صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عندما ينتحر الحماس !

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

عبداللطيف بن هاجس الغامدي

 
الحمد لله ، عـزَّ فحَكَم ، وقَدَرَ فرَحِم ، وقَهَر فحَلُم ، وتعالى فعَلِم ، والصلاة والسلام على رسول الله ، بذَّ فعزَّ ، وقال فأوجز ، وعمل فأنجز ، وأبدع فأعجز ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، علِم فستر ، ورحم فغفر ، وقدَّر فيسَّر ، وغلب فقهر ، وأمات فأقبر ، وإذا شاء أنشر ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بشَّر وأنذر ، ورغَّب وحذَّر ، وبلَّغ وأخبر ، أما بعد :
عندما ينتحر الحماس !
عندما تنطفئُ جَذوةُ الاهتمام بدين الإسلام ، ويخبو وهجُ الحُرقة لدين الله ، ويُقصَى العملُ للدين عن حياة المستقيمين ، ويصبح الإيمانُ آخرَ الاهتمامات وأوَّلَ المُهمَلات ، عند ذلك لا تسل عن دناءَتنا ، ودنوِّ ذلَّتنا ، فلن تَرَ عينُك إلاَّ زمر المتساقطين على الطريق ، المتخلفين عن قافلة النجاة ، المنبوذين عن سفينة السلامة ، ولن تسمع أذنُك إلاَّ بأخبار المنتكسين ، المولين الدُّبر ، المنقلبين على القفا ، الخالدين إلى الأرض !
قال تعالى : [ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ]
وهذا دين قويم ، لا يقومُ على أكتاف الخائرين ، ولن يقوى عليه ضعفُ المنخذلين ، ولن يتحملَ تبعاتِهِ خَوَرُ المنهزمين
فالأُسود لا تأكل البايت ، والصقورُ لا تقع على الجيفِ ، والكرامُ لا يرضونَ بغير المكارم .
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
" أولُ قدمٍ في الطريق : بذلُ الرُّوحِ .. هذه الجادَّةُ ، فأين السالكُ ؟ "
" طريق تعِبَ فيه آدم ، وناحَ لأجله نوحٌ ، ورُمِي في النار الخليل ، وأُضجِعَ للذَّبحِ إسماعيلُ ، وبِيعَ يوسفُ بثمنٍ بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، وذهَبتْ من البكاءِ عينُ يعقوبَ ، ونُشِرَ بالمنشار زكريا ، وذُبِحَ الحصورُ يحيى ، وضَنِيَ بالبلاء أيوبُ ، وزاد على المقدار بكاءُ داود ، وتنغص في الملك عيشُ سليمان ، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ـ صلى الله عليه وسلم .
وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تُؤخذ الدنيا غِلابا
" اجتمع عبد الله بن عمر ، وعروة ، ومصعب ، وعبد الله بنو الزبير بالحِجْرِ ، فقال لهم مصعب : تمنَّوا . فقالوا : ابدأ أنت . فقال : ولاية العراق ، وتزوُّج سُكينة ابنة الحسين ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله . فنال ذلك ، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم ، وجهَّزها بمثلها .
وتمنى عروة بن الزبير الفقه ، وأن يُحمل عنه الحديثُ ، فنال ذلك .
وتمنى عبد الله الخلافة ، فنالها .
وتمنى عبد الله بن عمر المغفرة ، فنالوا ما تمنَّوا ، ولعلَّ ابن عمر قد غُفرَ له .
فنعم العبدُ ؛ عبدُ الله !
وإذا النفوس كُنَّ كباراً *** تعبت في مرادها الأجسامُ
قال أحمدُ بن داودَ الواسطيُّ : دخلتُ على أحمدَ الحبسَ قبلَ الضربِ ، فقلتُ له في بعض كلامي : يا أبا عبدِ الله ؛ عليكَ عِيالٌ ، ولك صبيانٌ ، وأنت معذورٌ ـ كأني أسهل عليه الإجابة ـ فقال لي : إن كان هذا عقلُكَ يا أبا سعيدٍ فقد استرحتَ .
خذوا كل دنياكم واتركوا *** فؤاديَ حرًّا وحيدًا غريبًا
فإني أَعْظَمُكُم دولةً *** وإن خلتموني طريداً سليباً
قال إبراهيمُ الحربي عن أحمد بن حنبل : لقد صحبتُه عشرين سنة ، صيفاً وشتاء ، حرًّا وبرداً ، ليلاً ونهاراً ، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس .
قال أنسُ بن عياض : رأيت صفوان بن سُلَيْم ، ولو قيل له : غداً القيامة . ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة .
وقال عبد الرحمن بن مهدي : لو قيل لحماد بن سلمة : إنك تموت غداً . ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً .
وقال بكير بن عامر : كان لو قيل لعبد الرحمن بن أبي نعم قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل .
وقال سفيان الثوري : لو رأيت منصور بن المعتمر ، لقلت : يموت الساعة .

حِملٌ ثقيل !

عندما ينتحر الحماس ؛ لا يذوقُ طعمَ الطاعةِ ، ولا حلاوةَ العبادةِ ، فهو يشعرُ بِثقَلِها عليه ، فيؤديها ولم يذقْ أجملَ ما فيها ، لِيُسْقِطَ عنه تبعاتها ، وكأنما هي حِمْلٌ ثقيلٌ أُزيح عن كاهله ..
فلا يزال يتأخر ، ويتقهقر ، حتى يُكبّ على وجهه في النار ، كالشجرة الوارفة الظلال ، تُسقط أوراقها يوماً بعد يوم ، حتى تيبس وتصير عوداً يابساً لا ماء فيه ولا رواء لا يصلُح إلاَّ لشيء واحد .. أن يصبح وقوداً للنار !
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" لا يزالُ قومٌ يتأخَّرونَ عن الصَّفِّ الأول حتى يُؤخِّرَهُمُ اللهُ في النار "
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" لا يزالُ قومٌ يتأخرونَ حتى يُؤخِّرَهُمُ اللهُ "
وقال سعيد بن المسيِّبِ : ما فاتتني الصلاةُ في جماعةٍ منذُ أربعينَ سنةٍ ، وما نظرتُ في قفا رجلٍ في الصلاة منذ خمسين سنةٍ ، وما أذَّنَ المؤذِّنُ منذ ثلاثينَ سنةٍ إلاَّ وأنا في المسجدِ !
قال وكيع : كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى ، واختلفتُ إليه أكثر من ستين سنة ، فما رأيته يقضي ركعة .
وقال أسيد بن جعفر : ما رأيت عمي بشرِ بن منصور فاتته التكبيرة الأولى قط .
وروي عن أبي عبد الله محمد بن خفيف أنه كان به وجعُ الخاصِرة ، فكان إذا أصابه أقعَدَهُ عن الحركة ، فكان إذا نُودي بالصَّلاة يُحملُ على ظهر رجل ، فقيل له : لو خفَّفتَ على نفسِكَ ؟! قال : إذا سمعتُم حَيَّ على الصَّلاة ولَم تَروني في الصف فاطلبوني في المقبرة .
وقال سليمان بن حمزة المقدسي ـ وقد قارب التسعين سنة : لم أصلِّ الفريضة قط منفرداً إلا مرتين ، وكأني لم أصلهما قط .
أخي تذكر معي : كم مرة صليت هذا الأسبوع صلاة فريضة منفرداً ؟!

قسوة في القلب !

عندما ينتحر الحماس ؛ يحس بقسوةٍ في قلبه ، وظلمةٍ في فؤادِه ، فلا تدمعُ له عين ، ولا يخشعُ له قلب ، ولا يقشعرُّ له جِلد ، يسمعُ آيات الله تُتلَى عليه كأن لم يسمعها ، يُذكَّر بالقوارِعِ وكأنما المُخَاطَبُ بها سواه ، يُنذَرُ بالعظاتِ فيلتفت فيمن حوله ، فلعلَّها لغيره ..
[ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ]
فمتى كانت آخر دمعة درَّت بها عينك ؟!

رؤية الذات !

عندما ينتحر الحماس ؛ يصبح قولُه فصلا لا يقبلُ الهزلَ ، ورأيُه صوابا لا يحتمل الخطأ ، واختيارُه حقا لا يأتيه الباطل ، فهو يتكلمُ من عُلُو ، ويرى غيره في دنو ،
إذا قلتُ ، فصدِّقوني ، وإذا أمرتُ ، فأطيعوني ، وإذا أشرتُ ، فاتبعوني ..
هكذا يريدُ الناس تبعاً له ، يُلغون عقولَهم ، ويُغلقون قلوبَهم ، منقادين له مستسلمين ..
فهو مصاب بداء التعالي والتعالم .
هلاكُ الناسِ مُذ كانوا *** إلى أن تأتيَ الساعة
بحبِّ الأمر والنهي *** وحبِّ السَّمعِ والطاعة

النظر في المرآة !

عندما ينتحر الحماس ؛ لا يتألم لأحوال العالم الإسلامي وما أصابه من جراح ونكبات ، وآلام وكربات ، لا يتألم لأنين الثكالى ، وحنين اليتامى ، وآهات الحزانى ،
فهو يعيش لنفسه ، وينكفىء على مصالحه ، ويعكف على شئونه ..
وعظيمُ الهِمَّة ، يعيشُ همَّ الأُمَّة !
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً لأصحابه : تَمَنُّوا . فقال رجل : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً ، أنفقه في سبيل الله عز وجل . فقال : تمنوا . فقال رجل : أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله ـ عز وجل وأتصدق به . ثم قال : تمنوا . قالوا : ما ندري ما نقول . قال عمر : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح . أرمي بهم أكتاف عدوِّهم في سبيل الله .

صريع الغفلات !

عندما ينتحر الحماس ؛ تضيعُ الأوقاتُ هَدَراً في الغفلاتِ والزلاتِ ، فتذهبُ الساعاتُ الطويلةُ بدون فائدة تُذكَر أو عملٍ يُشكَر
فلا تكادُ تراهُ إلا وهو يُتَابِعُ الكرة والمباريات .. والأندية واللاعبين .. والدوري والحكام ، فيا لها من سَوءَةٍ !
جادٌ يلعب مع اللاعبين !
فيا صريعَ الغفلات ، يا قتيلَ الشهوات ..
ذهبَ العُمْرُ وفات *** يا أسيرَ السيئات
ومضى وقتك في لهو *** وسهو وسبات
بينما أنت في غَيِّك *** إِذْ قيل : مات

صائد مصيود !

عندما ينتحر الحماس ؛ يجلس بالساعات الطوال أمام جهاز الحاسوب ، عبر الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت ) ينتقل من موقع لموقع ، ومن منتدى لمنتدى ، بدون هدف ، وبغير ضابط ، ومن غير غاية ، يعرض الفتن والمحن على قلبه وعقله
يدفعه الفضول لمتابعة المجهول ، والوقوع في الممنوع ..
فقل لي بربك ؛ ساعاتٌ مضت من عُمُرِكَ ، وأنت تتنقل كالفريسة الضعيفة في شبكة العنكبوت المخيفة ، ما الفائدة العائدة عليك ؟ بماذا خرجتَ ؟ وماذا أصبتَ ؟
هذا إذا سَلِمْتَ من النظرات المحرَّمة للصور السيئة والمناظر السخيفة ، والأفكار المضلة والتصورات المخلّة بدينك وعقيدتك ومنهجك ، والسلامة غنيمة .
فيا لله العجب ! من عاقل يورد نفسه موارد العطب !
خفافيش أعشاها النهار بضوئه *** ولاءمها قِطع من الليل بادياً
فجالت وصالت فيه حتى إذا النهار *** بدا استخفت وأعطت توارياً

رحاة بدون طحين !

عندما ينتحر الحماس ؛ تراه يدور كالرَّحى بالأسواق ، لا ليشتري ما يشتهي ، وإنما للنزهة والترفيه ، وتزجية الفراغ فيما لا فائدة فيه .
فهنيئاً للشيطان به ، قَعَدَ له بطريقِهِ ، وأحاطَهُ بزبانيته ، ونصبَ له رايته ..
فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لا تكوننَّ إن استطعت أوَّل من يدخلُ السوق ، ولا آخر من يخرج منه ، فإنَّها معركة الشيطان ، وبها نصب رايته "
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها ، وأبغضُ البلادِ إلى الله أسواقُها "
ما أحسن الشغل في تدبير منفعة *** أهلُ الفراغِ ذَوو خوضٍ وإرجافِ
وعجباً لمستقيم ! من أين يأتي له الفراغ ، وهو يعلم ـ علم اليقين ـ لم خلقه الله رب العالمين !
[ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] لا ليلعبون .. لا ليلهون .. لا ليعبثون ..
[ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ]
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنتَ له فاربأ بنفسِكَ أن ترعى مع الهَمَلِ

صُحفي لا يعرف المصحف !

عندما ينتحر الحماس ؛ تبصره وهو عاكفٌ على الجرائد اليومية والمجلات الدورية يقرأ فيها بِنَهَمٍ ، قد استغرقَتْ جُملَةَ وقته ، يقرأُها من مبتداها لمنتهاها ، الصفحاتُ الفنية .. الرياضية .. الأدبية .. الشعبية .. الإعلاناتُ والدعايات .. اللقاءاتُ والمقابلات ... الاستحكاماتُ والوفيات ..
ينتهي من هذه الصحيفة ، ليقرأ في تلك الجريدة ، وجملة ما فيها معادٌ مكرور ، تُفسِّرُ الماءَ بعد الجهدِ بالماءِ .
وهَبْ أن الأمرَ جائزٌ ، فهل غدا وقتُك بهذا الرُّخْصِ لتُهدِرَهُ في الرُّخص ؟!
والوقتُ أنفَسُ ما عُنيتَ بحفظِهِ *** وأراه أسهَلُ ما عليك يَضيعُ

تعب من الراحة !

عندما ينتحر الحماس ؛ تبحث عنه في المؤسساتِ الإغاثية ، والمكاتبِ الدعوية ، والدوراتِ العلمية ، والمخيماتِ الصيفية ، والمشاريعِ التطوعية ، والأنشطةِ التربوية ، والأعمالِ الخيرية ، فلا تجده ..
فلا شُغْلَ له سوى الاستراحات والنُّزْهات ، والسفريات والرِّحْلات ، والملاهي والمقاهي
يصيدُ ما يحوم أو يعوم في كلِّ يوم .. ومن تتبَّع الصيد غفل .
وقد شُرعت النُّزْهات المباحةُ لجلب الراحة لمن يعيش الجدية في حياته ، فإن النفس إذا كلَّت ملَّت ، ولا بُدَّ لها من فسحة في حلال ، ولكن أن يصبح الأصل في وقته الغالي إهداره في التسالي وضياعه في الفُسَح ، فهذا انتكاسٌ وارتكاس ، وانحراف عن الجادة ، وعدول عن منهج السالفين .
سألَ سائلٌ ابنَ الجوزي : أيجوز أن أُفسح لنفسي في مباح الملاهي ؟
فقال له : عند نفسك من الغفلة ما يكفيها .
نهارُك يا مغرورُ سَهوٌ وغفلةٌ *** وليلُك نومٌ والرَّدَى لك لازم
وسعيُك فيما سوف تَكْرَهُ غِبَّهُ *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
تُسَرُّ بما يفنى وتفرحُ بالمُنى *** كما اغترَّ باللذات في النوم حالِمُ

جرح بدون تعديل !

عندما ينتحر الحماس ؛ تُمْلأُ مجالسه بالقيل والقال ، وكثرة المراء والجدال ، والخوض في أخبار الناس وأحوالهم ، ومثالبهم ونقائصهم ، فيجلس لساعات طويلة في مجالس الغفلة مع من يشاكله في طباعه ، ويشابهه في ضياعه ، لا يذكرونَ الله إلا قليلاً ، يتلاوَمُون كالأنتان ! ويتناطحون كالثيران .
وربما لا همَّ لهم إلا الاشتغال بالصالحين ، وانتقاد العاملين ، وتجريح الناشطين ، وتخذيل المجتهدين ، وتصنيف الباذلين ، وإساءة الظن في المؤمنين ..
فأجرأُ من رأيتُ بظهر غيب *** على عيب الرجال : ذوو العيوب
سَلِمَ منه اليهودُ على ظُلمهم ، والنصارى على ضَلالهم ، وأهلُ العلمنة على كيدهم ، وأهلُ الشهواتِ على فسادهم ، وأهلُ التصوف على انحرافهم ، وأهلُ التشيُّع على زَيغهم ، وأهلُ الأهواء والأدواء ، واشتغلَ ـ تربت يده ورغم أنفه ـ بالمؤمنين الصادقين ..
التهى بعيوب الناس عن عيبه ، واهتم بذنوبهم عن ذنبه ، وأصبح من أَكَلَةِ لُحومِ البَشَر ، ينهش في لحوم الغائبين عنه ، ويتشهى بذكر عيوبهم ورصد أخطائهم ، وكل ذلك تحت مسميات شرعية ( كمصلحة الدعوة ! ) و ( كشف أهل البدع ! ) و ( بيان إحداث أهل الأهواء ! ) و ( الجرح والتعديل ! )
مصطلحات ظاهرها وباطنها الرحمة عند أهل الحق ، وحقيقتها ـ عند هذا وأمثاله ـ الشهواتُ الخفية ، و الحقد والحسد ، وأمراض القلوب وأدواؤها ، كما قال عمرو بن الحمق عندما دخل مع من تسوروا الدار على الحيِيِّ عثمانَ بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ليضربه تسع ضربات في صدره ، وهو يقول : ثلاثٌ لربي وسِتٌ لقلبي ، وذلك عندما ضرب الغافقي ـ عليه من الله ما يستحق ـ عثمانَ ـ رضي الله عنه ـ بحديدة معه ، وضرب المصحف برجله ، فاستدار المصحف واستقر بين يديه ، وسالت عليه الدماء ..
" وهم يهابون في قتله ، وكان كبيراً ، وغُشيَ عليه ، ودخل آخرون ، فلما رأوه مغشياً عليه جروا برجله ، فصاحت نائلةُ وبناتُه ، وجاء التَّجيبي مخترطاً سيفه ليضعه في بطنه ، فَوَقَتْهُ نائلة ، فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره ، ..
" وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رَمَقٌ ، فطعنه تسعَ طعناتٍ ، وقال : فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى ، وأما ست فلما كان في صدري عليه . وأرادوا قطع رأسه ، فوقعت عليه نائلة وأم البنين ، وصاحتا ، وأقبل عمير بن ضابىء فوثب عليه ، فكسر ضلعاً من أضلاعه .."
وصدق عبد الله بن عكيم ـ رحمه الله ـ عندما قال : إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه .
فيا أيتها الوحوش الضارية ! إن في النفس لشغلٌ عن كل شغل ، فهلموا إلى ميادين أنفسكم ، ولا تشتغلوا بغيركم ، فإنه لا طاقة لكم بسيئات غيركم في موازين أعمالكم .
عن المستورد ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" من أكلَ برجُلٍ مسلم أكلَة فإنَّ الله يُطعِمُهُ مِثلَها من جهنم ، ومن كُسي ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء ، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة "
وعن معاذ بن أنس الجهني ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" ... ومن رَمَى مُسلماً بشيء يُريدُ شَينَهُ بهِ حَبَسَهُ الله على جِسرِ جهنم حتَّى يَخْرجَ مِمَّا قالَ "
لباس التقوى خير !
عندما ينتحر الحماس ؛ تصغر الاهتماماتُ ، فيصبح هَمُّه ما يلبس ، فمن أجله ينفقُ الأموالَ الطائلةَ ويقضى الأوقاتِ الغاليةَ ، حتى كأنه في كلِّ يوم عروس !
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" تعِسَ عبدُ الدِّينارِ والدِّينارِ والقطِيفةِ والخميصةِ ، وإن أُعطيَ رضيَ وإن لم يُعطَ لم يَرضَ "
يقف أمام المرآة أكثر مما يقف بين يدي مولاه في الصلاة .
يتسخ ثوبه فتثور ثائرته ، وتتسخ صحيفة أعماله بتفريطه في كل ساعة ولا يتأثر أو يتحسَّر .
أصلح الظاهر وأفسد الباطن .
قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه : ألا رُبَّ منعمٍ لنفسه وهو لها جِدُّ مُهين ! ألا ربَّ مُبيضٍ لثيابه ، وهو لدينه مُدَنِّس !
عن أبي أمامة الحارثي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ : " البذاذةُ من الإيمان " يعني ؛ التقشُّف ورثاثة الهيئة للتواضع وترك التبجح به .
وعن عبد الله بن شقيق ؛ قال : كان رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاملاً بمصر ، فأتاه رجل من أصحابه ، وهو شَعِثُ الرأس مُشْعان ـ ثائر الرأس ـ قال : ما لي أراك مشعاناً وأنت أمير ؟! قال : كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهانا عن الإرفاه . قلنا : وما الإرفاه ؟ قال : الترجُّل كل يوم .
وعن معاذ بن أنس : قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من تَرَكَ اللباسَ تواضعاً لله وهو يقدر عليه ؛ دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، حتى يخيِّرَه من أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها "
وعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمَّا بعثَ به إلى أهلِ اليَمنِ ، قال له :" إيَّاك والتَّنَعُّمَ ؛ فإنَّ عبادَ الله ليسُوا بالمتَنَعِّمينَ "

مجاهدٌ فوق الموائد !

عندما ينتحر الحماس ؛ يغدو همُّه بطنَه ، ماذا يأكلُ ويشرب !
يقطع الأكيال الطويلة لتتبُّعِ المطاعمِ الجديدة ، يعرفُ عن المطاعمِ مالا يعرفُ عن المساجد ، ومن كانت هِمَّتُه ما يُدخِلُه في بطنه ويأكله ، فقيمته ما يُخرجه .
وأنتَ إذا أعطيتَ بطنَك سُؤلَهُ *** وفرجَك نالا مُنتهى الذمِّ أجمعاً
قال مالك بن دينار : بئس العبدُ عبدٌ همّهُ هواهُ وبطنُهُ .
وقال صفوان بن سليم : ليأتينَّ على الناس زمانٌ تكون هِمَّةُ أحدِهم فيه بطنُه ، ودينُهُ هواهُ .
الأمم تتكالب على أمَّتنا كما تكالَبُ الأكَلَةُ على قصعتها لتأكلَها من أطرافها ، وهمه ؛ ماذا أكلنا بالأمس ؟ وماذا نأكل غداً ؟!
[ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ]
إنَّ للحربِ رجالاً خُلقوا *** ورجالاً لقصعةٍ وثريدِ
قال الحسن البصري ـ رحمه الله : لقد أدركت أقواماً ، إن الرجل منهم ليأتي عليه سبعون سنة ، ما اشتهى على أهله شهوةَ طعامٍ قط .
والبعض منَّا ربما يطلِّق زوجته من أجل طعام !
عن المقدام بن معد يكرب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرَّاً من بطنه ، بحسب ابن آدم أكلاتٍ يُقمن صُلبه ، فإن كان لا محالةَ ؛ فثُلثٌ لطعامه ، وثُلثٌ لشرابه ، وثُلثٌ لنَفَسه "
دَعِ المكارمَ لا ترحل لبُغيتها *** واقعد فإنَّك أنتَ الطَّاعمُ الكاسي
عن أبي جُحَيفَةَ ـ رضي الله عنه ـ قال : أكلتُ ثَريدَةً مِن خُبزٍ ولَحمٍ ، ثُمَّ أتيتُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلتُ أتَجَشَّأُ . فقال :" يا هذا ! كُفَّ مِن جُشائِكَ ، فإنَّ أكثرَ الناسِ شِبَعاً في الدنيا ؛ أكثَرُهُم جُوعاً يومَ القيامَةِ "

بيوت فوق الرمال !

عندما ينتحر الحماس ؛ يشتغل بعض الصالحين بدنياهم على حساب آخرتهم ؛ وانظر ـ بعين الحسرة ـ إلى انشغالهم بالتوسع في بناء بيوت الدنيا الزائلة عن الأعمال الفاضلة .
قَدِمَ ابنُ عمٍّ لمحمد بن واسع عليه ، فقال له : من أين أقبلتَ ؟ قال : مِن طَلَب الدنيا . فقال : وهل أدركتَها ؟ فقال له : لا . فقال محمد : يا سبحان الله ! أنت تطلبُ شيئاً ولم تُدركه ، فكيف تدركُ شيئاً لم تطلُبْه ؟!
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ؛ قال : مر علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نعالج خُصَّاً لنا . فقال : " ما هذا ؟ " فقلت : خُصٌّ لنا وَهَىَ ، نحن نُصلِحُه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أُرَى الأَمرَ إلاَّ أَعجلَ مِن ذلك "
وعن أبي طلحة الأسدي رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ، فرأى قبة مشرفة ، فقال :" ما هذه ؟! " ، قال له أصحابه : هذه لفلان ، رجل من الأنصار ، قال : فسكت وحملها في نفسه ، حتى إذا جاء صاحبُها رسولَ الله يسلم عليه في الناس ؛ أعرض عنه ، فشكا ذلك إلى أصحابه ، فقال : والله إني لأنكرُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خرجَ فرأى قُبَّتكَ ، قال : فرجع الرجل إلى قُبَّته فهدمها حتى سواها بالأرض ، فخرج رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم ، فلم يرها ، قال :" ما فعلت القبة ؟ " ، قالوا : شكا إلينا صاحبها إعراضَك عنه ، فأخبرناه فهدمها ، فقال :" أمَا إن كلَّ بناءٍ وبالٌ على صاحبه ، إلاَّ ما لا ، إلاَّ ما لا ، يعني : ما لا بد منه "
وقِفْ على ما يبذلُ بعضُهم في الكمالياتِ في بيته لترى العجائبَ من الديكورات والتزاويق والأصباغ والزخرفة والتحف والمفروشات والإضاءات وغير ذلك مما يوحي لك أن القومَ باتوا غافلين عن مصارِعِ الهالكين ، وكأنما هم فيها خالدون !
وصدق الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قال :" لا تقوم الساعة حتى يبنيَ النَّاس بيوتاً يشبهونها بالمراحل ـ قال إبراهيم : يعني الثياب المخططة ـ "

جامع مانع !

عندما ينتحر الحماس ؛ يميل الرأسُ إلى المالِ ، وتتعلقُ القلوبُ بأوساخِ الدنيا ، فيجمعُ ويمنعُ ، ويكاثِرُ ليكابِرَ ، ويلهثُ خلفَ سرابٍ بلقَعٍ ، فيصبحُ الدِّين في ذيلِ قافلةِ الأولويات .
فدوامٌ في الليلِ وآخرُ في النهار ، أعمالٌ مضنية وأشغالٌ مُرهِقة استوعبت الأوقات ، واستحوذت على الاهتمامات ، فماذا بقي للدين يا أيها المسكين ؟!
يا جامعاً مانِعاً والدهرُ يرمُقُهُ *** مقدِّراً أيّ بابٍ عنهُ يُغلقُهُ
جمعتَ مالاً فقُل لي : هل جمعتَ لهُ *** يا غافلَ اللُّبِّ أيَّاماً تُفرِّقُهُ ؟
المالُ عندك مخزونٌ لوارثهِ *** ما المالُ مالُك إلا يومَ تُنفِقُهُ
عن كعبِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما ذِئبانِ جائِعَانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بأفسَدَ لها مِن حِرصِ المرءِ على المالِ والشَّرفِ لدينِهِ "
عن مُطَرِّفٍ عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله :" يقول ابن آدم : مالي ! مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت ، أو لبستَ فأبليتَ ، أو تصدَّقتَ فأمضيت "
عن أسلمَ أبي عمرانَ التَّجيبيِّ ، قال : كُنَّا بمدينةِ الروم فأخرَجُوا إلينا صَفَّاً عظيماً من الروم ، فخرجَ إليهم من المسلمينَ مِثلُهُم أو أكثرُ وعلى أهلِ مصرَ عُقبةُ بنُ عامرٍ وعلى الجماعَةِ فَضَلَةُ بنُ عُبيدٍ ، فحملَ رجلٌ من المسلمينَ على صَفِّ الرُّومِ حتى دخلَ فيهم ، فصاحَ الناسُ وقالوا : سبحانَ اللهِ يُلقي بيديهِ إلى التَّهلُكَةِ ، فقامَ أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ فقالَ : يا أيُّها الناسُ إنَّكُم تتأَوَّلُونَ هذه الآيةَ هذا التَّأويلَ ، وإنَّما أُنزلَت هذه الآيةَ فينا معشَرَ الأنصارِ ، لمَّا أعزَّ اللهُُّ الإسلامَ وكثُرَ ناصروهُ ، فقالَ بعضُنا لبعضٍ سِرًّا دُونَ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم : إنَّ أموالَنا قد ضاعَت ، وإنَّ اللهَّ قد أعزَّ الإسلامَ وكثُرَ ناصِروهُ ، فلو أقمنا في أموالِنا فأصلَحنَا ما ضاعَ منها ، فأنزلَ اللهُ على نبيِّه يرُدُّ علينا ما قُلنا : [ وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة ] فكانتِ التَّهلُكَةُ الإقامَةَ على الأموالِ وإصلاحِهَا وتَرْكَنا الغزوَ ، فما زالَ أبوُ أيُّوبَ شاخِصاً في سبيل الله حتى دُفِنَ بأرضِ الرُّومِ "
وماذا بعد هذا ؟!
تبلَّدَ في الناس حِسُّ الكفاح *** ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
يكاد يُزعزع مِن همَّتي *** سُدورُ الأمينِ وعزمُ المُرِيب

