صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سفير الإسلام مصعب بن عمير رضي الله عنه
2/3/1427هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :

عباد الله : كلما تقدم الزمان احتاج الناس إلى نماذج بشرية مشرقة تحيي فيهم الأمل ، وتبعث فيهم الفأل ، تستعيد الأجيال اللاحقة منها سر نهضتها وتميزها لتستنير بها في سيرها إلى المولى سبحانه ، ولقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة ، أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، فهيا بنا نستلهم بعضا من العبر والدروس عن بعض أولئك القوم.
عباد الله : لما انقضت غزوة احد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء يتفقدهم ، يعرج على الأجساد الطاهرة ، وعلى القلوب الوفية ، يقلب النظر في ثلة قدموا أرواحهم فداء لنصرة الدين ، وبذلوا أنفسهم ثمناً لجنة أعدت للمتقين ، مر بهم صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً ، فلما حاذى واحداً منهم وقف عنده ورفع يديه يدعو له ثم قرأ قوله تعالى : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بلدوا تبديلا .
لقد كانت وقفة مؤثرة ودعوة معبرة ، أبى التاريخ إلا أن يسطرها ويحفظها للأجيال لتتخذها نبراساً في الحياة ، فيا ترى من هو ذلكم الشهيد الذي استوقف النبي صلى الله عليه وسلم واستعبره ؟ ولمن كانت تلك الدعوات ؟ ومن يا ترى ذلك الذي شرف بثناء الله عليه بكونه من الصادقين .
إنه عباد الله أبا عبد الله مصعب بن عمير رضي الله عنه.
أيها المسلمون: مصعب بن عمير تحدثنا عنه شوارع مكة وطرقاتها ، نواديها وعرصاتها ، يحدثنا عنه أريج المسك والأطياب ، وناعم المسكن والثياب ، ولذيذ المطعم والشراب ، بل تحدثنا عنه مكة بأسرها، بشبابها الذين كانوا يغبطونه على عيشه ، وبفتياتها اللاتي طالما تمنين مثله ، كل أولاء يحدثوننا عن مصعب بن عمير الذي ألقاهم وراءه ، وسار إلى الله تعالى يحدوه الشوق ويدفعه الأمل ليرقى في منازل الصادقين .
عباد الله : لقد كان مصعب بن عمير قبل إسلامه فتى مكة شبابا وجمالا ، كان أبواه يحبانه حبا عظيما ، ويغدقان عليه بما يشاء من أسباب الراحة والترف ، يكسى أحسن الثياب ، ويلبس أجمل اللباس شهد له بذلك أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم حين قال :" ما رأيت بمكة أحسن لمة وأرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير " ومع ما كان فيه من النعيم لمن يمنعه ذلك عن البحث عن نور الحق ومصدر السعادة ، سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه يدعو إلى دين جديد يحرر العباد من عبادة العباد إلى عباده رب العباد فقدم إليه مستخفيا وهو في دار الأرقم بن أبي الأرقم فسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما انشرح به صدره وارتاح له فؤاده فأعلنها بين يديه : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ، ثم مضى رضي الله عنه حافظاً للعهد بأن يكتم إسلامه خوفاً على نبيه وسلامة لدينه وجسده أن ينال بالأذى كما نيل بذلك من سبقه .
لقد آثر رضي الله عنه الآخرة على الدنيا ، مع علمه بأنه سيسلب النعيم الذي هو فيه ، وسوف تتبدل حاله من العز إلى الذل ، ومن السعة في نظر الناس إلى الضيق ، ومن النعيم إلى الجحيم ، ومن الراحة إلى التعب، ولقد صدق حدسه وظنه فبرغم حرصه على كتمان إسلامه إلا أن الواشين من المشركين أبوا إلا الوشاية به عند أمه وقومه نكاية به ، وصداً عن سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم : " ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونوا سواء ".
أيها المسلمون: حين علمت أمه بإسلامه حلفت ألا تأكل أو تشرب أو تستظل حتى يرجع عن دينه ويترك محمدا وصحبه ، فكانت تقف في الشموس حتى تسقط مغشيا عليها ولم يغير ذلك من حاله رضي الله عنه ، فأدركت أمه حينها أن سياسة السراء والاستعطاف لا تجدي ، فأمرت به فحبس في ركن قصي من أركان دارها وحرمته من كل النعيم الذي تغدقه عليه ، حتى تغير لونه ، وذهب لحمه ، وأنهك جسده ، وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه وهو بتلك الحال ينظر إليه فيبكي صلى الله عليه وسلم لما كان يعرف من حاله ونعمته.
عباد الله : مضى مصعب بن عمير يجر قدميه فوق الشوك يعالج طريق الجنة التي خفت بالمكاره ، حتى إذا سهل الله الفرج هاجر إلى الحبشة، فترك وطنه ، وودع حبيبه فاراً بدينه مع ثلة من المؤمنين الصادقين، وهناك في الحبشة يبلغهم أن قريشاً هادنت المسلمين فيعود مصعب مع من عاد ، فإذا قريش قد ازدادت شراسة عما كانت عليه من قبل ، ولا صحة لما بلغهم من أمر الهدنة ، فرجع مصعب فارا بدينه مع أهل الهجرة الثانية إلى الحبشة ، وتمضي الأيام ويعود مصعب إلى مكة ليشهد هذه المرة محنة الحصار في الشعب ، وفي الشعب صبر مصعب وصابر ، حتى أنهكه الجوع والعطش ، فخارت قواه وصار لا يقدر على المشي، والمسلمون يحملونه على أكتافهم ، يقول عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : كان مصعب أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا ، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش لم يقو على ذلك ، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا ..
عباد الله : سمعت طلائع الأنصار بالنبي صلى الله عليه وسلم فأبت إلا أن تسلم وتبايع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معهم أول سفير في الإسلام ، ذلكم الرجل الذي صقلته الأحداث ، ولم تثنه الدنيا بزخرفها عن الثبات على المبدأ والتمسك بالعقيدة، حتى ولو اجتمعت الدنيا بأجمعها على حربه .
انطلق مصعب بن عمير إلى المدينة معلماً وداعية وإماما ، وما هي إلا أيام حتى تسلم المدينة كلها إلا من شاء الله على يد مصعب رضي الله عنه ، فما أهناه وأسعده ، الأنصار كلهم حسنة في ميزان حسناته رضي الله عنه .
أيها المسلمون : وحين أذن الله لنبيه بالقتال سمت همة ذلكم الشاب للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والذود عنه ، ففي السنة الثالثة من الهجرة دفع النبي صلى الله عليه وسلم راية المسلمين في غزوة أحد إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه ، فما اهتزت في يده رغم شدة القتال ، ثم لما شاع في الناس مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكشف منهم من انكشف، ثبت مصعب مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم ودفعت المشركين عنه، وأقبل رضي الله عنه يحمل الراية ويهتف مرددا قول الحق عز شأنه " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزئ الله الشاكرين " فتقدم إليه عدو الله ابن القمئة فشد عليه ، فضرب يده اليمنى فقطعها ، ثم أخذ رضي الله عنه اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع فضرب ابن القمئة يده اليسرى فقطعها ، فانحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره ، فحمل عليه عدو الله الثالثة فأهوى بالرمح على جسده الطاهر، فخر رضي الله عنه على الأرض صريعاً .
وهكذا عباد الله قضى مصعب بن عمير رضي الله عنه نحبه ، وهو ابن أربعين سنة ، مات ميتة الأبطال ، وهو عند الله تعالى من الشهداء الأبرار ، لقد باع الدنيا بالآخرة ، وقدم الرخيص فظفر بالغالي ، سقط جسده رضي الله عنه على الأرض وحلقت روحه إلى بارئها ، ليبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك .
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة * تقوم مقام النصر إن فاته النصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه * من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
تردى ثياب الموت حمرا فما دجى * لها الليل إلا وهي من سندس خضر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة * غداة ثوى ألا اشتهـت أنها قبــر
عليك سلام الله وقفا فإننـــي * رأيت الكريم الحر ليس له عمــر
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بهدي يسد المرسلين ، أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي كان غفورا رحيما .

الخطبة الثانية :

عباد الله : مضى مصعب بن عمير رضي الله عنه ، ومضى معه أخوانه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن ذكراه ومواقفه التي نستلهم منها العبر لم ترحل ، بل هي باقية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
لقد مضى مصعب ذلك الشاب المترف الذي كان يلبس أحسن الثياب ، وينتعل افضل النعال ، مضى من الدنيا ولا يملك شيئاً سوى ثوبه الذي عليه ، إن غطوا رأسه بدت رجلاه ، وإن غطوا رجليه بدا رأسه ، يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نبتغي وجه الله ، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه ، فقال صلى الله عليه وسلم : غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر .
أيها المسلمون: إن حياة مثل هذا الرجل وتضحياته من اجل الوصول إلى هدفه ، تعلمنا أن السائر في هذه الحياة وما يعتريها من عوارض وأحوال ، وكوارث ونكبات ، يجد الصبر ضرورة حياتية لكل عمل من أعمال الدنيا سلبا كان أو إيجابا ، فبالصبر على مواقع الكره ، تدرك الحظوظ ، وعند انسداد الفرج تبدو مطالع الفرج ، وبمفتاح عزيمة الصبر تعالج مغاليق الأمور ، فمن صبر نال المنى ، ومن شكر حصن النعمى ومن قل صبره عزب رأيه واشتد جزعه فصار صريع همومه وفريسة غمومه.
إني رأيت وفي الأيام تجربة * للصبر عاقبة محمودة الأثـــر
وقل من جد في أمر يحاوله * واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
عباد الله : إن أحق الناس بالصبر والاحتذاء بمصعب رضي الله عنه هم علماء الملة ، والدعاة إلى الشريعة ، وحماة الفضيلة ، لأن الطريق الذي سلكوه طريق صعب المشاق ، شديد المكاره، مملوء بالأشواك ، ومغروس بالأشلاء ، ولن يجدوا الراحة والهناء إلا بعد مفارقة الحياة عند عزيز مقتدر .
عباد الله : ما مضى شيء من سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم في مجال العبادة والدعوة والعمل الصالح ، هل لنا أن نحي في شبابنا تلك الروح والهمة حتى نعيد للأمة مثل أمجاد الصحابة رضوان الله عليهم .
عباد الليل إذا جن الظلام بهم * كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم * هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا * يشيدون لنا مجدا أضعناه.
ثم صلوا على البشير النذير ...


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية