اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/omdah/170.htm?print_it=1

شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث 174 في لعن الْمُتَّخِذِين الْمَسَاجِد على قبور الأنبياء

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 

وعنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ .
قَالَتْ : وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا .

في الحديث مسائل :

1 = في مرضه الذي لم يَقُم مِنه ، أي : مَرَض الْمَوْت .
في رواية في الصحيحين من حديث عائشة وعبد الله بن عباس قالا : لَمَّا نَـزَل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم كشفها عن وَجهه ، فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . يُحذِّر مثل ما صنعوا .

2 = هذا يَدُلّ على التشديد ؛ وحرصه صلى الله عليه وسلم على حِماية جناب التوحيد
وهذا أمْر قد اهْتَمّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في حال وَداع هذه الدنيا واللحاق بالرفيق الأعلى .

3 = تضمّن هذا الحديث النّهي الأكيد عن اتِّخاذ القبور مساجد والتّشديد في ذلك .
ففي حديث جندب قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بِخَمْس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألاَ فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك . رواه مسلم .

4 = لَعْن أصحاب الأفعال التي مَن فَعَلها اسْتِحَقّ اللعن ، وهذا على سبيل العُموم .
وفي لَعن المعين تفصيل :
إن كان اللعن على سَبِيل الدعاء ؛ جـاز لعنه
وإن كان على سبيل الإخْبَار ؛ فلا يَجوز إلاَّ في حَقّ من ثَبَت في حقِّـه اللعن .

5 = معنى اتِّخاذ القبور مساجد :
المساجد أماكن الصلاة والعبادة والقبور ليست كذلك .
ولذا جاء في الحديث : اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا . رواه البخاري ومسلم .
ومِن ذلك :
بناء المسجد على القبر ، وهو باب من أبواب الشرك ، ويشتدّ الأمر إذا كان المقبور يُدَّعى فيه الصلاح .
وأعْظَم مِنه أن يُتَّخَذ القبر مزارا ، ويُطاف به ، وأشد ما يَكون أن يُتَّخَذ الميت إلها مِن دون الله ، يُسأل قضاء الحاجات ، وشِفاء الأمراض ، والفَرَج والرِّزق ، وغير ذلك ، مما لَم يَفعله رؤوس الكُفر في الجاهلية الأولى ؛ لأنهم إنما اتَّخذوا الآلِهة لِتُقرِّبُهم إلى الله – بِزعمهم – وكان في تلبيتهم : إلاَّ شَرِيكًا هو لَك ، تَمْلِكُه ومَا مَلَك . كما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ومِنه : دَفْن الميت في المسجد أو في نواحيه .
وكل ذلك حرام . بل هو مِن كبائر الذنوب ، وقد يصِل بصاحبه إلى الشرك والخروج مِن الْمِلَّة .

6 = تحريم الصلاة عند القبور ، سَـدًّا لِذرِيعة الشِّرْك .
قال ابن عبد البر : وقد احْتَجَّ مَن كَرِه الصلاة في المقبرة بهذا الحديث ، وبِقوله عليه السلام : إن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد .
وقال ابن رجب : وقال أبو بكر الأثرم في كتاب " الناسخ والمنسوخ " : إنما كُرِهت الصلاة في المقبرة للتَّشَبه بأهل الكتاب ؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد .

7 = " لأبْرِز قبره " ، ولذلك دُفِن في عليه الصلاة والسلام بَيْتِه ، ولم يُدْفَن في البقيع .

8 = في هذا الحديث رَدّ على أهل البِدَع الذين يستَدِلُّون على بِدعة اتِّخاذ القبور مساجد ، أو وَضْع القُبور في المساجد بِأنَّ قَبْرَه عليه الصلاة والسلام في مَسْجِدِه .

والرَّد عليهم من عِدَّة وُجوه :

الأول : أنَّ هذا قوله عليه الصلاة والسلام يُحذِّر مَا صَنَعوا . كما قالتْ عائشة رضي الله عنها ، والقَوْل أبْلَغ مِن الفِعْل . هذا لو كان وَضْع القَبْر كان مِن فِعْلِه عليه الصلاة والسلام .
فإن الْمُتَقَرِّر عِند عُلماء الًاصول أنه إذا تَعَارَض القول والفِعْل قُدِّم القول على الفِعْل .
كيف والفِعْل أصلا ليس مِن فِعْلِه .

الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لم يُدْفَن أصلا في مسجده ، وإنَّما دُفِن في بيته ، وبَيْـتُه جوَار مسجده .
ثم أُدْخِل بيته صلى الله عليه وسلم في مُحيط مسجده حِرَاسة لِقَبْرِه من الـنَّـبْش .

الثالث : أن إدخال القبر إلى المسجد ليس مِن فعله عليه الصلاة والسلام ، بل مِن فِعْل التابعين ، كما ذَكَر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .

الرابع : أنهم مع ذلك قد احْتاطَوا لذلك سَـدًّا لِذَرِيعة الشِّرْك .
قال ابن عبد البر : لِهَذا الحديث - والله أعلم - ورواية عُمر بن عبد العزيز له عن من رَواه أمَرَ في خلافته أن يُجْعَل بُنْيَان قَبْر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَدَّدًا بِرُكْن وَاحِد لئلا يُسْتَقْبَل القَبْر فَيُصَلَّى إليه .
وقال النووي : قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِتِّخَاذ قَبْره وَقَبْر غَيْره مَسْجِدًا خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيمه وَالافْتِتَان بِهِ ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْكُفْر كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الأُمَم الْخَالِيَة .
وَلَمَّا اِحْتَاجَتْ الصَّحَابَة - رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَة إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوت أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ ، وَمِنْهَا حُجْرَة عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - مَدْفِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْر وَعُمَر - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - بَنَوْا عَلَى الْقَبْر حِيطَانًا مُرْتَفِعَة مُسْتَدِيرَة حَوْله لِئَلا يَظْهَر فِي الْمَسْجِد ، فَيُصَلِّي إِلَيْهِ الْعَوَامّ وَيُؤَدِّي الْمَحْذُور ، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ الْقَبْر الشَّمَالِيَّيْنِ ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى اِلْتَقَيَا حَتَّى لا يَتَمَكَّن أَحَد مِنْ اِسْتِقْبَال الْقَبْر ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث : لَوْلا ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْره ، غَيْر أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا . اهـ .

الخامس : أنه مَع ذلك بقي في ناحية المسجد ، وليس في وسط المسجد .
قال أبو العباس القرطبي : بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فأَعْلوا حيطان تربته ، وسَدُّوا المداخل إليها ، وجعلوها مُحْدِقة بقبره صلى الله عليه وسلم ، ثم خافوا أن يُتّخذ موضع قبره قِبلة -إذ كان مستقبل المصلين - ، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبَنَوا جِدَارين مِن رُكني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال ، حتى لا يَتمكّن أحدٌ مِن استقبال قبره ، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة : " ولولا ذلك أُبرز قبره " . اهـ .

السادس : أنَّ آل البيت أقْرَب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم كانوا لا يَفْعَلُون ذلك عند قبره صلى الله عليه وسلم . بل فَهِمُوا أنَّ نَهْيَه صلى الله عليه وسلم يَتَناول ذلك كُلّه ، بما فيه قبره عليه الصلاة والسلام .
فابْنُ عُمر رضي الله عنهما كان لا يَزيد على السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ثم يَنْصَرِف .
وروى ابن أبي شيبة من طريق علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين أنه رأى رجلا يَجيء إلى فُرْجَة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فَيدعو ، فَدَعَاه ، فقال : ألا أُحَدِّثُك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا ، وصَلُّوا عَليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم .
قال ابن القيم رحمه الله : وهذا أفضل التابعين من أهل بَيْتِه علي بن الحسين رضي الله عنهما نَهَى ذلك الرجل أن يَتَحَرّى الدعاء عند قبره ، واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسَمِعَه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنه - وهو أعلم بِمَعْنَاه مِن هؤلاء الضُّلاّل - وكذلك ابن عمه الْحَسَن بن الْحَسَن - شيخ أهل بَيْتِه - كَرِهَ أن يَقْصد الرجل القبر إذا لم يكن يُريد المسجد ، ورأى أن ذلك مِن اتِّخَاذِه عِيدًا .
قال شيخنا [ يعني ابن تيمية ] : فانْظُر هذه السُّـنَّـة كيف مَخْرَجها مِن أهْل المدينة ، وأهل البيت الذين لهم مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرْب الـنَّسَب وقُرْب الدَّار ؛ لأنهم إلى ذلك أحْوَج مِن غيرهم ، فكانوا له أضبط . اهـ .

9 = مع هذا التحذير مِنه عليه الصلاة والسلام ، ونَهْي أمّـتِه عن الوقوع فيما وقَعَت فيه اليهود والنصارى ، إلاَّ أن هناك مَن خَاَلف أمره صلى الله عليه وسلم وعَصَاه ، وفَعَل كما فَعَلَت اليهود والنصارى مِن الغُلو في الأنبياء والصالحين .
وكَمَا نَهَى عليه الصلاة والسلام عن إطرائه والغُلو فيه كما أطْرَتِ النَّصارى عيسى ابن مريم ، وأضْفَوا عليه شيئا مِن صِفات الله ، إلاَّ أن هناك من جاوز هذا النَّهي ووقع فيما نَهَى عنه عليه الصلاة والسلام فأضَاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مِن صِفَات الله تعالى .
يقول صاحب البردة مُخاطِبا النبي صلى الله عليه وسلم :
يا أكرم الْخَلْق مَا لي مَن ألُوذ به *** سِواك عِند حُدُوث الحادِث العَمِمِ
فإنَّ مِن جُودِك الدُّنيا وضّرَتها *** ومِن عُلومك عِلْم اللوح والقلمِ

فهذا مِن جِنْس ما فعلته النصارى مع عيسى ابن مريم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : لا تُطْرُوني كَما أطْرَتِ النَّصارى ابن مريم ، فإنما أنا عَبْده ، فَقُولوا : عبد الله ورسوله . رواه البخاري .

10 = الـنَّهْي عن اتِّخاذ القبور مساجد ليس لأجل القبُور ، بل لأجل تعظيم الْمَقْـبُـور والغُلوّ فيه . فإن الناس تُفَتَن بالرَّجُل الصَّالِح ، وقد تتعدّى الْحَدّ فـتُنْزِل الرَّجُل فوق منْزِلته .

11 = شُبْهَة وجَوابها :
مِن أعْظَم ما يستَدلّ به عُبَّـاد القبور قوله تعالى : (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)
قال ابن كثير في تفسير الآية :
حَكَى ابن جرير في القائلين ذلك قولين :
أحدهما : أنَّهم الْمُسْلِمُون مِنهم .
والثاني : أهل الشِّرْك مِنهم ، فالله أعلم .
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصْحاب الكَلِمَة والـنُّفُوذ ، ولكن هل هم مَحْمُودُون أم لا ؟ فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله اليهود والنصارى اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم وصَالِحِيهم مَسَاجِد ، يُحَذِّر ما فَعَلوا . وقد رُوِّينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لَمَّا وَجَد قبر " دانيال " في زمانه بالعراق أمَر أن يُخْفَى عن الناس ، وأن تُدْفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها .

ولو افترضنا أنه على القول الأول ، وأنَّ الذين فَعَلُوا ذلك هم الْمُسْلِمُون، فهو لا يَعْدو كونه مِن فِعْل الناس ، وليس مما جاءت به الأنبياء والرُّسُل ؛ فليس فيه حُجَّـة في بناء المساجد على القبور ، ولا في إدخال القبور إلى المساجد ؛ لأنه وَرَد في شرعنا المنع من ذلك .
ثم هو ليس مَحَلّ مَدْح ، بل هو محلّ ذم .

والله تعالى أعلم .


 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية