اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/bakkar/013.htm?print_it=1

{ وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ }

أ.د. عبدالكريم بكار

 
أنزل الله - جلَّ وعلا - في المنافقين سورة سُميت باسمهم ، تفضح بعض مواقفهم ، وتُخبر عن بعض صفاتهم ، وكان من جملة ما نَعَتَهُمْ الله تعالى به قوله : { وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [1] .
فقد وصفهم الله - تعالى - بأن الناظر إليهم يُعجبُ بجمال أجسامهم ، ومن يسمعهم يُؤخذ بفصاحة ألسنتهم ، لكنهم كالهياكل الفارغة ، أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام ...
وهذه الصفات تتناسب مع حالة النفاق ، إذ إن ظاهر المنافق دائماً خير من باطنه ، فظاهره الإيمان ، وباطنه الكفر ، وهو ذلق اللسان ، لكنه يقول غير ما يعتقد ؛ فهو كذاب ، وهو جميل الصورة ، لكنه عاطل من الصفات النبيلة كالإيمان والمروءة والرجولة ، وكل ما يزين الباطن .
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : » كان عبد الله ابن أُبي (رأسُ النفاق) وسيماً جسيما صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم- مقالته « [2] .
ولمّا كان للظاهر سلطانه القوي في التأثير ، وانتزاع الإعجاب علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم- أصحابه ضرورة تجاوزه إلى المعاني الباطنية ؛ لأنها هي الفيصل الحقيقي في تقييم الرجال ؛ وقد ورد في الحديث الصحيح : أن رجلاً مرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : ما تقولون في هذا ؟ « قالوا : حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع يُشفع ، وإن قال أن يُستمع إليه « قالوا : » حريٌّ إن خطب ألا يُنكح ، وإن شفع ألا يُشفَّع ، وإن قال ألا يُستمع إليه « ثم مر رجل آخر ، فقال : » ما تقولون في هذا « . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : » هذا خير من ملء الأرض مثل هذا [3] ففضَّل النبي صلى الله عليه وسلم الفقير على الغني ، وذلك لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني ، إنما أراد أن يعلمهم أن التفاضل لا يقوم أبداً إلا على المعاني الباطنية ، وما يتبعها من أعمال .
وتطرح هذه الآية الكريمة مسألة خطيرة في حياة الإنسانية بعامة وحياة المسلمين بخاصة ، هي قضية العلاقة بين الشكل والمضمون ، أو الجوهر والمظهر [4] .
ونعني بالجوهر ابتداءً : مجموع الخصائص الخُلُقِيَّة والنفسية . والصور الذهنية ، والخبرات والموازنات العميقة للفرد .
أما المظهر : فإنه مجموع ما يحمله الفرد من الصفات الجسمية ، وما يمتلكه من الأشياء ، وما يتحمله من وظائف ، مما لا يعد على صلة مباشرة بكينونته الذاتية .
في البداية ليس الجوهر والمظهر شيئين منفصلين انفصالاً تاماً ، بل بينهما علاقة تأثر وتأثير وأخذ وعطاء ، وقد ورد ما يدل على هذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمسح مناكب أصحابه في الصلاة ، ويقول : » استووا ، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم « [5] . والمرء حين ينشرح صدره يظهر ذلك على مُحيّاه ، ومن ثم قيل : » من كثرت صلاته بالليل ضاء وجهه في النهار « .
وإذا كان بين الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتلازم فإن من البدهي ألا يزهِّد الإسلام الناس في الشكل ؛ فالصلاة موقف روحي بحت ، ومع ذلك حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على انتظام الصفوف فيها ، والأمر قريب من ذلك في صفوف القتال .
وحث الإسلام على النظافة ، كما امتنَّ الله - تعالى - علينا بما نشعر به من التأنق عند غدوِّ الأنعام ورواحها ، كما قال سبحانه : { ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ } [6] ، وتلك مسألة شكلية . والأمثلة على هذا أكثر من أن تُحصى .

إذن ما هي المشكلة ؟
تكمن المشكلة في اختلال التوازن بين الجوهر والمظهر ، أو بين المضمون والشكل ؛ فالبشر متفقون على أن اللباب هو الأصل ، وأنه ينبغي أن يُعطي من الاهتمام والعناية والبلورة القسط الأكبر لأن كل الإنجازات الحقيقية التي تتم على السطح نابعة أساساً من إنجازات تمت على مستوى الكينونة والجوهر . وهذا يتناسب مع حقيقة تسخير الكون الذي حبا الله - تعالى - به الإنسان ؛ كيما يظل حراً طليقاً يحكم ويأمر دون أن يُكَبَّل ! بشيء من صنع يديه !
وللمجتمع وما يقره من أعراف سلطانٌ كبير على الناس ، ولما كان الحكم الاجتماعي منصباً على الشكل كان الانحدار نحو الاهتمام بالشكل هو الأمر الطبيعي المتبادر إليه ، أما العناية بالجوهر فيمكن أن تنمو عن طريق التربية الخاصة في الأسرة أو المدرسة ، لكن ذلك سيظل ضعيف التأثير ما لم يكن المجتمع كله خاضعاً لمبادئ عليا خارجة عن إنتاجه ، ولن يكون مصدر تلك المبادئ حينئذ الأرض ، وإنما السماء ! لكن حين يكون الدين عبارة عن بعض الرؤى الغيبية ، أو الدغدغات العاطفية - كما هو الشأن عند بعض الملل - فإنه لا يضع شيئاً في مواجهة التيارات الاجتماعية العاتية ؛ لأنه لا يعدو آنذاك أن يكون عنصراً رخواً من عناصر الثقافة !
وإن الذين الذي يوجِّه ويقاوم هو الذي نُمحِّص حياتنا من أجله !
وحينما يضعف الوازع الديني لدى المسلم فإن الميزان يميل مباشرة لصالح المظهر . وبما أننا نعيش في عصر نتأثر فيه أكثر مما نؤثر فقد أضيف إلى ضعف الوازع الديني عند أكثر الناس الوقوع تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب الحياة المختلفة ، تلك الفلسفة التي شكَّلت من الإنتاج غير المحدود والحرية غير المحدودة والسعادة غير المتناهية ديناً جديداً اسمه التقدم ! واقتضى ذلك توجهاً كلياً نحو الطبيعة لاستثمار كل شيء فيها ! ثم استهلاكه بصورة جشعة لم يسبق لها مثيل ناسين أن موارد الطبيعة محدودة ، وأن الطبيعة . سوف ترد على ذلك ، بل إنها بدأت بالرد فعلاً !
وعلى صعيد الرمز فقد كان البطل المسيحي يستوحي شخصية الشهيد ، وهو عيسى - عليه السلام - حيث وهب حياته من أجل غيره - حين صلب كما يزعمون - ، ثم انقلبت الأمور رأساً على عقب ، حيث صار العالم الغربي يستوحي شخصية البطل الوثني ، كما يتجسد في أبطال الإغريق والرومان ، ذلك البطل الذي يغزو ، وينتصر ، ويدمر ، ويسرق ، وينهب . وشتان ما بين شخصية الشهيد الذي يهب حياته من أجل غيره ، وبين المقاتل الذي غايته السيطرة على الآخرين وتضخيم الحياة الشخصية ! ! 12
وكانت النتيجة ولادة مجتمعات تعاني من الوحدة ، والقلق ، والاكتئاب ، والنزوع التدميري ، والخوف من المستقبل ، والأنانية الشخصية ، والتفكك الأسري...
تأثرنا - نحن المسلمين - بهذا كله من حيث ندري ، ولا ندري ، وتوجهت قوانا الفاعلة نحو الخارج ، وأهملنا الجوهر ، وكانت حالتنا في بعض النواحي أسوأ ممن تأثرنا بهم ؛ لأن القوم صاروا إلى الشكل بعد أن حققوا ذواتهم بطريقة فعَّالة وإن كان انحرافها يحمل في النهاية بذرة موتها ؛ أما نحن فقد غادرنا الجوهر لغمر أنفسنا بالشكليات !

والناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والحياة العامة لصحابته - رضوان الله عليهم - يجد أن السيطرة كانت للكينونة الداخلية ، وليس لما يمتلكه الناس من أشياء ؛ لأن المحور الأساسي للحياة الاجتماعية كان الإنسان ، وليس الأشياء ؛ أما الآن فقد صارت (الملكية) هي المحور ، ويتجلى ذلك واضحاً في أمور عديدة منها :
1 - تناقصت الألفاظ المستعملة في الدلالة على الجوهر ، في حين زاد تداول الألفاظ الدالة على الأشياء ، فحديث المجالس لم يعد يتمحور حول البطولات ، والإنجازات ، والمواقف الكريمة ، والصفات الحميدة ، وإنما حول العقارات ، والسيارات ، وأسعار السلع ، وأثاث البيوت ، والأرصدة المالية ...

2 - الرغبة في مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من الاستهلاك جعل اعتماد الناس على الآلة يتزايد يوماً بعد يوم ، وصار الإنسان ترساً من تروسها ، وصار دوره مكملاً لدورها ؛ ومن طبيعة هذا الشأن أن يزيد اهتمامنا بالمظاهر ، ويشغلنا عن الحقائق .

3 - كانت قيمة وجود الإنسان مستمدة مما يُحسن ويتقن ، وصارت المعادلة الجديدة : قيمة وجودي مستمدة من مقدار ما أملك ، ومقدار ما أستهلكُ ! وهذا ولَّد الخوف الدائم من ذهاب الملكية ؛ لأن ذهابها ذهاب لمالكها ؛ واقتضى ذلك مزيداً من الشح والأثرة والتقاطع ...

4 - علاقتنا بالمعرفة تبدلت ؛ فقد كان حب العلم واكتساب المعرفة من أجل الفقه في الدين وتنمية الشخصية ومعرفة الحياة ... وكانت العملية التعليمية عبارة عن اندماج بين العلم وطالبه ، أما الآن فقد صارت علاقة طالب العلم بما يطلب علاقة تجارية بحتة ، فهو يتعلم لينال الشهادة ؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي عند إفراغها على الورق في الامتحان !

5 - السمات الأساسية للجوهر هي : الاستقلالية ، والحرية ، وحضور العقل النقدي ، والاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية ، والنمو ، والتدفق ، لكن العلاقات الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية الجديدة جعلت أنشطة الإنسان عبارة عن انشغال دائم مفصول تماماً عن قواه الروحية ، بل يقف ضدها ، ويحد من فاعليتها في كثير من الأحيان ؛ مما أدى إلى الاتكالية والسأم والتذمر ، وجعل الحياة تفقد طعمها الحقيقي بشكل عام .

6 -
كانت عواقب الاتجاه إلى الشكل والتغافل عن المضمون كثرَة اللذائذ وانعدام السعادة ! واللذة إشباع الرغبة على نحو لا يتطلب نشاطاً ، مثل لذة الحصول على مزيد من الربح ، أو هي : تجربة لحظة من لحظات الذروة يعقبها في الغالب نوع من الكآبة ، ولا سيما حين تكون غير مشروعة ، حيث يبدأ التقريع الداخلي .
أما السعادة فهي : شعور مصاحب للنشاط الإنساني ؛ وهي أقرب إلى أن تكون حالة من الوجود المتصل على ربوة رحبة ؛ لأنها وهجٌ لكينونة الإنسان ، ونشاطه الداخلي .
ويمكن القول : إن السعادة في مقياسنا الإسلامي تتعاظم كلما ردم المسلم من الفجوة القائمة بين معتقداته وسلوكياته ، حيث يرضى المسلم عن أدائه ، ويستشرف عاقبة المتقين .
كل هذه التحولات باتجاه الشكليات جعلت كثيراً من أمة الإسلام قوة عددية ليس إلا ؛ لأن الذي يفقد الصلة بمكوناته الأساسية لابد أن يصبح شكلياً . فهل تعيد الصحوة المباركة الأمر إلى نصابه بإعادة التوازن من جديد بين الشكل والمضمون ، والجوهر والمظهر لنستأنف رسالتنا الحضارية ؟ ! هذا ما نرجوه . وعلى الله قصد السبيل .

________________________
(1) المنافقون : 4 .
(2) تفسير القرطبي 18 / 124 .
(3) أخرجه البخاري .
(4) ننصح بالرجوع إلى كتاب الإنسان بين الجوهر والمظهر الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت وقد أفدت منه هنا في بعض ما كتبت .
(5) أخرجه مسلم وغيره .
(6) النحل : 6 ومثل هذا قوله سبحانه : [ والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً ] .
 

عبدالكريم بكار
  • مقالات
  • إشراقات قرآنية
  • الصفحة الرئيسية