بسم الله الرحمن الرحيم

أســـئـــلةٌ وأجـــوبـــةٌ


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

أشكر الأخ أبا معاذ على حسن ظنه ، وأسأل الله التوفيق في الإجابة

السؤال الأول : هل يجب عند تفسير ما لم يرد في تفسيره نص التزام ما ورد عن السلف وعدم الزيادة عليه أو الإتيان بأمرٍ جديد ، خاصةً على ضوء المكتشفات الجديدة وهل يصح أن نقول خواطر في التفسير ؟

الجواب :
أ. يحسنُ أن يكون الجواب عن هذا السؤال عامّاً ، فيكون عنه وعن غيره مما قد يرد في ذهن القارئ ، فأقول : يجب أن نعرف أن أحسن ما يفسَّر به القرآن – أولاً - : القرآن نفسه ، فما يكون قد جاء مجملاً في آية فبينته آية أخرى ، وما يكون عامّاً في آية فخصصته آية أخرى ، … - وهكذا - : فإنه لا أحسن من تفسير هذا بهذا . ومن لم يجد تفسير ما أراد في القرآن ووجده في السنة : فلا ينبغي أن يقدِّم عليها شيئاً . فإن لم يجد في الكتاب والسنة بغيته في تفسير الآية : فعليه بآثار السلف وعلى رأسهم أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ومما لا شكَّ فيه أن أقوال الصحابة أقرب إلى الصواب من أقوال من بعدهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن ؛ فما أُجمل في مكانٍ فإنه قد فُسر في موضع آخر وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنَّة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ؛ بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن قال الله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً } وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقال تعالى : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعني : السنَّة . والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن ؛ لا أنها تتلى كما يتلى وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك . والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه فإن لم تجده فمن السنة … وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ؛ ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ؛ لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، مثل عبد الله بن مسعود … ومنهم الحبر البحر " عبد الله بن عباس " ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ....

إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين " كمجاهد بن جبر " فإنه كان آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق : حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها …

وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره ومنهم من ينص على الشيء بعينه والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك ، والله الهادي .

وقال شعبة بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير ؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك . " مجموع الفتاوى " ( 13 / 364 – 371 ) بتصرف .

ب. وأما بالنسبة لأقوال السلف في تفسير الآية : فما اتفق عليه السلف : فلا ينبغي الخروج عنه ، وما اختلفوا فيه : فليس قول واحد حجة دون الآخر .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه ؛ سواء قيل إنه في القرآن ؛ ولم نفهمه نحن أو قيل ليس في القرآن ؛ كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان ؛ فعلينا أن نتبعهم فيه ؛ سواء قيل إنه كان منصوصا في السنة ولم يبلغنا ذلك أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة . " مجموع الفتاوى " ( 5 / 164 ) .

ج. وأما بالنسبة للمكتشفات الجديدة : فإني أقول : لا يمكن لأحدٍ أن يدَّعي أن تفسير آية من كتاب الله ظل غائباً عن القرون السابقة ولم يُعرف إلا هذه الأيام ! لأن في ذلك اتهاماً للرب تعالى أنه يبيِّن للناس ما قاله لهم خبراً أو أمراً أو نهياً ، واتهاماً للقرآن أنه ليس كتاب هداية ولا بياناً للناس ! والصواب في هذا : أن ما يُكتشف من المحدثات – مما لا يخالف ظاهر الكتاب - لا يعدو أن يكون توضيحا لما قاله سلف الأمة أو يكون توكيداً لما سبق بيانه ولكنه على ضوء المخترعات الحديثة وبتفصيل علمي يتناسب مع هذا الزمان .

ومن قطع النظر عن تفسير السلف واخترع قولاً له في تفسير الآية فإنه حتماً سيقع في الخطأ ، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما قاله بعض المعاصرين على قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [ يونس / 92 ] ، فقد نشر بعض الكتَّاب – قريباً – في " الساحات " صورة " فرعون " واستدلَّ بالآية على ذلك ! و{ ننجيك } من " النجو " وهو الارتفاع ، وفرعون جعله الله تعالى آية في طفوه على سطح البحر بعد موته وهي الآية لقيام الساعة في كل ميت يموت ، ولو كان المقصود بقاء جثة فرعون فليس هناك ما يدل على أنها ستبقى إلى قيام الساعة ، بل من الممكن أن تيقى حتى يراها بنو إسرائيل ليتأكدوا من موته . ولو كانت جثة فرعون هي المقصودة وأنها ستبقى إلى قيام الساعة : لسهل على المشركين المطالبة بهذه الآية !! والحال نفسه في سفينة نوح حيث جعلها الله آية في طفوها على سطح البحر . قال تعالى : { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [ القمر / 15 ] وليس المقصود بترك الآية هنا أنها موجودة بنفسها – كما يزعم الرافضة أنها موجودة في روسيا ! وأنهم وجدوا عليها " علي " " فاطمة " " الحسن " " الحسين " !! - بل المقصود بالآية هنا : كونها تطفو – بضخامتها وعظمها – على سطح البحر ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يـس / 41 ، 42 ] .

هذا بالنسبة للمكتشفات التي لا تخالف الشرع ، أما تلك التي تخالف الشرع ويلوي أصحابها أعناق النصوص لتتوافق مع النظريات والوهميات – ويسمونها هم قطعيات – فهذا لا يجوز التعويل عليه ولا الأخذ به ، بل يجب التحذير منه .

سئلت اللجنة الدائمة : ما حكم الشرع في التفاسير التي تسمى بـ " التفاسير العلمية " ؟ وما مدى مشروعية ربط آيات القرآن ببعض الأمور العلميَّة التجريبيَّة ؟ فقد كثر الجدل حول هذه المسائل ؟

فأجابت : إذا كانت من جنس التفاسير التي تفسِّر قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء / 30 ] ، بأن الأرض كانت متصلة بالشمس وجزءًا منها ، ومن شدة دوران الشمس انفصلت عنها الأرض ، ثم برد سطحها وبقي جوفها حارّاً ، وصارت من الكواكب التي تدور حول الشمس . إذا كانت التفاسير التي يستدل مؤلفوها بقوله تعالى { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [ النمل / 88 ] على دوران الأرض ، وذلك أن هذه التفاسير تحرِّف الكلِم عن مواضعه ، وتُخضع القرآن الكريم لما يسمونه نظريات علميَّة ، وإنما هي ظنيَّات أو وهميَّات وخيالات . وهكذا جميع التفاسير التي تعتمد على آراء جديدة ليس لها أصل في الكتاب والسنَّة ولا في كلام سلف الأمَّة ؛ لما فيها من القول على الله بغير علم . الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 4 / 180 ، 181 ) .

د. وأما بالنسبة للخواطر والفوائد المستنبطة من الآيات فهي من فضل الله يؤتيه من يشاء ، وقد يستنبط طالب العلم ما لا يستنبطه العالم من الفوائد ، وقد يستنبط العالم ما لا يستنبطه عالِم آخر ، وهذا بحسب توفيق الله لكل واحد منهما وما وهبه الله لكل واحد منهما من الأدوات ، لكنهم في كل الأحوال لا يخرجون عن المعنى الصحيح للآية ولا يقولون بما لم يقله الأوائل من معنى الآية ، كما يفعله الباطنية الذين الباطنية يفسرون : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } أنه علي ، ويفسرون قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } بأنهما أبو بكر وعمر ، وقوله : { فقاتلوا أئمة الكفر } أنهم طلحة والزبير ، و { والشجرة الملعونة في القرآن } بأنها بنو أمية . وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى : { اذهب إلى فرعون } إنه القلب ، و { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } إنها النفس ، ويقول أولئك : هي عائشة ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض عليه من العقل الفعال أو غيره ، ويجعلون ( خلع النعلين ) : ترك الدنيا والآخرة ، ويفسرون ( الشجرة التي كلم منها موسى ) و ( الوادي المقدس ) ونحو ذلك بأحوال تعرض للقلب عند حصول المعارف له .

