وحِزْبَه مِن أصحابِ السعيرِ ، والسعيرُ : النارُ .
فَحَقٌّ على المؤمِنِ العاقِلِ أنْ يَحْذَرَ ما حَذَّرَه مِنه رَبُّه عَزّ وَجَلّ ونَبِيُّه صلى الله عليه وسلم ، وأنْ يكونَ مُشْفِقًا خَائفًا وَجِلاً ، وإنْ واقَعَ ذَنبًا أسْرَعَ النّدَمَ عليه والتوبَةَ منه ، وعَزَمَ ألاّ يَعودَ إليه ، وإذا أتَى حَسَنَةً استَقَلّها واستَصْغَرَ عَمَلَه ، ولم يُدِلَّ بها .
ألاَ ترى قولَ عثمانَ : مَن أتى المسجدَ فَرَكَع ركعتين ثم جَلَسَ ، غُفِرَ له ما تَقَدّمَ مِن ذَنْبِه . وهذا لا يكونُ إلاّ مِنْ قَولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم أتْبَعَ ذلك بِقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : لا تَغْتَرّوا . فَفَهِمَ عثمانُ رضى الله عنه مِن ذلك : أنَّ المؤمِنَ يَنْبَغِي له ألاّ يَتَّكِلَ على عَمَلِه، ويَستَشْعِرَ الحذَرَ والإشفاقَ بَتَجَنّبِ الاغْتِرارِ . وقد قال غيرُ مجاهدٍ في تفسيرِ الغَرورِ قال : هو أن يَغتَرَّ باللهِ فيَعمَلَ المعصيةَ ويَتمَنّى الْمَغْفِرَة . اهـ .
وقال ابنُ حَجَرٍ : لا تَغتَرُّوا ، أي : فتَسْتَكْثِروا مِن الأعمالِ السيئةِ بِنَاءً على أنَّ الصلاةَ تُكَفِّرُها ؛ فإنَّ الصلاةَ التي تُكَفَّرُ بها الخطايا هي التي يَقْبَلُها اللهُ ، وأنَّى للعبدِ بِالاطلاعِ على ذلك . اهـ .

وعلى الإنسانِ أنْ لا يأمَنَ مِنْ مكْرِ اللهِ ، فإنَّ تَمْكينَ الإنسانِ مِن الكَسْبِ الْحَرامِ ومِنَ المعصيةِ : مَكْرٌ به واستدراجٌ له .

قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) . رواه الإمامُ أحمدُ ، وصححه الألبانيُّ وحسّنه والأرنؤوط .

وقَال الحسنُ البصريُّ : مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ ، فَلا رَأْيَ لَهُ ... ثُمَّ قَرَأَ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) قَالَ الْحَسَنُ: مَكَرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ؛ أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفسيره .

وَقَالَ قَتَادَةُ : بَغَتَ القَومَ أمرُ اللَّهِ ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قَوْمًا قَطُّ إِلاَّ عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ ؛ فَلا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ ، إِنَّهُ لا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .
وقَالَ عُمَرُ بنُ ذَرٍّ : يَا عِبَادَ اللَّهِ لا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ : (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) . رواه ابنُ أبي الدنيا في " العقوبات " .
والإمامُ مسلمٌ لَمّا رَوى حديثَ عُِتبانَ بنِ مَالكٍ ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : فإنَّ اللهَ قد حَرَّمَ على النارِ مَن قال : لا إلهَ إلا اللهُ يَبتغِي بِذلكَ وَجْهَ اللهِ . أعقبَه - رحمَه اللهُ - بقولِ الإمامِ الزُّهريِّ : ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ نَرَى أَنَّ الأَمْرَ انْتَهَى إِلَيْهَا ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَغْتَرَّ فَلا يَغْتَرَّ .

ومِن هَوانِ الإنسانِ على اللهِ : أن يُمكّنَ مِن المعصيةِ ، ولا يُمنَعَ مِنها ، ولا يُحجَزَ عنها .
قال الحسنُ البصريُّ في أهْلِ الْمَعَاصِي : هَانُوا عليه فَعَصَوه ، ولو عَزُّوا عليه لَعَصَمَهم .

وتذَكَّرْ أن التمكينَ مِن المعاصي خُذْلانٌ
قال ابنُ القيمِّ : وقد أجمعَ العَارِفُونَ على أن كلَّ خيرٍ فأَصْلُه بِتَوفيقِ الله للعبدِ ، وكُلَّ شرٍّ فأَصْلُه خُذلانُه لِعبدِه .
وأجْمَعوا أنَّ التوفيقَ أنْ لا يَكِلَكَ اللهُ إلى نفسِك ، وأنَّ الخذلانَ أنْ يُخَلِّي بَينك وبينَ نفسِك .
فإذا كان كلُّ خيرٍ أَصْلَه التوفيقُ ، وهو بِيَدِ الله لا بِيَدِ العبدِ ؛ فمِفْتَاحُه الدعاءُ والافتقارُ، وصِدقُ اللّجَأِ والرغبةِ والرهبةِ إليه .
فمتى أعْطَى العبدَ هذا المفتاحَ فقدْ أرادَ أنْ يَفتحَ له . ومتى أضَلَّه عنِ المفتاحِ بَقِيَ بابُ الخيرِ مُرْتَجًا دُونه . اهـ .

وأعظَمُ العقوبة : أن يُعاقَبَ الإنسانُ ، وهو لا يَشعُر ، أو يَعيش وهو بِاللهِ مُغْتَرّ .
قال ابنُ الجوزيِّ :
اعْلَمْ أنه مِن أعظمِ الْمِحَنِ : الاغترارُ بالسلامةِ بعد الذَّنْبِ ، فإنَّ العقوبةَ تتأخّرُ .
ومِنْ أعظمِ العقوبةِ ألاّ يُحِسَّ الإنسانُ بها ، وأنْ تكونَ في سَلْبِ الدِّينِ ، وطَمْسِ القلوبِ ، وسُوءِ الاختيارِ للنَّفْسِ ، فيكونَ مِن آثارِها : سَلامَةُ البَدَنِ ، وبُلوغُ الأغراضِ .
قال بعضُ الْمُعْتَبِرِين : أطْلَقْتُ نَظَري فيما لا يَحلُّ لي ، ثم كنتُ أنتظِرُ العقوبةَ ، فأُلْجِئتُ إلى سَفَرٍ طَويلٍ ، لا نِيّةَ لي فيه ، فَلَقِيتُ الْمَشَاقَّ ، ثم أعْقَبَ ذلك: مَوْتُ أعزِّ الْخَلْقِ عندي، وذهابُ أشياءَ كان لها وَقْعٌ عظيمٌ عندي ، ثم تَلافَيْتُ أمْري بالتوبةِ ، فَصَلُحَ حَالي .
ثم عادَ الْهَوى ! فَحَمَلَني على إطلاقِ بَصَرِي مَرّةً أخرى ، فَطُمِسَ قَلْبي ، وعُدِمْتْ رِقّتُه ، واسْتُلِبَ مِنّي ما هو أكثرُ مِنْ فَقْدِ الأوّلِ ، ووَقَعَ لي تعويضٌ عنِ المفقودِ بما كان فَقْدُه أصْلَحَ .
فلما تأمّلْتُ ما عُوِّضْتُ وما سُلِبَ مِنّي ، صِحْتُ مِن ألَمِ تلك السِّيَاطِ ، فها أنا أُنَادِي مِن على السَّاحِلِ : إخواني ! احذرُوا لْجُةَ هذا البَحْرِ، ولا تَغْتَرّوا بِسُكُونِه، وعَليكم بِالسَّاحِلِ ، ولازِمُوا حِصْنَ التقوى ، فالعقوبةُ مُرَّة .
وقال رحمَه اللهُ :
قال أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجَلاءِ : كُنْتُ وَاقِفًا أَنْظُرُ إِلى غُلامٍ نَصْرَانِيٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ ، فَمَرَّ بِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ ، فَقَالَ : إِيشِ وُقُوفُكَ ؟ فَقلت : يَا عَمُّ ! مَا تَرَى هَذِهِ الصُّورَةَ ، تُعَذَّبُ بِالنَّارِ ؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، وَقَالَ : لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ .
قَالَ ابْنُ الْجَلاءِ : فَوَجَدْتُ غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ .
(ذمّ الهوى) .

قِفْ مع نَفْسِك وحَاسِبْها قبلَ أنْ تُحاسَبَ :
إذا رأيتَ في نفسِك خِفّةً على اللهوِ والمعصيةِ ، وتَثاقُلا عنِ الطاعةِ ؛ فابكِ نَدَمًا ، واستَعْتِب ربَّك قبل النَّدَمِ والْحَسَراتِ ، فإنه سيُقالُ لأقْوامٍ : (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) .
قال الحسنُ : اعلمْ أنك لنْ تُحِبَّ اللهَ حتى تُحِبَّ طاعَتَه .
وسُئلَ ذو النون : متى أُحِبُّ رَبّي ؟
فقال : إذا كانَ ما يُبغِضُه عندَك أمَرَّ مِنَ الصَّبِر .

اتْرُكْ أثَرًا صالْحًا
فأُمَمُ الأرضِ قديما وحديثا : تَعْرِفُ مَنْ هو الْمُصلِحُ ، ومَن هو الْمُفسِدُ ، وتُفرِّقُ بينَ الصالِحِ والفاسِدِ
ففي قصةِ إخوةِ يوسفَ عليه الصلاةُ والسلامُ : (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) .
وفي خَبَرِ قارونَ : (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) .

فانظُرْ إلى نفسِك : مِن أيِّ الفريقين أنت ؟
سَتَذهبُ الدنيا ، ويَبقى الأثرُ : صالِحًا كانَ أو فاسِدًا ..
قال قُسُّ بنُ سَاعِدَةَ :
فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا يَسْعَى الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرْ
لا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ

اسْتَوْقَفَتْنِي تلك الآيةُ التي أردِّدُها كلَّ يومٍ وليلةٍ ، في كلِّ صلاةٍ ، بل في كلِّ رَكعةٍ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
وقد ذَكَرَ ابنُ جريرٍ الأقوالَ في تفسيرِ الصراطِ المستقيمِ ، ثم قالَ :
وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ عِنْدِي ، أَعْنِي : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ : وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ ، وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ ، مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ . وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ؛ لأَنَّ مَنْ وُفِّقَ لِمَا وُفِّقَ لَهُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ، فَقَدْ وُفِّقَ لِلإِسْلامِ ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَالانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ، وَاتِّبَاعِ مَنْهَجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَمِنْهَاجِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَكُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ . وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . اهـ .

فهل أنت على هذه الْجادّةِ ؟!

قال ابنُ كثيرٍ رحمَه اللهُ: وَالَّذِينَ أَنْعَم عَلَيْهِمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ قَالَ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) .
قال : أَيْ : مَنْ عَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم ، وَتَرَكَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقًا لِلأَنْبِيَاءِ ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، ثُمَّ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُمُ الصَّالِحُونَ الَّذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلانِيَتُهُمْ . اهـ .

فأقلُّ منازِلِ أهلِ الصراطِ المستقيمِ : الصلاحُ ، وفي التشهّدِ :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَوَاتُ ، وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ . رواه البخاري ومسلم .
ليَسألْ كلٌّ مِنّا نَفْسَه : هل أنا مِن الصالِحين ؟
وهل هو داخِلٌ في قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ؟
وهل تُصيبُه دعوةُ عِبادِ اللهِ الْمُصَلِّين إذا قَالُوا : السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؟
وكلٌّ مِنّا أعرف بِنفسِه ؛ فلا يَغتَرّ .

وكان الصالحون يَهضِمونَ أنفسَهم
خَطَب أبو بكرٍ الصدّيقُ رضي الله عنه فقال : ألاَ وإِنِّي قَد وُلّيتُ عَلَيكُم ولَستُ بأخيَرِكُم . قال الْحَسَنُ البَصري : هو واللَّهِ خَيرُهُم غَيرُ مُدافَعٍ ، ولَكِنَّ المُؤمِنَ يَهضِمُ نَفسَه . رواه البيهقي .
وقال أيّوب السّختياني : إذا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ كُنْتُ مِنْهُمْ بِمَعْزِلٍ . رواه أبو نُعيم في " حلية الأولياء " والبيهقي في " شُعب الإيمان " .
وقال مَالِكُ بْنُ دِينَار : إذا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَأُفٍّ لِي وَأُفٍّ . رواه أبو نُعيم في " حلية الأولياء " والبيهقي في " شُعب الإيمان " .
وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ الْمُزَنِيّ : أَفَضْتُ مَعَ أَبِي مِنْ عَرَفَةَ ، فَقَال لِي : يَا بُنَيَّ ، لَوْلا أَنِّي فِيهِمْ لَرَجَوْتُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ . رواه البيهقي في " شُعب الإيمان " .

فاللهم رُحمَاك يوم تُبلَى السرائرُ
قال ابنُ كثيرٍ في قولِه تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) أَيْ : تَظْهَرُ الْمُسْتَتِرَاتُ وَالْمَكْنُونَاتُ وَالضَّمَائِرُ . اهـ .

ولا يَعني هذا أنْ ييأسَ الإنسانُ ، ولا أنْ يَقنَطَ مِن رحمةِ ربِّه تبارَك وتعالى ، وإنما يَعني أنْ يكونَ على وَجَلٍ وخَشْيَةٍ .

وكان السَّلَفُ يُرجِّحُون جانبَ الخوفِ حالَ الصِّحّةِ ، ويُرجِّحُون جانبَ الرجاءِ حالَ المرضِ والاحتضارِ .
وَلَهُم في رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسوَةٌ وقُدوةٌ .
فقد قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا ، وَالآيَةُ : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). رواه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ وابنُ ماجه ، والحاكمُ وصححَه ، ووافَقَه الذهبيُّ .

وكان السَّلَفُ يَقِفُون مع الآياتِ ويُنَزِّلُونَها على أنفسِهم
قام مُحَمَّدُ بنُ الْمُنْكَدِرِ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي إِذِ اسْتَبْكَى وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ حَتَّى فَزِعَ أَهْلُهُ ، وَسَأَلُوهُ مَا الَّذِي أَبْكَاهُ فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ، وَتَمَادَى فِي الْبُكَاءِ فَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي حَازِمٍ فَأَخْبَرُوهُ بِأَمْرِهِ ، فَجَاءَ أَبُو حَازِمٍ إِلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ يَبْكِي ، قَال : يَا أَخِي ، مَا الَّذِي أَبْكَاكَ ؟ قَدْ رُعْتَ أَهْلَكَ ، أَفَمِنْ عِلَّةٍ ؟ أَمْ مَا بِكَ ؟ قال : إنَّهُ مَرَّتْ بِي آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَال : وَمَا هِيَ ؟ قَال : قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) قَال : فَبَكَى أَبُو حَازِمٍ أَيْضًا مَعَهُ وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُمَا ، قَال : فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِهِ لأَبِي حَازِمٍ : جِئْنَا بِكَ لِتُفَرِّجَ عَنْهُ فَزِدْتَهُ ، فَأَخْبَرَهُمْ مَا الَّذِي أَبْكَاهُمَا . رواه أبو نُعيم في " حلية الأولياء " .
وجَزِعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَجْزَعُ ؟ فَقَالَ : أَخْشَى آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ لِي مِنَ اللهِ مَا لَمْ أَكُنْ أَحْتَسِبُ. رواه أبو نُعيم في " حلية الأولياء "

وذَكَر عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ بنِ أسْلَمَ عُمَرَ وَأَبَا بَكْرٍ ابْنَيِ الْمُنْكَدِرِ قَال : لَمَّا حَضَرَ أَحَدَهُمَا الْوَفَاةُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيكَ ؟ إِنْ كُنَّا لَنَغْبِطُكَ لِهَذَا الْيَوْمِ قَال : أَمَا وَاللهِ مَا أَبْكِي أَنْ أَكُونَ أَتَيْتُ شَيْئًا رَكِبْتُهُ مِنْ مَعَاصِي اللهِ اجْتِرَاءً عَلَى اللهِ ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ أَتَيْتُ شَيْئًا أَحْسِبُهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ .
قَال : وَبَكَى الآخَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَقِيلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ لِقَوْمٍ : (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فَأَنَا أَنْظُرُ مَا تَرَوْنَ ، وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَبْدُو لِي . رواه البيهقيُّ في " شُعب الإيمان " .

هذا مع صلاحِهم ، كانوا يَخافُون ، وكثيرٌ مِنّا يأمَنُ على نفسِه مع إساءتِهِ .

قال ابنُ أبي العِزِّ في " شرحِ الطحاويةِ " : يَقُولُ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أَيْ : هُمْ مَعَ إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا . اهـ . وقولُ الحسنِ هذا : رواه ابنُ المبارَكِ في " الزُّهدِ " وابنُ جريرٍ في تفسيرِه .

لَمّا عَرَفَ السَّلَفُ حقيقةَ الدنيا اجْتَهَدوا في الطاعاتِ اجتهادًا لا نَظِيرَ له .

قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ : لَوْ قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعَمَلِ شَيْئًا. رواه أبو نُعيم في " حلية الأولياء " .

وكان مِنهم مَن يُصلّي في اليومِ والليلةِ ألفَ ركعةٍ ، ومنهم مَن يُصلّي دون ذلك .
وقد يستغربُ البعضُ هذا العددَ ، أو يحسِبُه بِعمليةٍ حسابيةٍ بَحتَةٍ !
وهذا غيرُ صحيحٍ في العباداتِ ؛ فقد يُوفّقُ بعضُ الناسِ للعَمَلِ الصالحِ ، ويُبارَكُ له فيه ، ويُكرَمُ بِعمَلِ العملِ الكثيرِ في الزمنِ القليلِ .

قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : خُفِّف على داودَ عليه السلام القرآنُ ، فكانَ يأمُرُ بِدَوابِّه فتُسْرَجُ ، فيقرأُ القرآنَ قبل أنْ تُسْرَجَ دَوابُّه . رواه البخاريُّ .

قال ابنُ حَجَرٍ : وفي الحديثِ : أن البَرَكةَ قد تَقَعُ في الزّمَنِ اليسيرِ حتى يَقعَ فيه العملُ الكثيرُ . قال النوويُّ : أكثرُ ما بَلَغَنا مِن ذلك مَن كان يقرأُ أربعَ ختماتٍ بالليلِ وأربعا بالنهارِ . اهـ .
والمرادُ بِالقُرآنِ : القراءةُ ، كما في الروايةِ الثانيةِ للبخاريِّ .

وقال ابنُ بطّالٍ : وقد رُوي عن جماعةٍ مِن السَّلَفِ أنهم كانوا يَختِمُونَ القرآنَ في رَكعةٍ ، وهذا لا يُمكِنُ إلاّ بِالْهَذِّ ، والْحُجةُ لِهَذا القَولِ حديثُ أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خُفِّفَ على داودَ عليه السلام القرآنُ ، فكان يأمُرُ بِدَوابِّه فتُسْرَجُ ، فيقرأُ القرآنَ قبل أن تُسْرَجَ دَوابُّه " ، وهذا لا يَتمُّ إلاّ بِالْهَذّ وسُرْعةِ القراءةِ . والمرادُ بِالقرآنِ في هذا الحديثِ الزّبُورُ . اهـ . ويُنظَرُ فَتْحُ الباري لابنِ حَجَرَ في الخلافِ في المرادِ بِالقُرآنِ .

ونَقْلُ مِثلِ هذه الآثارِ فيه شَدٌّ للعَزائمِ ، فإنَّ السَّلَفَ كانوا يَنْظرون في الطاعاتِ إلى مَن هُو فَوقَهم .
كان الربيعُ بنُ خثيمٍ يَبكِي حتى يَبلَّ لِحْيتَه مِن دُمُوعِهِ ، فيقولُ : أدْرَكْنا قومًا كُنّا في جنوبِهم لُصُوصًا . رواه الإمامُ أحمدُ في " الزُّهدِ " .

وقال محمدُ بنُ إسحاقَ : قَدِم علينا عبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ حاجًّا ، فاعْتَلَّتْ إحدى قَدَمَيه ، فقامَ يُصلي حتى أصبحَ على قَدَمٍ . رواه البيهقيُّ في " شُعبِ الإيمانِ " ومِن طريقِه : ابنُ عساكِرَ في " تاريخِ دمشقَ " .
يومُ القيامة : يُسمّى يَومُ الْحَسْرَةِ والنّدَامَة
قال أبو بكرٍ الطرطوشيُّ: كلما ازدادَ الخيرُ كثرةً كان الخارِجُ منه أشدَّ حسرةٍ .

وقال ابنُ القيمِ : وأعْظَمُ النَّقْصِ وأشدُّ الْحَسْرَةِ : نقصُ الْقَادِرِ على التَّمامِ وحسرتُه على تَفْوِيتِه ... وَصدَقَ الْقَائِلُ :
وَلم أرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبا ... كَنَقصِ القادِرين على التَّمامِ
فَثَبتَ أنه لا شَيْءَ أقبحُ بالإنسانِ مِن أنْ يكونَ غافِلا عَن الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ والعلومِ النافعةِ والأعمالِ الصَّالِحَة . اهـ . (مفتاح دار السعادة)

وخِتَامُ القَولِ ومِسْكُه قولُه جَلّ شأنُه : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .
قال القرطبيُّ : أَيْ دَارُ الْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لا تَزُولُ وَلا مَوْتَ فِيهَا . اهـ .

الرياض – محرم 1441 هـ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالرحمن السحيم
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • إنه الله
  • محمد رسول
  • المقالات العَقَدِيَّـة
  • قضايا الأمّـة
  • مقالات تربوية
  • مقالات وعظية
  • تصحيح مفاهيم
  • قصص هادفة
  • موضوعات أُسريّـة
  • تراجم وسير
  • دروس علمية
  • محاضرات مُفرّغة
  • صفحة النساء
  • فتاوى شرعية
  • الصفحة الرئيسية