قالب بدون قلوب !

عندما ينتحر الحماس ؛ ينشغل بالأبناء والأهل والزوجات : وليته انقطع إليهم بالتعليم والتربية والتهذيب والتأديب ، لكان ذلك ما نبغِ ، ولكن الحقيقة أنه ركن لتحيق رغباتهم الدنيوية وشهواتهم الحياتية ، عكف عليهم ليغمسهم في مُتَعِ الدنيا الزائلةِ من مساكِنَ ومراكِبَ ومطاعِمَ ومشارِبَ ..
قطعوه عن العمل لدينه ، واشتغل بدنياهم .. تفانى في طاعتهم ، فغفل عن طاعة ربِّه ..
قال تعالى :[ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم ]
قال عطاء بن يسار : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزوَ بَكَوا إليه ورقَّقُوه ، فقالوا : إلى من تَدَعُنَا ؟ فَيرِقُّ ويقيم . فنزلت فيه وفيهم .
عن خولة بنت حكيم ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" الولد مَحزَنةٌ مَجبنَةٌ مجهَلَةٌ مبخَلَةٌ "
ولو تأملتَ في حال أبنائه ونسائه لوجدتَ أنهم مثل غيرهم يشاركون الناس في غفلاتهم وشهواتهم ، بلا تميز في مظهرأو مخبر ..
عن جعفرٍ قال : سمعتُ مالكاً يقول : ينطلقُ أحدُهم فيتزوجُ ديباجةَ الحرم ، وخاتونَ امرأةَ ملك الروم ، أو ينطلق إلى جارية فقد سمنَها أبواها وتَرَّفاها حتى كأنها زبدةٌ فيتزوجها ، فتأخذ بقلبه ، فيقول لها : أي شيء تريدين ؟ فتقول : كذا وكذا . قال مالك : فتمرَّط والله دينُ ذلك القارئ ، ويدعُ أن يتزوجَ يتيمةً ضعيفةً فيكسوها ويؤجر "
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن لربِّك عليك حقَّاً ، وإن لنَفسك عليك حقَّاً ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ "

المقعد عن الحركة !

عندما ينتحر الحماس ؛ يركن للدَّعة وحُبِّ الراحةِ والنوم والكسل ، فيصبح كالزَّمِنِ المُقْعَدِ :
إن قلتُ قُم قال رِجلي ما تطاوعني أو قلتُ خذ قال كَفِّي ما تُواتيني
قيل للربيع بن خثيم : لو أرحت نفسك ؟ قال : راحتها أريد !
قالوا : السعادةُ في السكون *** وفي الخمول وفي الخمود
في العيشِ بين الأهل لا *** عيشَ المهاجر والطريد
في المشي خلف الركب في *** دعة وفي خطو وئيد
في أن تقول كما يقال *** فلا اعتراضَ ولا ردود
في أن تسيرَ مع القطيعِ *** وأن تقاد ولا تقود
قلت : الحياةُ هي التحركُ *** لا السكونُ ولا الهُمود
وهي الجهادُ ، وهل يجاهدُ *** من تعلق بالقعود ؟
وهي التلذُّذ بالمتاعب *** لا التلذذ بالرقود
هي أن تذودَ عن الحياضِ *** وأي حرٍّ لا يذود ؟
هي أن تُحِسَّ بأن كأسَ *** الذلِّ من ماءٍ صديد
وهكذا أهلُ الدنايا لا يرضون بغير الراحة فوق التكايا ، وأما أهل المعالي فيهجرون الوساد ويعافون الرقاد .
وقد ورد :" ذهب زمن النوم يا خديجة " !
أعاذلتي على إتعابِ نفسي *** ورعيي في الدُّجى روضَ السهادِ
إذا شام الفتى بَرْقَ المعالي *** فأهونُ فائتٍ طِيبُ الرُّقاد
قال عطاء بن أبي رباح : لأن أرى في بيتي شيطاناً ؛ خير من أن أرى فيه وسادة ، لأنها تدعو إلى النوم .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من خافَ أدلجَ ، ومن أدلجَ بلغَ المنزلَ ، ألا إن سلعةَ الله غاليةٌ ، ألا إن سلعةَ الله الجنة "

المتاع الزائل !

عندما ينتحر الحماس ؛ تضيعُ الأموالُ في التفاهاتِ والمحقَّراتِ ، فكلما اشتهى اشترى ولو بغير حاجة ، فيبذل في نعاله وعقاله ما لا يبذل لدينه ، ويغدق في شراء ثوبه ما لا يبذل لنصرة معتقده .
قال أبو حازم : لوددت أن أحدكم يتقي على دينه كما يتقي على نعله .
فينغمس في الترف الزائد والترفل في اللذائذ ، ويركن لنعيم الدنيا الزائل ومتاعها المنقطع ، ولو أنه يبذل لدينه ما يبذله في المكسَّرات والمقبِّلات لأطعم بها أهل مسغبة ، و لكسى بها أهل متربة .
قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه : أيكم استطاع أن يجعل في السماء كنزه فليفعل حيث لا تأكله السوس ولا تناله السرقة ، فإن قلب كل امرئ عند كنزه .
من حَبَّةِ البُرِّ اتخذ مثَلَ الندى *** يا من قَبضتَ على الندى يُمناكا
هي حبَّةٌ أعطتكَ سبع سنابلٍ *** لتجودَ أنتَ بحبةٍ لسواكا
حلمت بأن ستكونَ في خبز القِرى *** فتراقَصَتْ للموتِ تحت رحاكا
وكأنما الشقُّ الذي في وسْطِها *** لك قائلٌ : نصفي يخصُّ أخاكا

ضياع رأس المال !

عندما ينتحر الحماس ؛ تضعف العبادات ليحصل النقص في رأس المال من الفرائض والواجبات ، فضلاً عن النوافل والمستحبات .
قال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه : اللهمَّ إنكَ تعلمُ أني لم أكن أحبُّ البقاءَ في الدنيا ولا طولَ المكثِ فيها لِجَرْيِ الأنهارِ ولا لغرسِ الأشجارِ ، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل ، وظمأ الهواجر في الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذِّكر "
فأين أنت عن مثل معاذ ؟!
هل أنت ممن يحافظ على السنن الرواتب لتبنى له بيوتٌ في الجنة ؟
هل تحرص على تكبيرة الإحرام ؟ وتنافس على الصف الأول ؟
هل تخشع في صلاتك ؟
هل تأسف على فوات صلاة الجماعة إذا فاتت عليك ؟
أين أنت عن ركعتي الضحى ؟ صلاة الأوابين !
هل تحافظ على قيام الليل ؟ وهل تلازم صلاة الوتر ؟ فإنها شرف المؤمن .
" ومن مثلك يا ابن آدم ؟! خَلِّ بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت على ربك ، ليس بينك وبينه حُجَّابٌ ولا تُرجمان .
كيف هي صِلَتُك بكتاب الله تعالى ؟
هل لك وردٌ يومي من القرآن الكريم لا تتنازل عنه أبداً ؟
متى كانت آخر دمعة نزلت من عينك ؟ خشية لله تعالى ؟
ماذا حفظت من آيات جديدة خلال هذا الشهر ؟ بل في هذا العام ؟
هل راجعت كتب التفسير لتقف على مراد الله من الآيات ؟
هل تتابع بين الحج والعمرة لتنفي عنك الفقر والذنوب ؟
هل تصوم النوافل كالاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر ، فإن الصيام لا عِدلَ له ؟
هل تحرص على الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى في وجوه الخير ؟ فإن المؤمن في ظل صَدَقته يوم القيامة .
فيا سبحان الله !
" لله ملك السموات والأرض ، واستقرضَ منكَ حَبَّةً ، فبخلتَ بها ، وخلقَ سبعةَ أبحرٍ ، وأحبَّ منكَ دمعةً ، فَقَحَطَتْ بها عينُك ؟ "
هل تحافظُ على الأذكار والأوراد اليوميَّة ؟ أم أن الأمر كان في بداية الالتزام فقط ؟!
إذا مرِضنا تداوينَا بذِكرِكُمُ *** ونترُكُ الذِّكرَ أحياناً فننتَكِسُ
ميِّتُ الأحياء !
عندما ينتحر الحماس ؛ لا ينكرُ منكراً ، ولا يتمعَّرُ وجهُهُ غضباً لله ، ولا تجري دماءُ الغيرة في أوردَتِه إذا انتُهِكَت حدودُ الله ، فهو حيٌّ كالأمواتِ ، وميِّتٌ بين الأحياء .
سُئِلَ حُذيفَةُ بنُ اليمانِ ـ رضي الله عنه ـ عن ميتِ الأحياءِ ، فقال : الذي لا ينكرُ المنكرَ بيده ولا بلسانه ولا بقلبه .
يقول سفيان الثوري ـ رحمه الله تعالى : إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن آمر فيه وأنهى ، فأبول دماً .
فيا أيها المخذولُ ! ما قامت بِدعةٌ إلاَّ على أنقاضِ سُنَّة ، وما استعلنَ أهلُ الباطلِ بباطلهم إلاَّ عند سكوتِ أهل الحقِّ عن حقِّهم ، فيا لله ! أترضى بنقصانِ الدِّين وأنت حيٌّ تُرزَق ؟!
أترضى بالدنيَّةِ في دينك وبكَ رَمَقٌ ؟!
يقول أبو عبد الرحمن العُمري الزاهد ـ الذي قدم يوماً إلى الكوفة ليُخوِّف الرشيدَ بالله ، فرجفت لمجيئه الدولة ، حتى لو نزل بهم من العدو مئة ألف ، ما زاد من هيبته ـ يقول : إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله ، بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه ، ولا تأمر ، ولا تنهى خوفاً من المخلوق . من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين ، نُزِعَت منه الهيبة ، فلو أمر ولده لاستخفَّ به "
يؤثر السلامةَ على إسلامه ، ودنياهُ على دينه ، وعاجلَتَه على آجلَتِه ، فماذا سيقولُ لو قيلَ له تقدَّم لنزال الكفار .. أيها الجبان الخوَّار !
أضحتْ تُشجعني هندٌ فقلتُ لها *** إن الشجاعةَ مقرونٌ بها العطبُ
لا والذي حجَّت الأنصارُ كعبَتَهُ *** ما يشتهي الموتَ عندي مَن له أرَبُ
للحربِ قومٌ أضلَّ الله سعيَهمُ *** إذا دَعَتهم إلى حَوماتِها وثَبُوا
ولستُ منهم ولا أهوى فِعالَهُمُ *** لا القتلُ يُعجبني منهم ولا السَّلَبُ
هنيئاً لأعدائك بك !
يقول ليَ الأميرُ بغيرِ جرمٍ *** تقدَّم حينَ حلَّ بنا المِراسُ
فما ليَ إن أطعتُكَ في حياةٍ *** ولا لي غيرُ هذا الرأسِ راسُ

شمعة بدون ضياء !

عندما ينتحر الحماس ؛ لا يتحمس للدعوة إلى الله تعالى ، ولا يجتهد في هداية الخلق ، وسوقهم إلى ربهم سوقاً جميلاً ، يرى صرعى الشهوات ، وهلكى الغفلات ، ثم لا يتحرك لإنقاذهم من أنفسهم وشياطينهم .
اسمع لصلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ ماذا يقول : إنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل ، قسمتُ البلاد وأوصيتُ وودَّعتُ ، وركبتُ هذا البحر إلى جزائِره ، واتّبعتهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت .."
بُغضُ الحياةِ وخوفُ الله أخرجني *** وبيعُ نفسي بما ليستْ له ثَمنًا
إني وَزَنْتُ الذي يبقى ليَعدِلَه *** ما ليس يبقى فلا والله ما اتَّزَنا
قال تعالى : [ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ]

الراعي حول الحمى !

عندما ينتحر الحماس ؛ يقع الغافل في المحظورات ، لا يتورعُ عن مكروهٍ ، ولا يتنزَّهُ عن مخالَفةٍ ، فإذا رُوجع فيها ونُهيَ عنها ، قال : وهل هي حرام ؟!
وهَبْ أنها لم تصل للحُرمَةِ القاطِعَةِ ، أين تَرْكُ ما فيه بأسٍ إلى ما ليس فيه ؟ أينَ الورعُ ؟ أين البُعدُ عن الشبهات ؟!
يقول سفيان بن عيينة : لا يصيب العبد حقيقة الإيمان ، حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه .
يا من يرعى حولَ الحمى : أين التقوى ؟ أين الحذرُ من النظراتِ الخائنةِ ، أين الخوفُ من الكلماتِ المحرَّمة ، أين البُعدُ عن السماعِ الممنوعِ .
فها أنتَ تجلسُ في المطاعم المختلَطَة ، حيث النظراتُ الخائنات ، واللقاءاتُ الموبِقات ، فما الذي أدخلكَ مواطن الغفلات ؟!
وها أنت تحادثُ الممرضاتِ والمضيفاتِ ، والعينُ بالعَيْن ، والجُروحُ بالقلبِ مُلتهباتٍ !
وها أنت تنظر إلى القنواتِ الفضائيةِ ، والمجلاتِ المنحرفةِ ، بزعم الوقوف على أفعال أهل المنكرِ ، فإذا بك من ضحاياها ، فأين دينك عن تلك النظرات ؟!
وها أنتَ تقع في بعض المعاملات التي كنت تحذِّر منها وتنهى عنها ، فما الذي غيَّر الحكم على تلك المعاملات ؟!
وها أنت تلعب ببعض الألعاب التي طالما نابذتَ أهلها ، فما الذي أوقعك في تلك المخالفات ؟!
وها أنت تسمع المعازفَ فوق رأسكَ في المحلاتِ والمراكز والفنادق والكبائن والمقاهي والملاهي ، فما الذي ألزمك بهذه المرديات ؟!
وها أنت تتبع سقطاتِ بعض أهل العلم ، فتفتي بالجواز على المجاز ، فلم زلَّت بك القدم في تلك السقطات ؟!
وها أنت تسافرُ للبلاد التي يظهر فيها الفساد ، فما الذي بدَّل رأيك فيها ؟ أجبني !
يا من هدَّم مجدَه ! وبعثَرَ جهودَه !
ما الذي أوقعَكَ في هذه السيئات ؟!
عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :" اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال ، من فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه ، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى "
كان الأوزاعي يقول : ويل للمتفقهين لغير العبادة والمستحلين الحرمات بالشبهات .
وماذا بعد ؟!
وبعد هذا التَّطْوَاف في أحوال بعض المتراجعين للخلف ، أو المراوحين مكانهم لا يبرحونه ، يأتي السؤالُ : أراكَ أغلظتَ علينا ، وحرَّمت ما أباحه الله لنا ؟!
أقول : أعوذ بالله أن أُحرِّم ما أحلَّ الله أو أبيح ما حرَّم [ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ]
ولكني أخاطب من أترفَّع بهم عن الدنايا ، وأهاتف من سمت بهم هممهم عن السفاسف ، وأحادث من لا يرضون بالدُّون ، ولا يقنعون باليسير ، ولا يركنون للعَرَض الزائل الحقير .
فخطابي للصفوة المنتقاة من عباد الله ، الذين يسيرون على سيرة أسلافهم الذين يقول قائلهم : كنا ندع ثلاثة أرباع الحلال خشية الوقوع في الحرام .
قال الحسن : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام .
وقال الثوري : إنما سُمُّوا بالمتقين لأنهم اتَّقوا ما لا يُتَّقى !
وقال ابن عمر : إني لأحبّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها .
إذا ما علا المرءُ رام العلا *** ويقنع بالدونِ مَن كان دونا

فعودوا لهم فالعود أحمد ، وسيروا على منهاجهم فالدرب أسعد ، ولتعد جذوة الإيمان متوهجة متوقدة ، تمر بها الأعاصير ، فلا تزيدها إلاَّ توجهاً وتوقداً .
فعذراً على قسوة العبارة ، وغلظة الإشارة ، ولكنها نفثة مكلوم ، وزفرة مهموم ، أحببت أن أقذفها في قلوب أحبابي من أهل الصحوة المباركة ، بارك الله فيهم ونفع بهم ، والسلام ختام .

وكتبه
عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
عامله الله بلطفه
جده (21468 )
ص . ب (34416) .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبداللطيف الغامدي
  • كنوز دعوية
  • مقالات ورسائل
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الرئيسية