قال شيخ الإسلام – بعد أن ذكر الأمثلة السابقة - : وهؤلاء المتأخرون - مع ضلالهم وجهلهم - يدعون أنهم أعلم وأعرف من سلف الأمة ومتقدميها . " مجموع الفتاوى " ( 13 / 240 ) .

وقال : وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام . " مجموع الفتاوى " ( 13 / 244 ) .

وقد ذكر شيخ الإسلام – رحمه الله – أقسام مثل هذه الفوائد والإشارات في الآيات ، فقال :
وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان :

أحدهما :
أن يكون المعنى المذكور باطلا ؛ لكونه مخالفاً لما علم ، فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا ؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق .

والثاني : ما كان في نفسه حقّاً لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك ، فهذا الذي يسمونه " إشارات " و " حقائق التفسير " لأبي عبد الرحمن – أي : السلمي - فيه من هذا الباب شيء كثير .

وأما النوع الأول : فيوجد كثيراً في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم فإن من علم أن السابقين الأولين قد رضي الله عنهم ورضوا عنه علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل ، ومن أقر بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد ما دام عقله حاضراً علم أن من تأول نصّاً على سقوط ذلك من بعضهم فقد افترى ، ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد ما دام عقله حاضراً علم أن من تأول نصا يقتضي تحليل ذلك لبعض الناس أنه مفتر .

وأما النوع الثاني : فهو الذي يشتبه كثيراً على بعض الناس فإن المعنى يكون صحيحاً لدلالة الكتاب والسنة عليه ، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه ، وهذان قسمان :

أحدهما : أن يقال : إن ذلك المعنى مراد باللفظ ، فهذا افتراء على الله ، فمن قال المراد بقوله : { تذبحوا بقرة } هي النفس ، وبقوله { اذهب إلى فرعون } هو القلب ، { والذين معه } أبو بكر ، { أشداء على الكفار } عمر ، { رحماء بينهم } عثمان ، { تراهم ركَّعاً سجَّداً } علي : فقد كذب على الله إما متعمِّداً وإما مخطئاً .

والقسم الثاني : أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس ، لا من باب دلالة اللفظ : فهذا من نوع القياس ، فالذي تسمِّيه الفقهاء قياساً هو الذي تسمِّيه الصوفية إشارة ، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك :

فمن سمع قول الله تعالى : { لا يمسه إلا المطهرون } وقال : إنه اللوح المحفوظ أو المصحف فقال : كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين كان هذا معنى صحيحاً واعتباراً صحيحاً ، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف . قال تعالى : { الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } وقال : { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } وقال : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وأمثال ذلك .

وكذلك من قال : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب " فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب قال تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } ، وقال تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } وأمثال ذلك . " مجموع الفتاوى " ( 13 / 241 – 243 ) .

والله أعلم


السؤال الثاني : هل ما يحكيه الله في قصص القرآن على لسان أحد المذكورين فيها هو باللفظ أو بالمعنى ؟

الجواب : ما يحكيه الله تعالى على لسان أحد المذكورين من الأمم السابقة إنما هو بمعناه لا بلفظه ، وذلك لأسباب كثيرة ، منها :

أ . أن لغات الأمم السابقة لم يكن أكثرها عربية ، والقرآن تكلم الله تعالى به بالعربية وهكذا أُنزل ، ومن المستحيل أن يكون نقل الكلام - لمن لا يتكلم بالعربية – باللفظ العربي .

ب . تعدد الألفاظ في القصة الواحدة ، فمرة – مثلاً – يقول : { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [ الأعراف / 111 ] ، ومرة أخرى – في القصة نفسها - يقول : { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [ الشعراء / 36 ] .

