صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أحكام سجود التلاوة

خالد بن سعود البليهد

 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: وبعد
فإن الله شرع لعباده ما يقربهم ويزلفهم إليه من أنواع النواقل والتطوعات. ومن ذلك أنه شرع لهم السجود عند تلاوة الآيات التي تشتمل على السجدة لكمال الخشوع وإظهار الافتقار له والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وإبكات الشيطان عدو الله وغير ذلك من المصالح والفوائد. ومما يدل على مشروعيته قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا). وما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته). رواه مسلم. وسجود التلاوة تحصل بسجدة واحدة باتفاق الفقهاء ولا يشرع الزيادة على ذلك. والصحيح أنه لا يجزئ عن السجود ولا يغني قول: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). أو: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). بل هو عمل استحسنه بعض الفقهاء ولا أصل له في الشرع. والسجود المشروع أن يتلو القارئ القرآن لقصد التلاوة ثم يسجد لآية السجدة أما أن يقتصر فقط على تلاوة آية السجدة ويكون قصده السجود فيكره ذلك عند جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.

ويشتمل القرآن على خمس عشرة سجدة ، سجدة في سورة الأعراف وسورة والرعد وسورة النحل وسورة الإسراء وسورة مريم ، وسجدتان في سورة الحج ، وسجدة في سورة الفرقان وسورة النمل وسورة السجدة وسورة ص وسورة فصلت وسورة النجم وسورة الانشقاق وسورة العلق. وقد اتفق الأئمة على مشروعية السجود فيها إلا السجدة الثانية في الحج والسجدات الثلاث في المفصل كما حكاه ابن قدامة في الكافي. والجمهور على مشروعية السجود فيها ، لأن السجدة الثانية في الحج وإن كان الحديث فيها لا يصح إلا أنه ثبت عن عمر وابنه عبد الله وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري أنهم سجدوها ولم يعلم لهم مخالف. وقال إسحاق : (أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين). وأما سجدات المفصل الثلاث فقد ثبت بالأدلة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدها سجدة النجم وردت في صحيح البخاري وسجدة الانشقاق وردت في صحيح مسلم وسجدة العلق أيضا وردت في صحيح مسلم. وبهذا يتبين أن السجود في المواضع الخمس عشر مشروع على الصحيح لظاهر الأدلة وعمل الصحابة وقول الجمهور. ولهذا روي عن عمرو بن العاص: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان). رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد فيه مقال عند أهل العلم واشتهر العمل به.

و سجود التلاوة سنة عند جمهور الفقهاء وهو الصحيح لأنه ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله تعالى عنه). وأقره الصحابة على ذلك ولم ينكر عليه أو يخالفه أحد فدل ذلك على إجماع الصحابة وهذا فيه رد لقول من أوجب سجود التلاوة. ولا حجة صحيحة لمن أوجب سجود التلاوة على قارئ السجدة. وتشرع السجدة سواء كان في داخل الصلاة أم في خارجها، فإذا كان خارج الصلاة فقرأ آية سجدة سن له في الحال السجود على حسب حاله إن كان قائما خر للسجود وإن كان جالسا سجد وهو جالس ولا يشترط أن يقوم واستحب طائفة القيام حينئذ. قال ابن تيمية: (بل سجود التلاوة قائماً أفضل منه قاعداً كما ذكر ذلك من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وكما نقل عن عائشة). أما إن كان في الصلاة فقرأ آية سجدة سن له السجود من فوره ثم يعود إلى القيام مرة أخرى ويتم صلاته وهو مخير إن شاء قرأ ثم ركع أو ركع بلا قراءة. وهو سنة في الصلاة السرية والجهرية إلا أن الإمام لا ينبغي له أن يسجد في الصلاة السرية لأن ذلك يشوش على المصلين ويربكهم ولذلك كره بعض الفقهاء ذلك.

وقد ورد فضل عظيم لسجود التلاوة لا ينبغي أن يفرط فيه لما ورد في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار). فينبغي للمسلم المواظبة على سجود التلاوة إلا من مانع أو شغل.

والمأموم في الصلاة تابع للإمام في سجود التلاوة إن سجد تابعه على السجود وإن ترك لم يسجد لأنه مأمور بمتابعته ومنهي عن مخالفته. وكذلك المستمع للقارئ خارج الصلاة إذا سجد سجد معه . قال تميم : (قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام فمررت بسجدة فقال عبد الله أنت إمامنا). وقال ابن بطال : (أجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد). وإذا لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع لأنه مقتد به تابع له في التلاوة . قال زيد بن ثابت : (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها). متفق عليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد لأن زيدا لم يسجد. أما السامع للقارئ من غير قصد للاستماع كأن يكون مارا به أو منشغلا عنه فلا يتابعه على السجود لأنه لم يأتم ويقتد به في التلاوة. فقد مر عثمان رضي الله عنه بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: (إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد). وصله عبد الرزاق في مصنفه. وكذلك السامع للمذياع والتلفاز لا يتابع القارئ على سجوده للتلاوة لأنه لا يأخذ حكم الاقتداء به في التلاوة.

والأظهر أنه يشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من طهارة من الحدث الأصغر والأكبر واجتناب نجاسة وستر عورة واستقبال القبلة. لأن السجود جزء من الصلاة فيأخذ حكم الصلاة فيما يشترط لها ويدخل في عموم النصوص. وهذا مذهب عامة الفقهاء. قال ابن قدامة : (يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لصلاة النّافلة من الطهارتين من الحدث والنجس، ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها وبه قال سعيد بن المسيب). وقال العراقي في طرح التثريب: (وحكى النووي وغيره الإجماع على اشتراط الطهارة فيهما وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد فيه جهالة أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة ويسجد وما توضأ). وذهب ابن تيمية إلى عدم اشتراط ذلك لأنه لم يرد اشتراط ذلك في السنة والأصل براءة الذمة. ولكن الأحوط والأقيس مراعاة هذه الشروط في سجود التلاوة. أما ما روي عن ابن عمر فمشكل وقد روي عنه ما يعارضه من قوله. وعلى هذا ينبغي على المرأة إذا أرادت السجود للتلاوة أن تخمر رأسها وتغطيه احتياطا. ولا يشرع للحائض والجنب السجود للتلاوة لأنهما ممنوعان شرعا من الصلاة والسجود في معناها.

وإذا سجد خارج الصلاة كبر في ابتداء السجود في خفضه ولم يكبر في انتهائه عند رفعه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه كبر بعد السجود وإنما نقل عنه عند الخفض لما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا). واستحب الجمهور التكبير مطلقا قبل السجود وبعده وهو قول حسن ورد عن بعض السلف ويقتضيه القياس ويكون للقارئ علامة لانتهاء السجود لمن ائتم به بالسجود. أما تكبيرة الإحرام فلا تشرع لسجود التلاوة على الصحيح خلافا للشافعية. أما داخل الصلاة فيكبر إذا هوى للسجود ويكبر عند قيامه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الصلاة في كل وخفض و رفع فيدخل هذا في العموم.

ولا يشرع مطلقا تشهد ولا تسليم لسجود التلاوة لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع كثرة سجوده ولو كان مشروعا لفعله وأمر به. فإذا سجد الإنسان للتلاوة رفع من سجوده واكتفى بذلك ولم يجلس للتشهد ولا يحتاج انصرافه لتسليم.

والمشهور عند الفقهاء أن المريض الذي لا يستطيع السجود يجزئه في سجود التلاوة الإيماء بالسجود لعذره كما يومئ في صلاته. وكذلك المسافر على الراحلة إذا قرأ آية سجدة أومأ في سجوده على الصحيح لأن سجوده من التطوع وثبت في السنة التطوع فوق الراحلة وهذا مذهب جمهور الفقهاء. أما الماشي إذا أراد السجود للتلاوة وجب عليه السجود على الأرض وتمكين جبهته عليها ولا يجزئه الإيماء حينئذ.

وإذا كرر القارئ آية السجدة أجزأه أن يسجد مرة واحدة ولم يكرر السجود حينئذ على الصحيح لأنه قد حصل المقصود ولأن في ذلك مشقة ظاهرة كمن كرر الدخول للمسجد في نفس الوقت فصلى تحية المسجد لم يطالب بتكرار التحية كلما دخل.

والصحيح أنه لا حرج في السجود للتلاوة وقت النهي بناء على مشروعية فعل الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي كما دلت السنة الصحيحة على ذلك وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم ، والسجود شرع لسبب التلاوة فيدخل في عموم ذوات الأسباب.

ويستحب في سجود التلاوة ما يستحب في سائر السجود من الذكر المشروع والدعاء فيقول الساجد: (سبحان ربي الأعلى). و(سبوح قدوس رب الملائكة والروح). ويقول : (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته تبارك الله أحسن الخالقين). ويقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود). وكل ذلك ثابت في السنة الصحيحة يتخير منها ما شاء وإن جمعها فحسن ، وإن أحب أن يدعو بما شاء فحسن لأن السجود موضع من مواضع الدعاء المستجاب.

والمشروع في وقت سجود التلاوة عند ختام آية السجدة. فإن أخرها قليلا لسهو أو عذر فلا حرج عليها أن يقضيها كسائر النوافل . وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء، أما إذا طال الوقت فلا يشرع قضاؤها على الصحيح لأنه فات وقتها بزوال السبب الذي شرعت لأجله.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
 

خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
27/7/1431

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية