صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الكوارث حكم وأحكام

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله : إن دلائل عظمة الله تعالى وقدرته لا تعد ولا تحصى ، آياته كثيرة تقصر النفوس عن عدها ، وتعجز الألسنة عن وصفها، فالسماوات من آياته ، والأرضون من آياته ، والبحار من آياته ، والنبات من آياته ، والجبال من آياته ، والحيوان من آياته ، [وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {الزُّمر:67} .
أيها المسلمون : إن عظمة الله تعالى وقدرته في قلوب عباده المؤمنين لتزداد كلما رأو آياته تترى ، وهي تختلف زماناً ومكاناً ونوعاً وعدداً ، ومن آيات الله العظيمة : تلك الأعاصير المدمرة ، والفيضانات المهلكة ، والزلازل المروعة ، والأمراض الفتاكة ، فهذه كارثة بحرية ، وأخرى جوية ، وثالثة برية ، وهناك أمراض جنسية ، وأمراض جسدية ، وأمراض نفسية، والمرضى والمصابون والهلكى يتساقطون تترى آحاد وجماعات .
عباد الله : تحصل الكوارث وتقع المصائب وتتفشى الأمراض ، والمختصون بالصحة والسلامة وشؤونها يقفون عاجزين ضعفاء أمام ما يشاهدون ويسمعون ، لا يستطيعون كشف الضر ولا تحويلا ، ففي لحظات أو سويعات نرى امة من الناس لا تشكوا مرضا بل قد يكونوا في كامل صحتهم وعافيتهم ، ثم يكون الجمع هلكى لا تسمع لهم حساً ولا همساً ، فلا إله إلا الله ما أجل حكمته ، ولا إله إلا الله ما أعظم تدبيره ، سبحانه وتعالى ، يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره .
فوا عجبا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
ولله في تحريكة *** وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
عباد الله : إن هذه الآيات والحوادث فيها تذكير للعباد بعظمة الله وقدرته ، فمهما وصل إليه علم البشر ، فيما يتعلق بمستجدات الحياة وضرورياتها فضلاً عن كمالياتها ، فإنهم لا يزالون على رغم ذلك كله ، وسيكونون كذلك أبداً ، قاصرين ضعفاء ، مساكين أذلاء ، لا يملكون لأنفسهم حولاً ولا طولا ، ولا حياة ولا موتاً ولا نشورا .
أيها المسلمون : لقد بلغت احتياطات السلامة في زماننا هذا أوجها وتوهجها ، حيث ألزمت الدول شعوبها ورعاياها بتطبيق تعاليم السلامة ، والحذر من التفريط بها ، ومع هذا كله ، وما يكون بعده ، تبقى تلك الوسائل المصنعة مخلوقة مربوبة ، لا يملك أصحابها لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، ففي طرفة عين يأمر سبحانه وتعالى الريح فتأتي تدمر ما أمرت به ، تقتلع الأشجار ، وتهدم البيوت ، وتهلك من شاء الله تعالى ، ويأتي الفيضان بأمر الله ، فيغرق المدن ومن فيها ، وأما الزلازل فهي آية أخرى من آيات الله ، يسوي الله بها مدناً بالأرض في أقل من ثانية ، فأين قوة البشر وقدرتهم ؟ وأين دراساتهم وأبحاثهم ؟ وماذا قدمت مكتشفاتهم ومخترعاتهم ؟ هل دفعت لله أمرا ؟ وهل منعت عذاباً ؟ أو أوقفت بلاء؟ كلا ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو سبحانه وحده لا شريك له ، ملاذ الخائفين ، وملجأ الهاربين ، وهو على كل شيء قدير.
إليه وإلا لا تشد الركائب *** ومنه وإلا فالمؤمل خائب
وفيه ، وإلا فالغرام مضيع *** وعنه وإلا فالمحدث كاذب
أيها المسلمون : لئن كان أهل الطبيعة والفلك ، وأصحاب النزعات اللالحادية يعزون الرياح الشديدة ، والأمطار الغزيرة المغرقة ، والزلازل والبراكين ، إلى ظواهر الطبيعة ، ويجعلون لها أسباباً مادية بحتة ، لا علاقة لها بأفعال الناس وأعمالهم ، فإن أهل الإيمان والإسلام لهم نظرة أخرى وميزان آخر يدركون من خلاله أن لبعض الظواهر الكونية أسباباً طبيعية ، وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوع بعضها قبل حدوثها بحسابات دقيقة ، ويدركون كذلك أن هذه الأعاصير والفيضانات وغيرها من الكوارث والنكبات إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم إنذارا لهم على عصيانهم ، وتذكيراً من الله تعالى لهم : [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] {الشُّورى:30} " يقول ابن تيمية رحمه الله : " ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا ، وبما شهد به في كتابه أن المعاصي سبب المصائب ، وأن الطاعة سبب النعمة".
عباد الله : لقد أهلك الله ببعض هذه الكوارث والآيات أمماً وأقواماً ، قرونا وأجيالاً ، كانوا أشد منا قوة وأطول أعمارا ، أرغد منا عيشا وأكثر أموالا ، فاستأصلهم سبحانه وأبادهم ، ولم يبق لهم ذكراً ولا أثراً ، فتركوا ورائهم قصورا مشيدة ، وزروعا مثمرة ، ورحلوا عن آبار معطلة ، وأراض خالية ، تركوا نعمة كانوا فيها فاكهين فأورث الله كل ذلك قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .
أيها المسلمون : إن من تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال تلك الأمم الذين أزال الله عنهم نعمه وجد أن سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله ، وإلا ما الذي أخرج الأبوين من الجنة ؟ وما الذي اغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال ؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض ؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم ، وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعا ؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله ؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا ، كل ذلك بسبب مخالفة أمره سبحانه وعصيان رسله عليهم الصلاة والسلام .
أيها المسلمون : إن المخيف في الأمر أن العقوبة إذا حلت شملت الجميع إلا من رحم الله :" واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب " وقال صلى الله عليه وسلم :" إذا انزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على أعمالهم فيكون هلاك الصالحين في البلاء هو موعد آجالهم ، ثم يبعثون على نياتهم"، قال الحافظ ابن حجر معلقا على هذا الحديث : " وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهى فكيف بمن داهن ؟ فكيف بمن رضي ؟ فكيف بمن عاون ؟ نسأل الله السلامة ". وفي الحديث الآخر " أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم ، إذا كثر الخبث " فإذا قيل هذا للصحابة الكرام رضي الله عنهم ، فما الظن بغيرهم ؟. .
عباد الله : على مدى التاريخ كانت هناك كوارث وزلازل أهلكت أقواماً ومدناً ، وكان المؤمنون يقفون منها موقف الاعتبار والاتعاظ ، فلننظر إلى بعض أحوالهم مع الكوارث ثم نعيد النظر كرة أخرى إلى حالنا لنر البون الشاسع بين حالنا وحالهم ، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيها أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض ــ أي سحاب ــ فيه ظلمات متكاثفة ، وبروق خاطفة ورياح عاصفة ، فقوي لهوبها ، واشتد هبوبها ، رجفت لها الجدران واصطفقت ، وتلاقت على بعدها واعتنقت ، وثار بين الأرض والسماء عجاج ، فقيل : لعل هذه على هذه قد انطبقت ، ولا تحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد ، وعدا منها عاد ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سرج النجوم ، ومزقت أديم السماء ، ومحقت ما فوقه من الرقوم ، فكنا كما قال تعالى : " يجعلون أصابعهم في آذنهم من الصواعق حذر الموت " وكما قلنا : يردون أيديهم على أعينهم من البوارق ، لا عاصم من الخطف للأبصار ، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار ، وفر الناس رجالا ونساء وأطفالا نفروا من دورهم خفافاً وأثقالا ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فاعتصموا بالمساجد الجامعة ، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة ، ووجوه عانية ، ونفوس عن الأهل والمال سالية ، ينظرون من طرف خفي ، ويتوقعون أي خطب جلي ، قاموا إلى صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين هم عليها دائمون ، إلى أن أذن الله بالركود ، وأصبح كل يسلم على رفيقه ، ويهنيه بسلامة طريقه ، وكان يقال : بأنها قد كسرت الريح المراكب في البحار ، والأشجار في القفار ، وأتلفت خلقاً كثيراً من السفار ، ومنهم من فر فلم ينفعه الفرار ، إلى أن قال : ولا يحسب أحد أني أرسلت القلم مرجفا، والقول مجزفا ، فالأمر أعظم ، ولكن الله سلم ... الخ رحمه الله .
عباد الله : إن الله سبحانه وتعالى يرى عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا ، والسعيد من تنبه وتاب ، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات ، وإننا أيها المسلمون في نعم من الله تترى ، أمن في أوطاننا ، وصحة في أبداننا ، ووفرة في أموالنا ، وبصيرة في ديننا فهل أدينا شكر الله الواجب علينا .
أيها المسلمون : كم نسمع من الحوادث ونشاهد من العبر ، حروب في البلاد المجاورة ، أفقرت أغنياء ، وأذلت أعزاء ، وكوارث يبتلي الله بها بعض الناس ، ليريهم بعض قوته ، وقدرته عليهم ، فهل اعتبرنا مما يحدث لإخواننا ؟ وهل اتعظنا من المصائب والكوارث التي حلت قريبة منا ؟ هل غيرنا من أحوالنا ، وأصلحنا من أوضاعنا ؟ هل أصلحنا نفوسنا وطهرنا بيوتنا من المفاسد والمنكرات ؟ هل تاب المتكاسل عن الصلاة فحافظ على الجمع والجماعات ؟ هل ارتدع المرابي والمرتشي ومن يغش في المعاملات . " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " .
عبد الله : إذا كنت في نعمة فارعها *** فان المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت *** فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى *** لتبصر آثار من قد ظلم
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ...

الخطبة الثانية :
عباد الله : لا يرد من عذاب الله تعالى إلا الإيمان الصحيح ، فلا الأموال تنفع ، ولا الصناعات تجدي ، :" ومن يتق الله يجعل له مخرجا " ولقد كان صلى الله عليه وسلم يخاف عذاب الله ويحاذر مكره ، تقول عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه قالت : يارسول الله ، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ، فقال صلى الله عليه وسلم : ياعائشة مايؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا " أخرجه الشيخان ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال :" اللهم إني أسألك خيرها وخير مافيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ، قال الإمام بن باز رحمه الله :" فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات ، والكسوف والرياح الشديدة والفيضانات ، البدار بالتوبة إلى الله سبحانه ، والضراعة إليه ، وسؤاله العفو والعافية ، والإكثار من ذكره واستغفاره كما قال صلى الله عليه وسلم :" فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره " ويستحب أيضاً رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارحموا ترحموا ، الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " . ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء : مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء ، وإلزامهم بالحق ، وتحكيم شرع الله فيهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ا.هـ رحمه الله .
ثم صلوا على الهادي البشير ..


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية