صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الغالية ورقة سقطت

عبدالله بن محمد بادابود

 
فجأة وجدت نفسي أفكر في هذه الدنيا المتقلبة وفي هذه الحياة الغريبة بين فرح وحزن وسعادة وشقاء وضحك وبكاء طبعت على الكدر فهي دار فناء و ابتلاء .
أتذكر أناساً في حياتنا ، كانت لنا مواقف معهم ، كانت لنا علاقات معهم بين علاقات أسرية , أو علاقات أخويه إيمانية , أو علاقات دنيوية.

أتذكر صور كثيرة ، بين صور الوفاء المنقوش بكثير من النقاء وبين صور المكر والخداع والدهاء .
أتذكر صور مشرقة لها مواقف خالدة ، مواقف جميلة ، مواقف رائعة بروعة من رسمها .
أتذكر صور مظلمة ، قاتمة ، مخيفة ، مريبة لها مواقف قبيحة ، مخادعة مظلمة بظلمة قلوبهم التي لم ترى النور ولم تستمع بنور الحب والصفاء .
أتذكر صورة جميلة لإنسانة جميلة بأخلاقها وصفاتها وطيبتها .
أتذكر صورتها بكل تفاصيل تلك الصورة وأتذكر طلتها وبهائها بكل صور الجمال الرباني الخلقي الجميل المنقوش بدماثة الخلق وهيبة الشخصية وطيبة القلب .

فهي بالنسبة لي ليست كباقي النساء .

لم تكن اللقاءات بيننا متواصلة ومتصلة كانت بين فترة وفترة ، قد تمتد هذه الفترة لمدة طويلة تعد بالسنين أحياناً .
لم تكن تلك الفترة بسبب الجفاء أو القطيعة - كفانا الله وإياكم شر تلك الصفة الشنيعة - .
لم تكن تلك الفترة إلا لسبب بعد المسافة والغربة وظروف الحياة .

كانت وظيفة الزوج لتلك الرائعة هي المانع فقد كان مقر عمله يبعد عنا الكثير من الكيلوات بالمتر قيست وللبعد كانت سبب فلا عتب .

مرت السنين فكانت اللقاءات معدودة رغم القرابة والمنزلة والمكانة .
كل مرة نشاهدها نحبها ، نعجب بها ، نحس بالمشاعر الفياضة من قلب تلك الأوابة .
كانت تحب الجلوس معنا تحاكينا و تسامرنا و تناقشنا و تلاطفنا .
من سنوات مضت في صبانا وسنوات مضت في مقتبل شبابنا . وسنوات أتت في شبابنا .
أتذكر اللقاءات والكلمات وصفاء العبارات .
بعد فترة طويلة كان الخبر الجميل و الرائع هو خبر عودة هذه الغالية إلى مكة ، مقيمة غير مسافرة ، ساكنة غير ضيفة أو عابرة.
فرحنا كثيراً ، رغم بعدنا نحن عن مكة بسبب العمل فالمسلم لم يأمر بالكسل .
لم نلتقي كثيراً فكانت تأتي إلى منزلنا في فترات نكون نحن خارج الديار ولم يكن لنا في هذا البعد خيار .

أخر لقاء كان قبل عام ، سعدنا وتحدثنا وتكلمنا كثيراً كثيراً .


قبل الإجازة الصيفية الماضية كانت في زيارة لبيتنا وجلست مع أهلنا .

تقول الوالدة الكريمة - حفظها الله - : كانت الغالية في تصرفاتها غريبة ، تطيل الصمت وتنظر بغرابة .
قالت الغالية لو سمح زوجي لجلست معكم ثلاثة ليال لأرتاح قليلاً وألتقي بالفتية الشباب .
قالت الوالدة مرحباً ولك الدار ولك قبل الدار القلب مسكناً والعين قرار .
قدمنا في الصيفية كالعادة السنوية فرحاً للقدوم لمكة الغالية وفرحاً بالقرب من الأم الغالية .
ذات يوم جاء للوالدة اتصال ولم يكن في ثنايا الحديث سوى الترديد في السؤال عن الحال .
والتخفيف عن المتحدثة بين تذكير بأجر الصبر ونصح بمراجعة المستشفى وتهدئة .
أغلقت الوالدة الهاتف وقالت في حزن وألم الغالية مريضة وقالت ستذهب إلى المستشفى بعد قليل .

في الليل جاء اتصال مريب ، طارق الليل المخيف .
الغالية تدهورت صحتها بعد الآلام في الرأس .
الغالية في غرفة العناية تحتاج الدعاء ولا ينفع البكاء بل الدعاء الدعاء .
سقطت دمعات الأم الغالية بحرقة عالية .
في اليوم التالي ذهبنا للزيارة فكان الحال مفجع ومخيف الغالية في حالة إغماء ولكن كانت تردد يا الله يا الله .
بكت الوالدة وحبسنا دمعة حارة وحارقة .
في اليوم الثاني كانت المفاجأة السعيدة الغالية تتحدث وتبتسم ولكن كانت في حالة من التشتت الذهني الواضحة .
كانت تقول ه والدي بجواري – والدها الذي مات قبل سنين رحمه الله - .
كانت تقول أريد أن أرى أمي والدتها التي تسكن في مدينة في المملكة الغالية بعيدة .
مر اليوم وكنت أحس بسعادة الوالدة بعد أن اطمأنت على الغالية .
في اليوم التالي ذهبنا وكانت معنا زوجة خالي فلم أستطع أن أمكث كثيراً ، فقط سلمت على يد الغالية ورأيت ابتسامتها النقية الصافية .
وحاولت أن تقبل يدي فسحبت يدي فسحبت خدي وطبعت قبلة على خدي وكلمات الشكر على الزيارة .
ذهبت لزيارة أخي الذي كان يرقد أيضاً في مستشفى قريب على أن أجعل الوالدة وزوجة خالي يأخذون معها وقتاً طويلاً .
بعد أكثر من نصف ساعة جئنا لأخذهن .
سألت الوالدة قالت الغالية بخير لكن لا تميز الأشخاص أحياناً . وتستيقظ وتنام , ولا تشعر بأحد , عموماً هي أفضل بكثير من قبل والحمدلله .

عصر اليوم التالي جئت أنا وخالي ودخل هو قبلي وقال عبد الله نادي الطبيب .

كان وضع الغالية مؤسف فقرر الطبيب نقل فوري إلى العناية الفائقة ودخلت الغالية في حالة إغماء بعد الكثير من الإعياء .

كنا نزورها جثة هامدة لا حراك ، تنفس صناعي وأنابيب متصلة وأمل ضعيف جداً في البقاء ألم أقل لكم إنها دار فناء .
كنا نتناوب القراءة عليها فالقرآن للعبد شفاء .
بعد يومين من مكوثها في العناية المركزة قاموا بوضع قطن على العيون .
في يوم من تلك الأيام أثناء الزيارة لاحظت وجود لون أزرق على شفتيها ولم تحضر معي الوالدة في ذلك اليوم .
عند عودتي أخبرت الوالدة أطال الله في عمرها فقالت غداً سوف أزورها ,, كان يوم غد هو يوم الاثنين .
ذهبنا لزيارتها أنا وأمي وأخي وكان في المستشفى خالي وزوج خالتي الذي تنحى بعيداً عن قدومنا .

رأيت عبرات أمي وحزنها .

كان يراودني شيء عجيب كنت كلما أذكر اسم الغالية أقول الله يرحمها كان لدي إحساس أنها في عالم الأموات فكنت أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم دوماً .
يوم الاثنين بعد صلاة المغرب جاء اتصال هاتفي من خالي لأخي يخبره بشيء , أحسست بغرابته , سمعت لا حول ولا قوة إلا بالله الغالية ماتت .
كتمنا الخبر للحظات ثم أخبرنا الوالدة , ذهبت لمصلاها وظلت تبكي وأخبرنا الأهل فكان البكاء وليس غير البكاء بل كان هناك الدعاء , دعاء لها بالمغفرة والثبات .

ماتت الغالية !َ

غداً سيصلى عليها صلاة العصر في الحرم المكي الشريف ، بعد الظهر ستكون في مغسلة الموتى .

قدم الأقارب من كل حدب وصوب حزن و ألم وفراق ودموع وآهات وزفرات .
بعد أن تمت عملية الغسيل دخلنا لنسلم عليها قبلت رأسها ونظرت لها وهي جثة هامدة .
كم كان هذا الجسم يتحرك وكم تحرك ، كم كانت هذه اليد تأخذ وتعطي تكبر وتسبح .
كم كانت هذه العين تنظر وترى و تتفحص , وكم كان لكل خلية في هذا الجسم حركة ولهذا القلب نبضات .

كم كان لهذه الغالية من حب وشوق.

الآن هي أمام عيني جثة هامدة لا حركة لا نفس سكون مطبق ومخيف .
ذرفت دمعات حارة وذهبت فكان الموعد في الحرم للصلاة .
صلينا عليها بعد صلاة العصر , في الحرم المكي الشريف .
حملت الجنازة وسيأتي يوم سنُحمل تذكروا اليوم نستقبل التعازي وغداً يعزى فينا !
دفنت الغالية لم يدخل معها مال والله لم يدخل .

لم تدخل معها مجوهرات أو ذهب أو زينة والله لم يدخل .

لم يدخل معها ابنها القابع في تلك الزاوية يبكي ولم تدخل معها صغير تها التي أصبحت وردة ذابلة والله لم يدخلوا معها .

لم يدخل معها زوجها الذي أحبته رغم قسوته أحيانا والذي تعلقت به رغم عناده والله لم يدخل .

لا حسب لا مال لاجاه لا بنون ولا بنات .

دخل معها عملها صلاتها صيامها قراءتها للقران تسبيحها ذكرها لربها.

الكل عاد ولم يبقى رفيق ومؤنس للوحشة ومزيل للظلمة سوى العمل الصالح ..

مكثنا ندعو لها بالثبات كثيراً أملاً أن يغفر الله لها ولا يحرمنا أجرها .

ذهبنا لاستقبال العزاء ، حزن وبكاء .

أما الوالدة فكانت صابرة ولكن نرى فيها نظرات الحزن .


وأثناء سفري للعودة لمدينة العمل , في الطريق كانت الأفكار تراودني كثيراً و كانت الذكريات تؤرقني.

كنت أتفكر في هذه الدنيا المتقلبة .
الغالية عاشت وتمتعت بهذه الدنيا وذاقت الحلو فيها والمر ، الفرح والحزن ثم ذهبت وسنذهب نحن .

نحن في محطة الانتظار لن يخلد أحد ولن تدوم الحياة لأحد.

الغالية كانت مدرسة في حياتها وموتها كان درس , فيه من العبرة الكثير بين صحة ومرض وموت.

الغالية اسم نقش في قلوبنا قبل أن ينقش على صفحات الزمان .

الغالية ورقة سقطت وبسقوطها انتهت حياة هذه الرائعة ,, فمتى ستسقط ورقتي وورقتك في علم ربي غيبها وأين ستكون نهايتها .

الغالية الحبيبة هي خالتي العزيزة .

اللهم ارحمها وعافها وأعفو عنها و أكرم نزلها ووسع مدخلها .

هـــدى :

قال تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }

نور من السنة :

قال صلى الله عليه وسلم : [ أكثروا من ذكر هادم اللذات ] رواه الترمذي .

وقفه :
هذه لم تكن كلماتي هذه كانت دموعي سقطت ووقعت وسطرت ونقشت.

لم أتمالك نفسي ولم أتمالك التحكم بها , فكتبت اسمها بدموع الحب والشوق .

وهج :
إن فرقت الدنيا بين الأحبة وكان لهم مع الحزن موعداً فالموعد المرتقب بإذن الله هو الفردوس من الجنان بصحبة الرسول العدنان بقدرة الكريم المنان .

بقلم : عبدالله بن محمد بادابود
A.Badabood@gmail.com

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله بادابود
  • مقالات
  • كتب
  • دورات
  • الصفحة الرئيسية