بسم الله الرحمن الرحيم

 رد الإمام ابن حزم على الأشاعرة " القرآن وإعجازه"


الرد على الأشاعرة في القرآن
قال أبو محمد ابن حزم : وقالت أيضاً هذه الطائفة المنتمية إلى "الأشعرية" إن كلام الله تعالى عز وجل لم ينـزل به جبريلُ عليه السلام على قلبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإنما نزل عليه بشيءٍ آخر ((هو عبارة عن كلام الله تعالى)) وإن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيءٌ منها كلام الله وإنَّ كلامَ الله تعالى الذي لم يكن ثمَّ كان ولا يحل لأحدٍ أن يقول إنما قلنا إن الله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروفٌ موصلةٌ ولا بعضه خيرٌ من بعضٍ ولا أفضل ولا أعظم مِن بعضٍ!! وقالوا : لم يزل الله تعالى قائلاً لجهنم "هل امتلأت" وقائلا للكفار "اخسئوا فيها ولا تكلمون" ولم يزل تعالى قائلا لكل ما أراد تكوينه "كن"!!!
قال أبو محمد : وهذا كفرٌ مجردٌ بلا تأويلٍ وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا ؟ فإن قالوا ليس هو كلام الله! كفروا بإجماع الأمة! وإن قالوا بل هو كلام الله ، سألناهم عن القرآن أهو الذي يُتلى في المساجد ويُكتب في المصاحف ويُحفظ في الصدور أم لا ؟ فإن قالوا لا ! كفروا بإجماع الأمة ، وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموعٌ مِن القرَّاء ومحفوظٌ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.أ.هـ "الفصل" (3/5)

وقال رحمه الله:
والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه ؟ فقالت الأشعرية ومَن وافقهم أنَّ المعجز إنما هو مقدار أقل سورةٍ منه وهو {إنا أعطيناك الكوثر} فصاعداً!! وإن ما دون ذلك ليس معجزاً!!
واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى {قل فأتوا بسورةٍ مِن مثله} قالوا : ولم يتحدَّ تعالى بأقلَّ مِن ذلك!!
وذهب سائر أهل الإسلام إلى أنَّ القرآنَ كلَّه قليله وكثيره معجزٌ ، وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ، ولا حجة لهم في قوله تعالى {فأتوا بسورة من مثله} لأنه تعالى لم يقل "إن ما دون السورة ليس معجزاً" بل قد قال تعالى {على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} ولا يختلف اثنان في أنَّ كلَّ شيءٍ مِن القرآن قرآنٌ فكل شيءٍ من القرآن معجزٌ .
ثم نعارضهم في تحديدهم المعجز بسورةٍ فصاعداً فنقول : أخبرونا ماذا تعنون بقولكم "إن المعجز مقدار سورة" أسورة كاملة لا أقل ؟ أم مقدار الكوثر في الآيات ؟ أم مقدارها في الكلمات ؟ أم مقدارها في الحروف ؟
ولا سبيل إلى وجهٍ خامسٍ فإن قالوا : المعجز سورةٌ تامةٌ لا أقل لزمهم أنَّ سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لاخفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها أو من آخرها لمقدور على مثلها.
وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن {والفجر وليال عشر والشفع والوتر} معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات!! وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كلمة غير معجزة ولزمهم أيضا أن {والضحى} {والفجر} {والعصر}هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات.
فإن قالوا : هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آيةٍ متفرقةٍ وإمكان المجيء بمثلها ومَن جعل هذا ممكناً فقد كابر العِيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه .
ولزمهم أيضا أن{ولكم في القصاص حياة} ليس معجزاً وهذا نقضٌ لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة!! وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول.
وإن قالوا : بل في عدد الكلمات أو [في] عدد الحروف . لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهما : إبطال احتجاجهم بقوله تعالى {بسورة من مثله} لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى "بمقدار فلاح تمويههم"!! والثاني : أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفا وقد قال الله تعالى {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان} اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفا وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشرة كلمات اثنين وستين حرفا فهذا أكثر كلمات وحروفاً مِن سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون{ولكم في القصاص حياة} غير معجز .
فإن قالوا : إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف ، وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضا أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجزاً فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده .
وأيضا فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غيرَ معجزةٍ وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدورٌ على مثله وهذا كفر!!
فإن قالوا : إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق.
والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبدا لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة أن الله تعالى يطلقني على المشي في هذه الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون مِن الآيات وأن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزةٍ وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاما ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى {وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} وليس هذا مِن بلاغة النَّاس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثيرٌ . والحمد لله رب العالمين "أ.هـ "الفصل" (3/12-14)

كتبه
إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي
أبو طارق