بسم الله الرحمن الرحيم

(43) اللهم آنس وحشته ..


إذا تركت (كرخمار) تلك القرية الحالمة في ظهرك ..
و صعدت جبل كوتل مارشال الضخم و انحدرت منه تجاه أرغندي في طريقك إلى بغمان ..
و إذا وصلت إلى قعر الوادي و استوت الأرض و بدأ الوادي في الإتساع ..
و أشرفت على قرية قديمة مهجورة مدمرة من جراء القصف تتخللها الأنهار
و لاحت لك في الأفق أشجار التوت و المشمش .. قف عندك ..
إلتفت عن يمينك على سفح الوادي الأيمن ..
فربما رأيته .. و ربما حالت بينك و بينه الثلوج المتراكمة ..
و لكن قل .. سلام عليكم دار قوم مؤمنين .. فقد يرد عليك السلام ..
إنه قبر وحيد .. ليس حوله قبر آخر يؤنس وحشته ..
ليست مقبرة .. و إنما قبر واحد ..
في ذلك المكان المهجور .. إلا من بعض القرويين الذي يسلكون هذا الطريق
ذاهبين إلى كابل أو آيبين من بغمان ..
.. ربما لو سألت أحد المارة .. إين قبر كي آست .. لهز رأسه وقال .. خبر نا دارِم ..
و لو سألت عنه أهل القرى المجاورة .. لما وجدت عندهم ما يشفي حيرتك ..
فيوم دفن فيه صاحبه كانت القرى خالية و كان أهلها قد هجروها فراراً من الحرب ..
و ربما القلة الذين يعرفونه .. قد لحقوا به .. قتلوا .. أو تفرقوا عنه ..
كل رجع إلى بلده .. حتى الأفغان تفرقوا في ولاياتهم .. و بقيت خنادقهم خاوية
تصفر الريح في جنباتها .. أقفرت بعد العمار .. و استوحشت بعد الأنس ..
لم يعد ذاك الشعب المتصل بالوادي ينبض بالحياة ..
و لم تعد رائحة البارود تنبعث من أرجاء الخنادق ..
و لم تعد أصوات الضحكات تعلو في المطبخ ..
و لم تعد خيل الكراكاش تجلب المؤن ..
و لم يعد هناك جرحى في الشفاخانة .. بل و لا حتى طبيب ..
لم يبق هناك .. إلا هو .. وحيداً فريداً ..
يلتحف قبره بالثلوج طيلة الشتاء ..
و يكتسي بالخضرة اليانعة و الورود في الصيف ..
لايزوره أحد ..
و ربما لا يسلم عليه أحد من المارة ..
قد يكون القبر قد اندرس و عفى مكانه ..
و لكن إن جهله أهل الأرض ..
فهو معروف عند من في السماء عرشه .. و في الأرض سلطانه .. و ما كان ربك نسيّا ..
.. إنه قبر أبو سليمان القطري ..
وجه منور و صمت وقور و لحية وافرة و قلب صافي و ابتسامة تشرح الصدر ..
اللهم آنس وحشته .. اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ..
اللهم تقبله عندك في الشهداء ..
لك الله يا أرض أفغانستان ..
لقد شربتِ من دماءنا حتى الثمالة ..
و لو طلبت المزيد فلن نبخل ..
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا .. و لكن على أقدامنا يقطر الدمُ

همام

الصفحة الرئيسة