ت . لو كان ما ذكره الله تعالى هو لفظهم لما كان الإعجاز في كلام الله بل في لفظهم ، ويتجلى الإعجاز في مثل ما ذكره الله تعالى باللفظ المعجز من كلامه هو سبحانه ، مع ملاحظة أن القرآن هو كلام الله ، ولو كان المنقول هو كلامهم لفظاً وعنى لما صحَّ أن يقال إنه " كلام الله " !

قالت اللجنة الدائمة : الكلام يطلق على اللفظ والمعنى ، ويطلق على كل واحد منهما وحده بقرينة ، وناقله عمن تكلم به من غير تحريف لمعناه ولا تغيير لحروفه ونظمه مخبر مبلغ فقط ، والكلام إنما هو لمن بدأه ، أما إن غيَّر حروفه ونظمه مع المحافظة على معناه : فينسب إليه اللفظ حروفه ومعناه ، وينسب من جهة معناه إلى من تكلم به ابتداءً ، ومن ذلك ما أخبر الله به عن الأمم الماضية ، كقوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ غافر / 27 ] ، وقوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } [ غافر / 36 ] ، فهاتان تسميان قرآناً ، وتنسبان إلى الله كلاماً له باعتبار حروفهما ونظمهما ؛ لأنهما من الله لا من كلام موسى وفرعون ؛ لأن النظم والحروف ليس منهما ، وتنسبان إلى موسى وفرعون باعتبار المعنى ، فإنه كان واقعاً منهما ، وهذا وذاك قد علمهما الله في الأزل وأمر بكتابتهما في اللوح المحفوظ ، ثم وقع القول من موسى وفرعون بلغتهما طبق ما كان في اللوح المحفوظ ، ثم تكلم الله بذلك بحروف أخرى ونظم آخر في زمن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فنسب إلى كلٍّ منهما باعتبار . الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن قعود " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 4 / 6 ، 7 ) .

والله أعلم


السؤال الثالث : هل قوله تعالى { ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } قد تحقق فيما مضى أو لا ؟

الجواب : لا يمكن لمفسِّر أن يبيِّن ما أجمله الله تعالى إلا بنص من القرآن أو بنص من السنَّة ، وهذا ما ليس موجوداً هنا ، إذ يستحيل الجزم بمعرفة الإفساد الأول والثاني وأهلهما دون أن يكون ذلك عن طريق الوحي ؛ لأن هذا من الغيب ، وهو ما لم يبينه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم ، وليس في بيانه أي فائدة تذكر ، فالاشتغال فيه نوع من تضييع الأوقات والبعد عن معاني القرآن وخاصة هنا وهو أن سبب الهلاك إنما هو الفساد والإفساد !

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي :
واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين ، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار ، إما من أهل العراق أو الجزيرة أو غيرها : سلَّطهم الله على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي وتركوا كثيراً من شريعتهم وطغوا في البلاد . " تفسير السعدي " ( ص 405 ) .

قال ابن كثير :
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلَّطين عليهم من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجزري وجنوده … وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنْحاريب وجنوده ، وعنه أيضاً وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل .

وقال : وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ونحن في غنية عنها ولله الحمد وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء . " تفسير ابن كثير " ( 3 / 26 ) .

وقد سئلت اللجنة الدائمة عن قوله تعالى { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } [ الإسراء / 5 ] هل هي خاصة بالمؤمنين أم هي عامة ؟ وهل وقعت أم لم تقع ؟ فأجابوا بظاهر الآية ولم يجزموا بمعنى لم تنص عليه الآية ، وأحالوا على " تفسير ابن كثير " . انظر " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 4 / 246 ، 247 ) . وما قاله علماء اللجنة خير من كثير من كلام بعض المعاصرين الذين تكلفوا القول في تأويل الآية وحملها – جزماً ! – على معانٍ يحتاج معها صاحبها لوحي !

والله أعلم


السؤال الرابع : هل ورد في الحديث أن الطائفة المنصورة بأكناف بيت المقدس ، وما صحة الحديث بشأن المهدي وفيه : " لا خير في الحياة بعده " ؟

الجواب :
أ. الحديث رواه الإمام أحمد ( 21816 ) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه . ولفظه : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ، قالوا : يا رسول الله وأين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس " .

قال الشيخ الألباني :
وهذا سند ضعيف لجهالة عمرو بن عبد الله الحضرمي … ولحديث أبي أمامة شاهد بنحوه رواه الطبراني ( 20 / 317 / 754 ) عن مرة البهزي … " السلسلة الصحيحة " ( 4 / ص 599 ، 600 ) .

قلت : ونص الحديث عند الطبراني : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، قلنا : يا رسول الله وأين هم ؟ قال : بأكناف بيت المقدس " .

قلت : والصواب أن حديث الطبراني لا يصلح شاهداً لحديث أبي أمامة ؛ وذلك لأن في الحديث مجاهيل لا يعرف حالهم ، ومثل هذا السند لا يصلح في الشواهد ؛ فقد يكون أحدهم متروكاً أو وضَّاعاً . قال الهيثمي – عن حديث مرة البهزي - : وفيه جماعة لم أعرفهم . " مجمع الزوائد " ( 7 / 289 ) . وتعقبُّ شيخنا الألباني على الهيثمي متعقَّب في الجملة . والله أعلم

قلت : لكن ورد أن الطائفة المنصورة في الشام ، وبيت المقدس جزء من الشام ، وهو يغني عن الحديث الضعيف الذي يخصصها في " بيت المقدس " .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وإذا كان كذلك : فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره ، هذا أمر معلوم بالحس والعقل وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان وقد دلت النصوص على ذلك : مثل ما روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم " وفي سننه أيضا عن عبد الله بن خولة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم ستجندون أجنادا : جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق فقال ابن خولة : يا رسول الله اختر لي فقال : عليك بالشام ؛ فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من خلقه فمن أبى فليلحق بيمنه وليتق من غدره فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله " ، وكان الخوالي يقول : من تكفل الله به فلا ضيعة عليه ، وهذان نصان في تفضيل الشام ، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " قال الإمام أحمد : أهل المغرب هم أهل الشام وهو كما قال ؛ فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك الزمان كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق ويسمون أهل الشام أهل المغرب ؛ لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل مكان له غرب وشرق ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك في المدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غربة وما تشرق عنها فهو شرقة ، ومن علم حساب البلاد - أطوالها وعروضها - علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات - كالبيرة ونحوها - هي محاذية للمدينة النبوية كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحران وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة - شرفها الله - ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها وما يغرب ذلك فهو غربها ، وفي الكتب المعتمد عليها مثل " مسند أحمد " وغيره عدة آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأصل : مثل وصفه أهل الشام " بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم " ، وقوله " رأيت كأن عمود الكتاب - وفي رواية - عمود الإسلام أخذ من تحت رأسي فأتبعته نظري فذهب به إلى الشام " وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه وهم حملته القائمون به ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : " عقر دار المؤمنين الشام " ومثل ما في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " ، وفيهما أيضا عن معاذ بن جبل قال : " وهم بالشام " وفي تاريخ البخاري قال : " وهم بدمشق " وروي : " وهم بأكناف بيت المقدس " وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه أخبر أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام " والآثار في هذا المعنى متعاضدة ولكن الجواب - ليس على البديهة - على عجل . " مجموع الفتاوى " ( 27 / 42 – 44 ) .

ونلاحظ استعمال شيخ الإسلام للفظة " روي " عند ذكر الحديث وهو مما يدل على ضعفها عنده أو على عدم الجزم بصحتها على الأقل ، وإن كان لم يستعمل مثل هذه اللفظة في موضع آخر وهو " مجموع الفتاوى " ( 28 / 533 ) . والله أعلم

ب. أما حديث " لا خير في الحياة بعده " الوارد في المهدي : فقد رواه الإمام أحمد ( 10933 ) و ( 11092 ) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – بلفظ : " أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحا ، فقال له رجل : ما صحاحا ؟ قال : بالسوية بين الناس ، قال : ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غنى ويسعهم عدله حتى يأمر مناديا فينادي فيقول : من له في مال حاجة ؟ فما يقوم من الناس إلا رجل فيقول : ائت السدان – يعني : الخازن – فقل له : إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا ، فيقول له : احث ، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم فيقول : كنت أجشع أمة محمد نفساً أو عجز عني ما وسعهم ، قال : فيرده فلا يقبل منه ، فيقال له : إنا لا نأخذ شيئا أعطيناه فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين ، ثم لا خير في العيش بعده – أو قال : ثم لا خير في الحياة بعده - . وفيه العلاء بن بشير المزني ، قال علي بن المديني : مجهول ، كما في " ميزان الاعتدال " ( 5 / 120 ) . وضعفه شعيب الأرناؤط في " مسند أحمد " ( 17 / 427 ) .

والله أعلم


السؤال الخامس : س 5 : هل وسائل الدعوة وطرقها توقيفية ، وهل حديث " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " شامل لجميع الأمور ، وما المراد بسنة الخلفاء الراشدين ؟

الجواب : أ . أمر الله تعالى بالدعوة إليه ، والدعوة إلى الله عبادة شرفٌ شرَّف الله بها هذه الأمة ، قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران / 110 ] . والأصل في الوسائل التي تُسلك في الدعوة إلى الله الإباحة وليس التحريم والمنع ؛ والمهم في هذه الوسائل أن لا يقع صاحبها في بدعة أو أمرٍ محرَّم . ونحن نرى علماءنا في هذا الزمان يستعملون الوسائل المتاحة لتبليغ دين الله تعالى للناس ، فهم يدعمون الجمعيات التي ترعى الأيتام وتوزع الكتيبات وتدعو إلى الله ، ونراهم يفرِّغون الدعاة ، ولأكثرهم مواقع في الإنترنت ، هذا عدا عن تأليف الكتب وتوزيع الأشرطة – سواء كانت منهم مباشرة أو بإقرارهم – وكل هذه الوسائل لم تكن موجودةً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن تكون بدعة . وفي ظني أنه إذا أراد الذي يقول بأنها توقيفية أنه ينبغي أن تكون شرعية ولا يكون فيها بدعة أو حرام ، ومن يقول إنها اجتهادية أراد أنه يجوز أن يَسلك طرقاً لم تكن موجودة في زمان النبي صلى الله عليه لكنها لا توقع صاحبها في الحرام : لكان هذا قاطعاً للخلاف الذي نسمعه ونراه .

وهذه نخبة من فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذه المسألة :

السؤال : هل تعتبر وسائل الدعوة إلى الله عز وجل وسائل توقيفية ؟ بمعنى أنه لا يجوز الاستفادة من الوسائل الحديثة في الدعوة ، كوسائل الإعلام وغيرها ، وإنما ينبغي الاقتصار على الوسائل التي استخدمت في عهد الرسول ، صلى الله عليه و سلم ؟

الجواب : يجب أن نعرف قاعدة وهي أن الوسائل بحسب المقاصد كما هو مقرر عند أهل العلم أن الوسيلة لها أحكام المقصد ما لم تكن هذه الوسيلة محرمة ، فإن كانت محرمة فلا خير فيها . وأما إذا كانت مباحة وكانت توصِل إلى ثمرة مقصودة شرعا ، فإنه لا بأس بها ، ولكن لا يعني ذلك أن نعدل عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما فيهما من مواعظ ، إلى ما نرى أنه وسيلة في الدعوة إلى الله ، وقد نرى أن هذا وسيلة ، ويرى غيرنا أنه ليس بوسيلة ، ولهذا ينبغي للإنسان في الدعوة إلى الله أن يستعمل الوسيلة التي يتفق الناس عليها حتى لا تخدش دعوته إلى الله بما فيه الخلاف بين الناس . ولكن يجب أن نعلم الفرق بين التأليف وبين الدعوة .. فقد يكون من المصلحة أن نؤلف الشباب الذين ينضمون إلى الدعوة بعد دعوتهم إلى الكتاب والسنة بأشياء من الأمور المباحة التي لا تضرنا في الدين ولا تضر الدعوة تأليفا لهم ولئلا ينفروا لو رأوا الأمر كله جدّاً. " فتاوى إسلاميَّة " ( 4 / 295 ، 296 ) .

السؤال : إن مما وقع فيه الخلاف بين الدعاة إلى الله عز وجل أمر وسائل الدعوة ، فمنهم من يجعلها عبادة توقيفية ، وبالتالي ينكر على من يقيمون الأنشطة المتنوعة الثقافيَّة أو الرياضيَّة أو المسرحيَّة كوسائل لجذب الشباب ودعوتهم .. ، ومنهم من يرى أن الوسائل تتجدد بتجدد الزمان ، وللدعاة أن يستخدموا كل وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله عز وجل ، نرجو من فضيلتكم بيان الصواب في ذلك ؟ .

الجواب : الحمد لله رب العالمين ، لا شك أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عبادة ، كما أمر الله بها في قوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل / 125 ] ، والإنسان الداعي إلى الله يَشعر وهو ويدعو إلى الله عز وجل أنه ممتثل لأمر الله متقرب إليه به . ولا شك أيضاً أن أحسن ما يدعى به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن كتاب الله سبحانه هو أعظم واعظ للبشرية ، { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } [ يونس / 57 ] . والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك يقول أبلغ الأقوال موعظة ، فقد كان يعظ أصحابه أحيانا موعظة يصفونها بأنها وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون . فإذا تمكن الإنسان من أن تكون موعظته بهذه الوسيلة : فلا شك أن هذا خير وسيلة ، وإذا رأى أن يضيف إلى ذلك – أحياناً - وسائل مما أباحه الله : فلا بأس بهذا ، ولكن بشرط أن لا تشتمل هذه الوسائل على شيء محرم كالكذب أو تمثيل دور الكافر – مثلاً - في التمثيليات ، أو تمثيل الصحابة رضي الله عنهم أو الأئمة .. أئمة المسلمين من بعد الصحابة ، أو ما أشبه ذلك مما يخشى منه أن يزدري أحدٌ من الناس هؤلاء الأئمة الفضلاء . ومنها أيضاً : ألا تشتمل التمثيلية على تشبه رجل بامرأة أو العكس ؛ لأن هذا مما ثبت فيه اللعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء . المهم أنه إذا أخذ بشيءٍ من هذه الوسائل أحياناً من أجل التأليف ، ولم يشتمل هذا على شيءٍ محرم : فلا أرى به بأسا ، أما الإكثار منها وجعلها هي الوسيلة للدعوة إلى الله ، والإعراض عن الدعوة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بحيث لا يتأثر المدعو إلا بهذه الوسائل : فلا أرى ذلك ، بل أرى أنه محرم ؛ لأن توجيه الناس إلى غير الكتاب والسنة فيما يتعلق بالدعوة إلى الله أمر منكر ، لكن فعل ذلك أحياناً لا أرى فيه بأساً إذا لم يشتمل على شيءٍ محرَّم . " فتاوى إسلاميَّة " ( 4 / 292 ، 293 ) .

وقال الشيخ ابن عثيمين :
والوسائل ليس لها حد شرعي ، فكل ما أدى إلى المقصود فهو مقصود ، ما لم بكن منهيا عنه بعينه ، فإن كان منهيا عنه بعينه فلا نقربه ، فلو قال : أنا أريد أن أدعو شخصا بالغناء والموسيقى لأنه يطرب لها ويستأنس بها وربما يكون هذا جذبا له فأدعوه بالموسيقى والغناء هل نبيح له ذلك ؟ لا ، لا يجوز أبدا ، لكن إذا كانت وسيلة لم ينه عنها ولها أثر فهذه لا بأس بها ، فالوسائل غير المقاصد وليس من اللازم أن ينص الشرع على كل وسيلة بعينها يقول هذه جائزة وهذه غير جائزة ، لأن الوسائل لا حصر لها ، ولا حدَّ لها ، فكل ما كان وسيلة لخير فهو خير . " لقاء الباب المفتوح " ( رقم 15 ص 49 ) .

ب . أما حديث " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " :
فالمراد به ابتداءً اعتقادهم ؛ وذلك لأنها جملة بيان تعصم صاحبها والعامل بها من الوقوع في التفرق العقيدي الذي يحصل لهذه الأمة وهو الذي جاء ذكره صريحاً في أول الحديث وفيه بيان افتراق هذه الأمة إلى ( 73 ) فرقة كلها في النار إلا واحدة . لكن لا يمكن أن يكون المسلم على اعتقاد الصحابة إلا بأن يسلك سبيلهم في الاستدلال وتعظيم السنة وعدم تقديم شيء عليها . ومن معاني هذه الكلمة - أيضاً - : الاجتماع على الكتاب والسنة ولذا جاء الجملة في رواية أخرى بلفظ " هي الجماعة " .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – ذاكراً الحديث تامّاً ، وشارحاً له - :
الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند ؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظه " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " وفي لفظ " على ثلاث وسبعين ملَّة " ، وفي رواية " قالوا : يا رسول الله من الفرقة الناجية ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وفي رواية قال " هي الجماعة ، يد الله على الجماعة " ، ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنَّها أهل السنَّة والجماعة ، وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم ، وأما الفرق الباقية فإنَّهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ، ولا تبلغ الفِرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفِرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها ، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة ، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنَّة والإجماع ، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة . " مجموع الفتاوى " ( 3 / 346 ، 347 ) .

ومن نظر إلى الفرق الضالة والمنحرفة فإنه لا يجرؤ أن يقول إن الصحابة كان واحد منهم على قوله ، ولك أن تنظر في اعتقاد الخوارج والمرجئة والقدريَّة والأشعريَّة فضلاً عن الفِرق الخارجة عن الإسلام كالجهميَّة والرافضة !

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن :
… فتبيَّن بهذه الأحاديث أن الفِرقة الناجية من الثلاث والسبعين هي التي تمسكت بكتاب الله ، وأخلصوا العبادة ، واتبعوا رسوله ، فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبدوا إلا الله ، وأن لا يُعبد إلا بما شرع . " مجموعة الرسائل والمسائل " ( 2 / 74 ) بواسطة كتاب " حديث افتراق الأمة " للصنعاني .

وإن كان الأصل والأكمل أن يكون المسلم على ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى في عبادتهم وعلاقتهم مع ربهم تعالى وكذا أخلاقهم ، ولهذا لا نعجب أن يذكر مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في آخر " العقيدة الواسطية " أخلاق أهل السنة والجماعة !

ت . وأما المراد بـ " سنَّة الخلفاء الراشدين "
فهو : ما وافق كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم من أقوالهم وأفعالهم ، دون ما كان من اجتهادات بعضهم وخالفه فيه غيره ، ودون ما دلَّ الشرع على خطئه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وقول الصحابي ، وفعله إذا خالفه نظيره : ليس بحجة ، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة ؟ . " اقتضاء الصراط المستقيم " ( ص 390 ) .

ومما يدل على ذلك – أي : أنَّها سنَّة واحدة – هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث " عضوا عليها بالنواجذ " ولم يقل " عليهما " وهذا يدل على أنها " سنَّة واحدة " ، وكذا قوله " الخلفاء الراشدين " وهو يوحي باتفاقهم ، وهو الذي يسمى " إجماعاً " سواء أكان على فهم آية أو حديث أو على فعلٍ من أحدهم ووافقه عليه جميعهم كقتال المرتدين ومانعي الزكاة ، وجمع المصحف وما أشبههما .

والله أعلم

كتبه
إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي
أبو طارق