صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







شرح رسالة فضل علم السلف على الخلف 12

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

خالد بن سعود البليهد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


(والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه منها ضرب كتاب اللَه بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى. ويقع التجادل في ذلك. وهذا قد روي أنه وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك ونهى عنه وهذا من جملة الاختلاف في القرآن والمراء فيه وقد نهي عن ذلك. ومنها الخوض في القدر إثباتاً ونفياً بالأقيسة العقلية: كقول القدرية لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالماً. وقول من خالفهم إن اللَه جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك. ومنها الخوض في سر القدر. وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك).

بين المصنف رحمه الله هنا أنواع الخوض المنهي عته في القدر:

النوع الأول: الاختلاف في الاستدلال بآيات الكتاب الواردة في القدر وضرب بعضها في بعض بحيث يتمسك كل فريق بما ينصر مذهبه ويرد الآية التي تخالف مذهبه بتحريف معناها ليتوصل بذلك لإثبات مذهبه وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المراء في القرآن كفر). رواه أبوداود. ولما تمارى بعض الصحابة في المسجد عند ذكر آية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: (مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه). رواه أحمد. وهذا المسلك يدخل في معنى المراء والجدال في القرآن وقد نهى عنه الشارع لأنه يؤول إلى تكذيب شيء من لفظ القرآن أو معناه أو تحريفه لغرض باطل ويفضي إلى النزاع والفرقة بين المسلمين أما النظر والبحث لغرض التفقه على طريقة أهل العلم فمحمود ولا حرج فيه كما قال أبوعبيد: (وقيل إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام وأبواب الحلال والحرام فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمن بعدهم من العلماء وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز). وكذلك يحرم الاستدلال ببعض آي القرآن على سبيل التعصب لقول أحد ومعارضة الحق الثابت في النصوص.

والحاصل أن الجدال في آي القرآن يحرم في حالتين:
الأولى: أن يكون الغرض إبطال القدر وغيره من مسائل اعتقاد أهل السنة.
الثانية: أن يكون الغرض نصرة قول عالم تعصبا ولو كان قوله مخالف للحق.
والمبتدع والمنافق يتبع المتشابه من القرآن والسنة ويدع المحكم لينصر مذهبه ويقيم بدعته كما قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ). والسني يرد المتشايه للمحكم ويعمل بالمحكم ويجتهد في الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين فإن وفق فالحمد لله وإن قصر فهمه آمن به ووكل معناه لله إلى أن يفتح الله عليه ما استغلق فهمه.

النوع الثاني: الاختلاف في إثبات القدر ونفيه عن طريق دلالة العقل القاصرة واستعماله في القياس والنظر بحيث يبطل المتكلم القدر الثابت في الشرع لمجرد شبهة فاسدة وحجة ضعيفة وتصور خاطئ استقر في قلبه وقد مثل المصنف لذلك بقول المعتزلة يمتنع أن يكون الله قدر الكفر والمعصية ثم يعاقب الكافر والعاصي على فعله لأن ذلك ظلم والله منزه عن الظلم والنقص كما قال عبد الجبار الهمذاني المعتزلي: (اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم وأن الله جل وعز أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم وأن من قال إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه). قلت وهذه شبهة باطلة نشأت عندهم لعدم تفريقهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية للرب فقد دلت النصوص على أن الله جل جلاله قدر كل شيء كونا من شر وخير وفقر وغنى وكفر وإيمان ومعصية وطاعة لأن كل شيء داخل في ملكه وسلطانه وجبروته وقهره وهذه الإرادة لا تستلزم محبته ورضاه ثم أمر العباد بطاعته وقدر شرعا توفيق أهل طاعته وهذه الإرادة تستلزم محبته ورضاه فالكافر والفاسق يعصي ربه قدرا لا شرعا والمؤمن والبر يطيع ربه قدرا وشرعا وما وقع فيه المعتزلة نتيجة إعراضهم عن نصوص الشرع واعتمادهم على منطق اليونان وقالوا بأن المخلوق هو الذي يخلق فعله ويختار ولا تتدخل إرادة الله فيه. وقابلهم في باب القدر الجبرية الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الذين بالغوا في إثبات القدر وسلبوا المخلوق إرادته فقالوا أن المخلوق لا إرادة له ولا اختيار وهو مجبور من الله في كل فعل وقول يرتكبه كما قال الجهم: (لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به). وتوسط أهل السنة في باب القدر اتباعا للنصوص فقالوا إن للمخلوق إرادة وقدرة على اختيار العمل وإرادة المخلوق داخلة في إرادة الله لقول الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وقال ابن تيمية: (مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهو أن الله خالق كل شيء ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد وأنه سبحان ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو القادر على كل شيء ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه).

النوع الثالث: البحث والتكلف في حكمة القدر وعلته والجدال في بيان حقيقته المغيبة عن الخلق ومهما أوتي المرء من كمال العقل وزكاء الروح فلن يستطيع إدراك كنه القدر لأنه من علوم الغيب التي لا يمكن بلوغها إلا عن طريق الوحي وقد ورد النهي عن ذلك عن السلف. قال ابن عباس: (ما غلا أحد في القدر إلا خرج عن الإسلام). خرجه اللالكائي. وقال البربهاري: (والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق لأن القدر سر الله ونهى الرب جل اسمه الأنبياء عن الكلام في القدر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر وكرهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وكرهه العلماء وأهل الورع ونهوا عن الجدال في القدر). وقد نهي ذلك لأنه يفضي إلى الوقوع في الشك والتكذيب والإلحاد ولذلك ضل طوائف من الخلق لما خاضت في القدر وانتهى بهم الأمر إلى تكذيب القدر ونفيه.

ومذهب السلف الصالح في باب القدر قائم على التسليم والإقرار والتصديق من غير جدال كما قال عبادة بن الصامت لابنه: (يا بني إنك لن تطعم طعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قال قلت يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره قال تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك). رواه الترمذي. وقال أبو المظفر السمعاني: (سبيل معرفة هذا الباب التوقيف). يعني الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة. وقال ابن عبد البر: (والقدر سر الله لا يدرك بجدال ولا يشفي منه مقال والحجاج فيه مرتجة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق ولا يكون في ملكه إلا ما يريد). فينبغي للمؤمن أن يرضى ويسلم بما قدر له ولا يتسخط ولا يعترض ويوقن حق اليقين أن كل شيء واقع فهو بقدر الله ومشيئته وأن الخير والحكمة في قضاء الله وقدره ولو كان الظاهر يسوء العبد وأن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة ولا يكلف نفسا إلا وسعها وهو الرحمن الرحيم ويغلق هذا الباب ويكون وقافا على دلالة الشرع ولا يسترسل ويتكلف ويتنطع في بحث دقائق القدر ومسائله الخفية وينصرف همه وإرادته إلى المسابقة بالعمل الصالح والأخذ بالأسباب النافعة فإن فعل اطمأن قلبه وارتاح ضميره وانشرح صدره ولامست روحه برد اليقين وعاش في سعادة بلا كدر.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية