اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/brigawi/91.htm?print_it=1

في رحاب الذوق الإسلاميّ الرفيع

م. عبد اللطيف البريجاوي


ليست الذوقيات أمراً عارضاً في ديننا, وليست على هامش ضيّق منه بل هي أصل أصيل منه وجزء مكين فيه وهالة عظيمة تحيط بدوائر الأمر والنهي فيه.
فإنّك ترى الآيات القرآنيّة العديدة التي تتكلّم عن هذا الجزء الهامّ في ديننا, وترى الأحاديث الكثيرة التي تنحى هذا المنحى فما يخلو مصنّف من المصنّفات ولا كتاب سنن من السنن إلا ويفرد كتاباً كاملاً بين طياته عن الأدب؛ فقد أفرد البخاري في صحيحه كتاباً عن الأدب جمع فيه مائة وسبعاً وعشرين باباً من أبواب الآداب العامة غير كتب الألبسة والأطعمة والأشربة والاستئذان, وأفرد الإمام مسلم في صحيحه كتاباً أسماه كتاب الآداب جمع فيه أحد عشر باباً من أبواب الآداب العامة سوى أبواب اللباس والأطعمة والأشربة وغير ذلك ونرى ذلك أيضا عند النسائيّ والترمذيّ وأبو داود وأحمد........
وهذا إن دلّ فإنّه يدلّ على أهميّة هذا الجانب في ديننا العظيم الذي يعتبر الذوق الإسلاميّ هالة عظيمة تحوط الأوامر والنواهي والمكروهات, فتجعل الأمر أمراً يصعب تركه, والنهيَ خطّاً أحمر يصعب اختراقه وتجاوزه، والمكروهَ جانباً يصعب إتيانه, والعلاقاتِ مقدسةً يصعب تشويهها.
ومن هنا لابدّ لنا أن نعي هذا الجانب في حياة أمّتنا وأن نعيره اهتمامنا, ونربي أبناءنا عليه إحياءً لسنة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وإقامةً لدعائم السعادة الدنيويّة التي وُعدنا بها قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل 97

وقبل أن نشرع في الكلام عن جانبٍ من هذه الذوقيّات لا بدّ من توضيح بعض الملاحظات التي ترسم لنا جوانب مهمّة في نشوء الذوق الإسلامي وأهميته:

1- التنمية في المجتمع المسلم تنمية شاملة: إنّ خطأ كثير من المسلمين أنهم يعتمدون في تطوير حياتهم على إنماء جانب واحد وإهمال الجوانب الأخرى، فإن كان اهتمامه فكرياً اهتم بهذا الاتجاه ونسي عاطفته فتراه فقير العواطف دمعته عزيزة وتأوّهه جامد واستغفاره خال من معاني الذلة والانكسار, وإن كان ذو جانب عاطفي اهتم بعاطفته ونسي أن يغذي فكره, فهو ذو عاطفة جيّاشة ودموع غزيرة لكن تأخذه الأحداث حيث شاءت فلا يعرف مراميها وأبعادها.
وهذا ما يحصل لكثير من المسلمين فترى بعضهم يتعلمون جانباً وينسون جوانب فترى الواحد منهم ذا شق مائل فهو فقيه, لكنّه يقع في الأحاديث الموضوعة, وهو مفسر لكنّه لا ينجو من التأويلات الباطلة وهكذا.
وموضوع الذوقيّات في الإسلام يندرج تحت الجانب المنسيّ من الأمور الشرعيّة؛ ذلك أنّه باعتقاد الكثير أمر بسيط وسهل وبمتناول الجميع, لكنّه في الحقيقة بسيط ومعقّد في وقت واحد, فهو بسيط لأنّه بمتناول الجميع, ومعقّد لأنّنا إذا لم نمارسه فقدنا جزءاً كبيراً من الهالة المحيطة بالأوامر والنواهي, وفقدنا اللباقة والكياسة والذوق والإتكيت.
فالإسلام كلٌّ متكامل فيه الآداب وفيه المكروهات و المحرمات والمباحات.
إنّ القرآن الكريم عندما أُنزل كانت آياته تنْزل متكاتفة مترادفة لتضع اللبنات لبناء المجتمع المتكامل القويّ والمتين والجميل والأنيق بآن واحد؛ فإننا نرى آيات مترادفة, جزء منها يتكلم عن التشريع والآخر يتحدث عن الآداب والثالث يتكلّم عن الجوانب الأدبيّة وهكذا، وفي قصة يوسف عليه السلام مثال واضح على ذلك قال تعالى:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }يوسف36
فقبل التأويل وقبل أن يجيب عن سؤاليهما وقف عند عدة نقاط مهمّة فتكلم عن نعمة الله سبحانه وتعالى وفضله عليه:{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }يوسف37
ثمّ تكلّم عن المنهج الذي يجب أن يقتفيه كلّ إنسان حتى يصل إلى الطريق الصحيح وهو منهج الأنبياء عليهم السلام:
{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبرَاهِيمَ وَإِسحَاقَ وَيعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيءٍ ذَلِكَ مِن فَضلِ اللّهِ عَلَينَا وَعَلى النَّاسِ وَلـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشكُرُونَ{38}
ثمّ تكلّم بعد ذلك عن أهمّ شيء في حياة المسلم وهو توحيد الله سبحانه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }يوسف39

ثم بعد ذلك أجاب عن سؤاليهما {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }يوسف41
وكذلك في سورة النور دلالة واضحة على ذلك حيث نرى الكثير الكثير من آيات الآداب العامة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ • فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }النور27-28
{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }النور59
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون }النور61

والملاحظة المهمّة في ذلك أنّ هذه السورة نزلت في طريق عودة المسلمين من غزوة بني المصطلق في السنة السادسة للهجرة؛ أي: قبل فتح مكة، وهذا يدلّ على أنّ المسلم بحاجة ليتعلم هذا الذوق الرفيع من الآداب الإسلامية العامة حتى ولو كان عائداً من الجهاد ضد الأعداء.
وبتتبع الآيات نجد الكثير من ذلك وكل ذلك تأكيد من الإسلام على أنّ التنمية تتجه نحو جميع الاتجاهات وإنّ إهمال المسلمين لجانب من الجوانب سيؤدّي إلى تضخّم واضح وقصور فاضح.

2- الذوق في الإسلام قسمان:
• فطريّ.
• مكتسب.

أما الفطريّ: فإنّ الإسلام لم يتدخل به بل احترمه وقدره، ولم يجبر أحداً على تغيير بعض طباعه المقبولة تأكيداً منه على احترام الخصوصيّات للأشخاص والأقاليم والأعراف المقبولة اجتماعياً مالم تخالف النصوص الشرعية, ومن ذلك مسألة الطعام والشراب واختلاف أذواق الناس فيها, فإنّ الإسلام لم يجبر أحداً على محبّة طعام دون آخر أو بغض طعام دون آخر فالخصوصيّات تختلف من مكان إلى مكان ومن سنّ إلى سنٍّ ومن شخص إلى آخر وهكذا, فعن ابنَ عَبَّاسٍ أَنَّ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ- الَّذِي يُقالُ لهُ سَيفُ اللَّهِ –أَخبَرَهُ أنَّهُ دَخلَ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وَسَلَّمَ علَى مَيمُونةَ - وَهِي خَالتُهُ وَخالةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - فَوجَدَ عِندَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا (أي مشوياً) قَد قَدِمَتْ بِه أُختُهَا حُفَيْدَةُ بِنتُ الحَارِثِ مِن نَجدٍ, فَقَدَّمَت الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيهِ وَسَلَّمَ وَكانَ قَلَّما يُقَدِّمُ يَدهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ فَأَهوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ يَدهُ إِلَى الضَّبِّ فَقالتْ امْرَأَةٌ مِن النِّسوَةِ ا لحُضُورِ: أَخبرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيهِ وَسلَّمَ ما قَدَّمْتنَّ لَهُ, هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَن الضَّبِّ فَقَالَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: \" لا وَلَكِن لَم يَكُن بِأَرضِ قَومِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ\" قَالَ خَالِدٌ: فَاجْترَرتُهُ فَأَكَلْتهُ ورسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يَنظُرُ إِليَّ (متفق عليه). أعافه: أي: طبعاً لا شرعاً.
ومن ذلك مسألة أكل الدُّبّاء الذي كان يحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي لا تدخل تحت السنة التعبديّة, لأنّ الطعام والشراب مسائل ذوقيّة تختلف نتيجة لاعتبارات مختلفة.
أما المكتسب أو التعليميّ: فهو مجموعة الآيات و الأحاديث والمأثورات التي تتكلم عن الذوق الرفيع والأدب الجمّ والحياة المدنيّة في أرقى حالاتها التي طلب الإسلام منا أن نعيشها، فهو بذلك كسبي يكتسبه المسلم ويتعلمه وهو المعني في هذا الكتاب.

3- القرآن الكريم والسنّة النبويّة مخزن ثر للذوقيّات الإسلامية: من الغريب جداً أن يوصف الغرب باللباقة والدماثة وحسن الخلق والدقّة في المواعيد, ويوصف المسلم في الوقت ذاته بالقسوة والجلافة وسوء الخلق، مع أن الإسلام تكلم–كما سنرى بعون الله تعالى – في أدق تفاصيل الذوقيّات والأدبيّات التي لم يعرفها مجتمع أو حضارة من قبل، مما شكل للمجتمع المسلم مخزوناً من الذوقيّات لا ينضب أبداً.

4- الذوق تربية سليمة على القرآن والسنّة: إنّ ما نشاهده في مجتمعاتنا من قلّة الاهتمام بالذوقيّات يعكس في الحقيقة تربيةً غير سليمة وإهمالاً واضحاً لمثل هذه الجوانب المهمّة في الإسلام؛ فينشأ الناشئ وهو لا يعرف شيئاً عن ذوقيّات وأدبيّات دينه, وربما ربّى الآباء أولادهم على بعض الخصال التي تنم عن قلّة الذوق.

المرجع كتاب ذوقيات إسلامية م. عبد اللطيف محمد سعد الله البريجاوي

 

م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية