صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







" وعلى الله فتوكلوا "
5/4/1429هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :

عباد الله : في ظل زينة الدنيا وافتتان الناس بها ، ولهوهم وغفلتهم وانشغالهم عن الحياة الآخرة تحتاج الأنفس البشرية بين الفينة والأخرى إلى التذكير ببعض العبادات التي غفل بعض الناس عنها ، وجهلوا أثرها وفائدتها، فتعالوا أيها المسلمون لنقف مع أنفسنا وقفة مصارحة ومحاسبة في واحدة من هذه العبادات لنرى واقعنا ، ونبصر حجم أخطائنا ، لنعود بإذن الله تعالى إلى رشدنا وصوابنا .
أيها المسلمون : الحديث عن عبادة التوكل على الله تعالى حديث يبدأ ولا ينتهي ، فهو من أوسع منازل الإسلام وأجمعها ، ومن أجل الأعمال الصالحة ، وأهم أعمال القلوب ، جعله المولى جل شأنه شرطاً للإسلام والإيمان فقال سبحانه : " إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " ( يونس:84) ، وقال تعالى : "وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " (المائدة:23)، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه ، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى ، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل ، وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد " أ.هـ.
عباد الله : التوكل من أجل صفات المؤمنين ، وأرفع درجات السالكين ، وأعلى مقامات الموحدين ، قال تعالى : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آيته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون "( الأنفال:2)، قال ابن كثير رحمه الله : " أي لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ،ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون حوائجهم إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب .." .
عباد الله : التوكل وصية الله للأنبياء ، ووصية الأنبياء لأقوامهم ، فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه : " يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم " (يونس:71)، وقال تعالى عن نبيه هود عليه السلام : " إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " (هود:56) ، وقال عن شعيب عليه السلام : " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " (هود:88)، وقال سبحانه آمراً وموجهاً رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : " فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " (آل عمران:159) .
أيها المسلمون : إن التوكل الحقيقي على الله تعالى هو أن يعتمد القلب على الله وحده في حصول المطلوب ودفع المكروه ، مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها، فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب ، نقص توكله على الله ، وكان قادحاً في كفاية الله ، لأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب ودفع المكروه ، ومن جعل اعتماده على الله ملغياً للأسباب كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج ، فقد طعن في حكمة الله ، لأن الله حكيم يربط الأسباب بمسبباتها.
عباد الله : إن التوكل على الله سبحانه عبادة عظيمة ، وصرف شيء منها لغير الله تعالى يؤدي بصاحبه إلى الشرك صغيراً كان أو كبيراً ، وقد قال أهل العلم ، إن التوكل على قسمين:
أحدهما : التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر أو حفظ أو رزق أو شفاعة فهذا شرك أكبر .
والثاني : التوكل في الأسباب الظاهرة ، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك فهو نوع شرك أصغر وقال بعضهم : هو من الشرك الخفي .
وأما الوكالة الجائزة : فهي توكيل الإنسان غيره في فعل ما يقدر عليه، لكن ليس له أن يعتمد على غيره في حصول ما وكل فيه ، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي طلبه بنفسه أو نائبه ، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليها .
أيها المسلمون : لقد بليت المجتمعات المسلمة عبر التأريخ بطائفتين اثنتين ، طائفة عطلت الأسباب الشرعية المأمور بها بحجة التوكل على الله وهم في الحقيقة متواكلون ، قعدوا عن الأخذ بالأسباب الشرعية المباحة ، متعللين بأن الأرزاق مكتوبة ، والآجال محدودة ، وأنه لا فائدة في بذل الأسباب طالما أن الأمور تجري بالمقادير، وطائفة تركوا العمل والأخذ بالأسباب تكاسلا وضعفاً، واستسلاماً للأوهام والظنون، يشكو أحدهم الفقر وربما كان من أغنى الناس ، ويتعلل آخر بالعجز عن العمل والكسب ، وهو من الأصحاء الأقوياء القادرين على العمل والتكسب ، ويستسلم ثالث للأمراض والعاهات ، وقد تداوى من هو خير منه من صفوة الأنبياء والصالحين .
عباد الله : إن المتوكلين في كتاب الله هم العاملون : " نعم أجر العاملين * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " ( العنكبوت:58-59) ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة فقال : يا رسول الله أرخي لناقتي وأتوكل ؟ أي أتركها بدون عقال وأتوكل، فماذا كان جواب الحبيب صلى الله عليه وسلم ؟ قال له : أعقلها وتوكل ، أي أربطها ثم توكل على الله.رواه الترمذي وابن حبان، ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقواماً عاكفون في المسجد عالة على الناس ، تركوا العمل والكسب ، علاهم بدرته وطردهم قائلاً : " إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة " ، ولقي مرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ناساً من أهل اليمن ، فقال: من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ، قال : بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل من يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله .
أيها المسلمون : لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب ، فكان يأخذ الزاد في السفر ، واختفى عن الكفار في الغار ، وتعاطى الدواء ، ولما خرج في احد ظاهر بين درعين ، أي لبس درعين ، ولما خرج مهاجراً أخذ من يدله على الطريق ، ولم يقل سأذهب مهاجراً ، وأتوكل على الله ، ولن اصطحب معي من يدلني الطريق، وكان صلى الله عليه وسلم يتقي الحر والبرد ولم ينقص ذلك من توكله .
عباد الله : إن المتأمل في حياتنا اليوم يجد أنواعاً وصوراً وأمثلة كثيرة على ضعف توكلنا على الله تعالى وقلة اعتمادنا عليه سبحانه ، ومن تلك الصور أن بعض الناس إذا كانت له حاجة دنيوية أو معاملة أو طلب وظيفة أو غيرها ، تجد أن أول من يخطر على فؤاده فلان من الناس ، فيتوجه إليه ويطلبه ، وربما نافق له أو مدحه أو رشاه ، ونسي أو تناسى أن الله بيده كل شيء، وهو كل شيء قدير، ومن الناس فئام أصيبوا بالأمراض فعلقوا قلوبهم بالأطباء أو الأدوية ، ورجوا منهم الشفاء وزوال الداء ، ومنهم من قطع الفيافي والقفار وشرق وغرب في الأمصار ، يلاحق السحرة والمشعوذين ، يرجو منهم رفع البلاء وكشف الضراء ، فخربوا قلوبهم لإصلاح أبدانهم ، ففسدت قلوبهم ، ووهنت أبدانهم، ومن الناس كذلك من إذا نزلت بهم المصائب ، وأصابتهم النوائب فزعوا إلى غير مفزع ، وفروا إلى غير مهرب ، طرقوا كل باب ، وسلكوا كل سبيل، لكنهم غفلوا عن سبيل الله تعالى ، وتناسوا أنه سبحانه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون ، وأنه سبحانه كاف من يثق به في نوائبه ومهماته .
أيها المسلمون : وينتقل ضعف التوكل وللأسف إلى بعض رجال الإصلاح وحملة الرسالة حين يلتزمون الصمت ويضعفون عن قولة الحق لا لمصلحة في الدين ، وإنما خوف التبعة وإيثاراً للسلامة والعافية حتى وإن كان في ذلك غضب رب العالمين.

توكل على الرحمن في كل حاجة * أردت فإن الله يقضي ويقدر
متى ما يرد ذو العرش أمرا بعبده * يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه * وينجو بإذن الله من حيث يحذر

أيها المسلمون : جعل الله تعالى للتوكل عليه منافع وآثاراً مباركة فمن ذلك أن التوكل على الله وحده سبب لحصول المطلوب واندفاع المرهوب، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه وأقلقه ، وكلما كان العبد حسن الظن بربه حسن الرجاء له صادق التوكل عليه فإن الله تعالى لا يخيب أمل آمل صادق ، ولا يضيع عمل عامل مخلص " . أ.هـ.
والتوكل على الله عباد الله باب واسع من أبواب الرزق، جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً" أخرجه أحمد وصححه الألباني، ومعنى " تغدو خماصاً " أي تذهب في الصباح جائعة ، و" تروح بطاناً " أي ترجع في المساء شبعة .
يقول ابن رجب رحمه الله: " ويدل الحديث على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها ، فلذلك هم يتعبون أنفسهم ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم ، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب ، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح ، وهو نوع من الطلب والسعي ، لكنه سعي يسير "، قيل لحاتم الأصم على ما بنيت أمرك في التوكل ؟ قال : على خصال أربعة : علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي ، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي على بغتة فأنا أبادره ، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه .

تَوكلْتُ في رِزْقي عَلَى اللَّهِ خَالقي * وَأَيْقَنْتُ أنَّ اللَّهَ لاَ شَكَّ رَازِقي
وَمَا يَكُ مِنْ رِزْقِي فَلَيْسَ يَفوتُني * وَلَو كَانَ في قَاع البَحارِ الغَوامِقِ
سَيأْتي بِهِ اللَّهُ العظيم بِفَضْلِه * ِوَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِني اللسَانُ بِنَاطِقِ
فَفي أي شيءٍ تَذْهَبُ النَفْسُ حَسْرَةً * وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلاَئِقِ

أيها المسلمون : ومن منافع التوكل على الله حق توكله حفظ الله للعبد في وقت الشدائد والأزمات ، فهذا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار قال " حسبنا الله ونعم الوكيل " وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حمراء الأسد يدفع الله عنهم الوهن ، ويقذف في قلوب أعدائهم الرعب حين قالوا " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، " روي أن رجلاً من أهل الكوفة قال : كنت في بستان لي، إذ خيل إلي شخص أسود ففزعت منه فقلت : حسبي الله ونعم الوكيل، فساخ في الأرض ( غاص فيها ) وأنا أنظر إليه، وسمعت صوتاً من ورائي يقرأ هذه الآية : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره " فالتفت فلم أر شيئاً " ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم " .
عباد الله : من توكل على الله فليس للشيطان عليه سبيل أو سلطان " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " ( النحل: )، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا خرج المرء من بيته كان معه ملكان موكلان به فإذا قال: بسم الله، قالا: هديت، فإذا قال: توكلت على الله، قالا: كفيت، فإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وقيت ، قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي وكفي ووقي . رواه الترمذي وغيره .
ومن منافع التوكل على الله تعالى أنه يكسب صاحبه قوة وشجاعة تهون في سبيلها قوة الخلق ومكائدهم مهما كانت، وكلما قل قدر المرء من التوكل زاد نصيبه من الضعف والخور ، ولا حقته الهموم وسيطرت عليه الأوهام ، قال بعض السلف: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، فإن القوة مضمونة للمتوكل والكفاية والحسب، والدفع عنه حاصل له، ولذا كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أقوى الخلق إيماناً وأرسخهم يقيناً وأصلبهم مراساً ولأتباعهم الصادقين وورثتهم العاملين نصيب من ذلك كله .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين ..

الخطبة الثانية :

عباد الله : إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يواجهون عدوا شرسا ، ويواجهون أعداء آخرين متربصين ، ومنافقين قد أعلنوا نفاقهم صراحة، وبدأوا بخلخلة المجتمعات الإسلامية من داخلها ، مطالبين المسلمين بالتخلي عن دينهم ، واطراح شريعة ربهم ، ظناً منهم أن الكفر منتصر لا محالة ، وأن الإسلام سيقضى عليه ، ليحل محله إسلام آخر ، إسلام لا أمر فيه بمعروف ، ولا نهي عن منكر ، ولا جهاد في سبيل الله ، ولا محرمات ينهى عنها، ولا واجبات يؤمر بها، وإن السلاح الأقوى أيها المسلمون الذي نتسلح به عند المواجهات الكبرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق مع إعداد العدة هو التوكل على الله تعالى حق التوكل ، كما قالت الرسل لأقوامهم :
" ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " ( ابراهيم:12).
توكلنا على الرحمن إنا * وجدنا الخير للمتوكلينا
ومن لبس التوكل لم تجده * يخاف جرائر المتكبرينا
فابشروا عباد الله وأملوا ، توكلوا على الله في تحقيق آمالكم واعتصموا به فهو حسبنا ، فنعم المولى ونعم النصير .
اللهم يا ذا الأسماء الحسنى والصفات العلى أرزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك .
اللهم ياحي يا قيوم اجعلنا جميعاً ممن توكل عليك فكفيته ، واستهداك فهديته، واستنصرك فنصرته.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية