صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الصديق رضي الله عنه (1)
24/7/1427هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله : إن التاريخ لم يشهد من الصدق والبذل وتحري الحق والعدل ، مثل ما شهد تاريخ الإسلام في سير رجاله السابقين ، ولم تشهد البشرية كذلك رجالاً اشتد بالله عزمهم ، وصدقت لله نواياهم كما شهدت في صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن من أولئك الصحب رجل اصطفاه الله بجميل الخصال وكريم الصفات مما أهله لنيل محبة النبي صلى الله عليه وسلم والناس جميعاً ، أعرفتم ذلكم الرجل عباد الله؟
إنه عبد الله بن عثمان بن عامر يكنى بأبي بكر ، ويلقب رضي الله عنه بعدد من الألقاب من أشهرها الصديق حيث لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول أنس رضي الله عنه : صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال صلى الله عليه وسلم : اثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان . البخاري ، ولقد عرف رضي الله عنه عند الناس بالصديق قبل إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الوصف عليه ، وذلك لكثرة تصديقه للمصطفى عليه الصلاة و السلام ، تروي عائشة رضي الله عنها فتقول : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح الناس يتحدثون بذلك ، فارتد أناس كانوا آمنوا به وصدقوه ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ؟ قال : وقد قال ذلك ؟ قالوا : نعم ، فقال رضي الله عنه : لئن قال ذلك فقد صدق ، ومن ألقابه أيضاً التي اشتهر بها قبل إسلامه لقب العتيق وسمي بذلك لجمال وجهه ، وقيل لأنه كان قديما في الخير ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مرة لأبي بكر : أبشر فأنت عتيق الله من النار . أخرجه الترمذي وصححه الألباني .
عباد الله : ما سبق بعض من ألقابه رضي الله عنه التي لقب بها من أهل الدنيا، فكيف بالألقاب والأوصاف التي نالها من مولاه جلا وعلا ، إذ سماه سبحانه الصاحب كما في قصة الهجرة ، ولقبه أيضاً بالأتقى كما قال قوله : وسيجنبها الأتقى .
فهنيئاً له تلك الألقاب من أهل الأرض ومن أهل السماء .
وسميت صديقاً وكل مهاجر *** سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد *** وكنت جليساً في العريش المشهر
أيها المسلمون: كان أبو بكر رضي الله عنه وقوراً جميل السمت ، يغار على مروءته ، ويتجنب ما يريب، لم يعبد رضي الله عنه صنماً في الجاهلية بل كان يتبرم منها ، ولم يؤثر عنه كذباً قط ، وقد سئل مرة عن عدم شربه للخمر فقال رضي الله عنه : كنت أصون عرضي ، وأحفظ مروءتي ، وكان رضي الله عنه ونفر معه من قريش ممن انعقدت أواصر قلوبهم على دين إبراهيم عليه السلام ، فكانوا يمقتون ما عليه قريش وأهلها ، ويترقبون خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء الإسلام سبق إليه وبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن أمامه الإسلام وينطق بكلمة التوحيد : أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
عباد الله: لقد كان أبو بكر رضي الله عنه كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولذا فرح صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأشاد به ، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما أسلم أبو بكر انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من عنده ، وما بين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر رضي الله عنه ، بل قال صلى الله عليه وسلم : ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عتم عنه ــ أي ما تأخر حين ذكرته له .
عباد الله: أبى الصديق رضي الله عنه أن يجيء يوم القيامة بعمله فقط فانطلق يدعو إلى الله وينشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبدأ بأسرته فدعاها إلى الإسلام فأسلمت أسماء وعائشة وزوجته أم رومان وابنه عبد الله وخادمه رضي الله عنهم أجمعين ، ثم أكرمه الله تعالى بإسلام ثلة من الصحابة على يديه منهم خمسة من أشراف قريش أصبحوا بعد إسلامهم من المبشرين وهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين .
أيها المسلمون: كان إسلام أولئك النفر أولى بركات أبي بكر رضي الله عنه ، ولم يقتصر عليها بل أتبعها بخير منها حيث اشترى سبعة من المسلمين كانوا يعذبون من قبل الكفار بسبب إسلامهم ، فأعتقهم ، منهم بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعامر بن فهيدة الذي صحبهما في هجرتهما إلى المدينة ليخدمهما .
عباد الله : لقد اتعب أبو بكر رضي الله عنه من كان بعده كما قال عمر رضي الله عنه حيث كان يقدم ما يملك فداءً للدين ونصرة لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فها هو في بداية إسلامه ينفق أربعين ألف دينار وهي كل تجارته فداء وعتقاً للصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يعذبون أشد العذاب لأجل إسلامهم ، وبعد إسلامه لم تتوقف الصور المشرقة بل ازدادت وتكاثرت وحسبنا في هذا المقال أن نترك المجال لرفيقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليحدثنا عن إحدى صور البذل والإنفاق ، حيث يقول عمر رضي الله عنه : ندب النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة ذات يوم ، فوافق ذلك مالاً عندي ، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، ولم أسبقه في شيء طول الدهر ، فجئت بنصف مالي فتصدقت به ، فقال صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك ، قال عمر رضي الله عنه : أبقيت لهم مثله ، ويأتي أبوبكر بكل ماله لم يبق قليلاً ولا كثيراً فيقول له صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ، قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، فيقول عمر : قلت في نفسي ، والله لا أسابقك إلى شيء بعد اليوم أبدا ، وإليكم عباد الله صورة أخرى لإنفاقه لا تقل روعة وجمالاً عن سابقتها يرويها أيضاً رفيقه ابن الخطاب رضي الله عنهما فيقول : كنت افتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى ، فلحقته يوماً فإذا هو بظاهر المدينة ــ أي خارجها ،، قد خرج متسللاً فأدركته ، وقد دخل بيتاً صغيراً في ضواحي المدينة ، فمكث هناك مدة ، ثم خرج وعاد إلى المدينة ، فقلت لأدخلن هذا البيت، فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء ، وحولها صبية صغار ، فقلت : يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن ؟ فقالت : إنه ليتردد علينا حيناً ، والله إني لا أعرفه فقلت : فما يفعل ؟ قالت : إنه يأتي فيكنس دارنا ، ويطبخ عشاءنا ، وينظف قدورنا ، ويجلب لنا الماء ثم يذهب ، فبكى عمر حينذاك وقال : الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبا بكر .
إذا أعجبتك خصال امرئ *** فكنه تكن مثل ما يعجبك
فليس على المجد من حاجب *** إذا جئته زائراً يحجبك
عباد الله : بهذه النماذج وغيرها كثير استحق أبو بكر رضي الله عنه ثناء الله تعالى وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم فها هو المولى سبحانه ينزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: [وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى] {الليل:17} [الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى] {الليل:18} ، [وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى] {الليل:19} ، [إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى] {الليل:20} ، [وَلَسَوْفَ يَرْضَى] {الليل:21} ، وأما ثناء المصطفى صلى الله عليه وسلم وإبرازه لدور أبي بكر في نشر الدين والدعوة إليه فكثير ، يقول أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما نفعني مال أحد قط، ما نفعني مال أبي بكر ، ويروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن إخوة الإسلام ومودته ، ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها إلا أبا بكر فإن له عند الله يداً يكافئه بها يوم القيامة .
أيها المسلمون : لم يكن إنفاق أبو بكر وبذله المال للآخرين تخلصاً من أسهم مشبوهة ، أو مكتسباً من تجارة محرمة بل كانت تلك الأموال من مصادر نقية ومباحة يتحرى في اكتسابها الحلال والطيب ، يقول قيس بن أبي حازم كان لأبي بكر غلام فكان إذا جاء بغلته لم يأكل من سلته حتى يسأل ، فإن كان شيئاً مما يحب أكل ، وإن كان شيئاً يكره لم يأكل ، قال : فنسي ليلة فأكل ولم يسأله ثم سأله فأخبره أنه اكتسبه من مال لا يرتضيه ، فأدخل أبو بكر رضي الله عنه يده فتقيأ حتى لم يترك شيئاً .. أخرجه الإمام أحمد .
عباد الله : لقد كان أبو بكر رضي الله عنه على قسط وافر من رجاحة العقل وحصيف الذكاء، يتميز به ويحتاجه ذوو الأقدار الكبيرة من الرجال ، وقد قيل فيه وفي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما هما داهيتا قريش ، وكان رضي الله عنه أسرع إلى الفطنة والإدراك فيما يعرض به النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه من التلميح دون التصريح ، يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوماً فقال : عبد خيره الله أن يؤتيه زهرة الدنيا ، وبين ما عنده فاختار ما عنده ، فبكى أبو بكر وبكى وقال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا به .
عباد الله: لقي رضي الله عنه من حين إسلامه وجهره بصلاته من الأذى في مكة ما لقي ، وتحمل في ذلك ما تحمل، وفي المعارك شهد الشاهد كلها وكان القريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت معه الراية يوم تبوك ، ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة لا في أحد ، ولا الخندق ولا حنين ، ولا ثبت أحد حيث يصعب الثبات إلا كان هو أول الثابتين ، ولم يفارق نبيه صلى الله عليه وسلم لا حضراً ولا سفراً ، روي عنه رضي الله عنه أنه التقى بابنه الكافر يوم بدر شاهداً الحرب مع المشركين فنهض رضي الله عنه لمبارزته لأنه يرى أن من البر للدين أن ينهض بنفسه لمبارزة أبنه ، ولا يدع ذلك لأحد من المسلمين ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استبقاه وهو يقول : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، وحين أسلم ذلك الابن قال لأبيه : يا أبت لقد هدفت إلي يوم بدر فانحرفت عنك، فقال أبو بكر : ولكنك لو هدفت إلي لم انحرف عنك .
تلك المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
بارك الله لي ولكم ..

الخطبة الثانية :
عباد الله: قال أبو نعيم رحمه الله في ترجمة أبي بكر رضي الله عنه : أبو بكر الصديق السابق إلى التصديق ، الملقب بالعتيق ، المؤيد من الله بالتوفيق ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار ، ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار ، المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار ، وعامة الأبرار ، بقي له شرفه على كرور الاعصار ، لم تسم إلى ذروته همم أولي الأيدي والأبصار ، حيث يقول عالم الأسرار .. ثاني اثنين إذ هما في الغار .. إلى غير ذلك من الآيات والآثار ، ومشهور النصوص الواردة فيه والأخبار ، التي غدت كالشمس في الانتشار ، فضل كل من فاضل ، وفاق كل ما جادل وناضل ، نزل فيه .. لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل ، الخ كلامه رحمه الله .
ويقول ابن القيم رحمه الله : فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار ، كلما تليت عليهم فضائله علا عليهم الصغار ، أترى لم يسمع أولئك الكفار ثاني أثنين إذا هما في الغار ، دعي رضي الله عنه إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى ، وسار على المحجة فما زل ولا كبا ، فالمحب يفرح بفضائله ، والمبغض يغتاظ ، حسرة الكافر أن يفر من مجلس ذكره ، ولكن أين الفرار ، يا عجباً ممن يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار ألخ رحمه الله .
أيها المسلمون : صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية