اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/dhafer/80.htm?print_it=1

حُكْمُ تَجاوُزِ المِيقاتِ بدُونِ إحرامٍ

د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ
@aljebaan


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
ومنه المعونةُ والتَّسديدُ

حُكْمُ تَجاوُزِ المِيقاتِ بدُونِ إحرامٍ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِه الأمينِ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
أمَّا بعدُ؛
فيسألُ كثيرٌ ممَّن يريدُ الحجَّ والعمرةَ عن حكمِ تجاوزِ الميقاتِ بدونِ إحرامٍ، أو مَن يُحرِمُ ثُمَّ يُصَدُّ ويُمنَعُ مِن دخولِ مكّةَ بأيِّ سببٍ كان، سواءٌ بسببِ المرضِ، أو عدمِ وجودِ تصريحٍ للحجِّ أو العمرةِ، أو خوفٍ أو غيرِ ذلك.

فالَّذي يظهرُ - واللهُ تعالى أعلَمُ - أنَّ مَن أراد الحجَّ والعمرةَ ثُمَّ أُحصِر عن دخولِ مكَّة، لا يخلو من ثلاثِ حالاتٍ:

الأولى:
أن يُحرِمَ مِن الميقاتِ، ويلبسَ ثيابَ الإحرامِ، ويمضيَ لمكَّةَ ثُمَّ يُحصَرُ عن دخولِها.
الثَّانيةُ:
أن يُحرِمَ من الميقاتِ، ولا يلبسُ ثيابَ الإحرامِ، ويمضي لمكَّةَ، وقد يُحصَرُ أو لا يُحصَرُ.
الثَّالثةُ:
أن يُؤخِّرَ الإحرامَ حتَّى يتجاوزَ الميقاتَ ويدخلَ مكَّةَ، ثُمَّ يحرمُ بالحجِّ أو العمرةِ من مكَّةَ أو من دونِ الميقاتِ إذا جاوَز ما يخافُه أو يَحْذَرُه، أو ما يكونُ سببًا لمنعِه من دخولِ مكَّةَ.

تنبيهٌ:
المقصودُ بالإحرامِ هو: نيَّةُ الدُّخولِ في النُّسُكِ، وليس المقصودُ به لُبسَ ثيابِ الإحرامِ.

وتفصيلُ هذه الحالاتِ الثَّلاثِ كالآتي:


الحالةُ الأولى:
وهي الأصلُ، وما عليه السُّنَّةُ:
أن يُحرِمَ من الميقاتِ، ويلبسَ ثيابَ الإحرامِ، ويمضيَ لمكَّةَ.

لكنَّ هذا يُخشَى أن يُحصَرَ عن الدُّخولِ إلى مكَّةَ، فله حينئذٍ حالتانِ:
1-
أن يشترطَ عندَ إحرامِه.
2-
أن لا يشترطَ عندَ إحرامِه.

وتفصيلُ هذه المسألةِ كالآتي:
1- إن اشتَرطَ عندَ إحرامِه، وجاءه ما يَصُدُّه عن دخولِ مكَّةَ،
وأُحصِرَ عن دخولِها؛ فإنَّه يحلُّ من إحرامِه ولا شيءَ عليه.
والدَّليلُ على ذلك:
ما جاء في الصَّحيحينِ من حديثِ عائشةَ -رضي اللهُ عنها- قالت: دَخَل رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على ضُبَاعةَ بنتِ الزُّبيرِ فقال لها: «لَعلَّكِ أَرَدتِ الحَجَّ؟» قالت: واللهِ لا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعةً. فقال لها: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، قُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».
فيُشرَعُ لمن خاف أن يُحصَرَ ويُمنَعَ من دخولِ مكَّةَ أن يَشتَرِطَ، ويقولَ: (فإنْ حَبَسنِي حابسٌ؛ فمَحِلِّي حيثُ حَبَستَنِي)، فإذا قال ذلك وصُدَّ عن دخولِ مكَّةَ؛ فلا شيءَ عليه، ويحلُّ من إحرامِه.


2- أن لا يَشتَرِطَ عندَ إحرامِه؛ ثُمَّ يحصلُ له أن مُنِع من دخولِ مكَّةَ،
فإنَّه هنا لا يحلُّ حتَّى يَذبَحَ هَدْيًا ويَتحلَّلَ بعدَه بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ. والدَّليلُ على ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، فدَلَّتِ الآيةُ الكريمةُ على أنَّ مَن أُحصِرَ ومُنِع من دخولِ مكَّةَ؛ فإنَّه يذبحُ هديًا، ثُمَّ يَتحلَّلُ بعدَ ذلك.
ودليلٌ آخرُ،
وهو ما جاء في الصَّحيحينِ وغيرِهما: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يومَ الحُدَيبيةِ صَدَّه كُفَّارُ قُريشٍ عن دخولِ مكَّةَ، فلمَّا لم يَستطِعِ الدُّخولَ تَحلَّلَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بعدَ أن ذَبَحَ هَدْيَهُ.

تنبيهٌ: لا يجوزُ التَّحلُّلُ إلَّا بعدَ الذَّبحِ، فإذا ذَبَح الفِديةَ فقد تَحلَّلَ، فإذا لم يَجِدْ بَقِي على إحرامِه إلى أن يصومَ عشَرةَ أيَّامٍ، ثُمَّ يَتحلَّلُ؛ لأنَّ اللهَ جعل صيامَ عشَرةِ أيَّامٍ قائمًا مقامَ الهَدْيِ، يقولُ تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، واللهُ جعل على المُحصَرِ هديًا: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196].

وقد سُئل الشَّيخُ ابنُ عُثَيمين -رحمه اللهُ تعالى- عن رجلٍ حَجَّ بدونِ تصريحٍ، فمُنِع من دخولِ مكَّةَ؛ فماذا يَلزَمُه؟

فقال - رحمه اللهُ تَعَالى -: (إنْ كان قال عندَ الإحرامِ:" إنْ حَبسَنِي حابسٌ؛ فمَحِلِّي حيثُ حَبَستَنِي" فيحلُّ ولا شيءَ عليه، وإذا لم يَشتَرِطْ فالواجبُ عليه أن يذبحَ هديًا؛ لقولِه تعالى:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، ويَتحلَّلُ، أي: يحلقُ أو يُقصِّرُ حيثُ أُحصِرَ) [«مجموع فتاوى ابن عثيمين» 23/433].

الحالةُ الثَّانيةُ:
أن يُحرِمَ من الميقاتِ، ولا يلبسُ ثيابَ الإحرامِ، ويمضي لمكَّةَ، وقد يُحصَرُ أو لا يُحصَرُ.
فهذا قد وقع في محذورٍ من محذوراتِ الإحرامِ، وهو لُبسُ المَخِيطِ؛ فعليه فِدْيةُ ارتكابِ محظوراتِ الإحرامِ، وهي ما تُسمَّى بفديةِ الأَذَى.
فإذا كان عليه مَخِيطٌ، وغطَّى رأسَه؛ فإنَّ عليه فِدْيتَينِ على الصَّحيحِ، وإن لم يُغطِّ رأسَه؛ فعليه فديةٌ واحدةٌ، وهي فديةُ لُبسِ المخيطِ، وهي ما يُسمَّى بفديةِ الأذى.


وفديةُ الأذى هي:
أن يُخيَّرَ بينَ ذبحِ شاةٍ ويُفرِّقُ لحمَها على فقراءِ الحرمِ، أو إطعامِ ستَّةِ مساكينَ لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ، أو صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ.
يقولُ اللهُ تعالى:
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
قال كعبُ بنُ عُجْرةَ - رضي اللهُ عنه -: أَتَى عليَّ النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - زمنَ الحُدَيبيةِ، والقَمْلُ يَتناثرُ على وجهي، فقال:
«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟!» قلتُ: نَعَمْ. قال: «فَاحلِقْ، وصُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ، أو أَطعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ، أَوِ انْسُكْ نَسِيكةً» [أخرجه البخاريُّ (3869)، ومسلمٌ (8020)].

وعندَ أحمدَ والتِّرمذيِّ: قال كعبُ بنُ عُجرةَ -رضي اللهُ عنه-: (والَّذي نفسي بيدِه؛ لَفِيَّ أُنزِلت هذه الآيةُ، وإِيَّايَ عَنَى بِها:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. قال: كُنَّا معَ النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بِالحُدَيْبيةِ ونحنُ مُحرِمُونَ وقد حَصَرَنا المُشرِكُونَ، وكانت لي وَفْرةٌ فجَعَلَتِ الهَوامُّ تَسَاقَطُ على وَجْهي، فمَرَّ بي النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: «كأنَّ هَوَامَّ رَأْسِكَ تُؤذِيكَ؟!» قلتُ: نَعَمْ. قال: «فَاحْلِقْ». ونَزَلَتْ هذه الآيةُ. قال مُجاهِدٌ: (الصِّيامُ ثلاثةُ أيَّامٍ، والطَّعامُ سِتَّةُ مَساكِينَ، والنُّسُكُ شاةٌ فصَاعِدًا) [أخرجه أحمدُ 3/43 برقم (18117) ط شُعَيب، والتِّرمذيُّ (2899) واللَّفظُ له].

الحالةُ الثَّالثةُ: أن يُؤخِّرَ الإحرامَ حتَّى يُجاوِزَ الميقاتَ ويدخلَ مكَّةَ ثُمَّ يُحرِمُ بالحجِّ أو العمرةِ من مكَّةَ أو من دونِ الميقاتِ إذا جاوَز ما يخافُه أو يَحْذَرُه، أو ما يكونُ سببًا لمنعِه من دخولِ مكَّةَ.
ففي هذه الحالةِ فإنَّه قد ترك واجبًا من واجباتِ الحجِّ والعمرةِ، وهو الإحرامُ من الميقاتِ، وهذه المسألةُ مسألةُ تركِ واجبٍ من واجباتِ الحجِّ والعمرةِ، والجمهورُ من المذاهبِ الأربعةِ على أنَّ مَن تَرَكَ واجبًا فعليه دَمٌ، مُستدِلِّينَ بقولِ الصَّحابيِّ الجليلِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: (مَن نَسِي مِن نُسُكِه شيئًا، أو تَرَكَهُ؛ فلْيُهرِقْ دمًا)
[أخرجه مالكٌ في «الموطأ» 1/419 برقم (940)، والبيهقيُّ في «السُّننِ الكبرى» 5/30، والدارقطنيُّ 2/244. قال ابنُ المُلقِّنِ في «خُلاصة البدر المُنِير» 1/350: (رواه مالكٌ، والبيهقيُّ موقوفًا عليه بإسنادٍ صحيحٍ، ولا أعرفُه مرفوعًا)، وقال الألبانيُّ: (ضعيفٌ مرفوعًا، وثَبَتَ موقوفًا) «الإرواء» (1100)].

وثَمَّ قولٌ آخرُ، وهو مَروِيٌّ عن عطاءٍ، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ، والحسنِ البصريِّ، رحمةُ اللهِ عليهم أجمعينَ: بأنَّه (لا دَمَ عليه، وإنَّما عليه التَّوبةُ) [يُنظَر: «طَرْح التَّثريب» 5/5، و«شرح صحيح البخاريِّ» لابنِ بطَّالٍ 4/192].
واستَدلُّوا على ذلك بعدمِ ورودِ ما يدلُّ على إيجابِ الدَّمِ على مَن ترك الإحرامَ حتَّى تجاوَز الميقاتَ معَ عمومِ البلوى به.

واستَدلُّوا – أيضًا -
بأنَّ أموالَ النَّاسِ معصومةٌ, والأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ.

التَّرجيحُ:
لعلَّ القولَ الثَّانيَ أقربُ، لكنَّ الأوَّلَ هو الأَحوَطُ. واللهُ تعالى أَعلَمُ وأَحكَمُ.

هذا ما يَسَّر اللهُ بحثَه، وأعان على إيرادِه، وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا مُحمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

وكتبها الفقيرُ إلى عفوِ سيِّدِه ومولاه
د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلِ جَبْعانَ

www.aljebaan.com

 

ظَافِرُ آل جَبْعَان
  • الفوائد القرآنية والتجويدية
  • الكتب والبحوث
  • المسائل العلمية
  • سلسلة التراجم والسير
  • سلسلة الفوائد الحديثية
  • المقالات
  • منبر الجمعة
  • الصفحة الرئيسية