اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/hamesabadr/18.htm?print_it=1

سلسلة أحاديث وفوائد (3)
حديث (أنت مع من أحببت)

د. بدر عبد الحميد هميسه

 
عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛أَنَّ رَجُلاً قََالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ؟ قَالَ : لاَ ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، قَالَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.قَالَ أَنَسٌ : فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ ، بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ.
رواه أحمد (13419 و13886) ، وعَبْد بن حُمَيْد (1296) ، ومُسْلم (7520) .
1- المسلم ينشغل دائماً بأمر آخرته :
المسلم إنسان يعمل دائما لآخرته , فهو مشغول بها وقد جعلها همه , عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ ، جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ ، جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ.أخرجه التِّرْمِذِي (2465) الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 2 / 670 .
فهو لا يغفل عن أمر آخرته بل يذكِّر نفسه بهذا الحق دائما ، لقوله تعالى:﴿.. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾..{غافر:13} .
والغفلة عن الآخرة لها أسباب، أهمها: حب الدنيا والجهل بحقيقتها وهوانها، والجهل بأن على الإنسان أن يأخذ حاجته منها دون تعلق بها، بل يكون تعلقه بالله وبأمر الله وجنته .
والله تعالى أخبرنا أن من يستحب الدنيا على الآخرة يكون غافلاً ولا يهتدي ولا يفكر ولا يتذكر، قال تعالى عن الذين وصل بهم حبهم للدنيا إلى حد الكف:﴿...ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ و َأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾..{النحل:106،108} .
والله تعالى أخبرنا أن هناك علاقة بين الغفلة عن المقصد من الحياة، وبين الرضا بالدنيا والسكون إليها، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ*أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾..{يونس:7،8}.
فواجب المؤمن أن يكون مقصده آخرته ولقاء الله لقاءً حسناً، وبهذا لا يطمئن للدنيا ولا يغفل، فمعرفة الإنسان بربه وبآخرته وتذكره لحق الله ولعظم شأن الجنة يخرجه من غفلته في دنياه، قال تعالى:﴿ إنّا أخْلَصْنـٰهُم بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾..{ص:46} .
فهذا رجل قد شغل نفسه بأمر آخرته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أين يجده يوم القيامة , عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ:سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ : أَنَا فَاعِلٌ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ ؟ قَالَ : اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ ، قَالَ : قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ ؟ قَالَ : فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ ، قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ ؟ قَالَ : فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ ، فَإِنِّي لاَ أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلاَثَ مَوَاطِنَ.أخرجه أحمد 3/178(12856) والتِّرْمِذِيّ\" 2433.
وفي هذا الحديث الذي معنا يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم , ليس عن أمر من أمور الدنيا بل عن الساعة وما فيها .
وها هو حنظلة رضي الله عنه يتهم نفسه بالنفاق لأنه ينسي أمر الانشغال بالآخرة حينما يترك مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويعود إلى بيته . عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ , قَالَ : وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْر ، فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْر : فَوَاللهِ ، إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْر ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ ، تُذَكِّرُنَا بِال نَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ ، نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ ، وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً ، وَسَاعَةً ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. أخرجه أحمد 4/178(17753) و\"مسلم\" 8/94(7066) و\"ابن ماجة\" 4239 والتِّرْمِذِيّ\" 2514 .
وهذا ربيعة بن كعب الأسلمي , يحكي قصته مع الآخرة والشوق إلى الجنة فيقول : كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ ، نَهَارِي أَجْمَعَ ، حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ، فَأَجْلِسَُ بِبَابِهِ ، إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ، أَقُولُ لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَةٌ ، فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : سُبْحَانَ اللهِ ، سُبْحَانَ اللهِ ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ، حَتَّى أَمَلَّ ، فَأَرْجِعَ ، أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي ، فَأَرْقُدَُ ، قَالَ : فَقَالَ لِي يَوْمًا ، لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ : سَلْنِي يَا رَبِيعَة ، أُعْطِكَ. قَالَ : فَقُلْتُ : أَنْظُرُ فِي أَمْرِي ، يَا رَسُولَ اللهِ ، ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي ، فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي ، قَالَ : فَقُلْتُ : أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسل م لآخِرَتِي ، فَإِنَّهُ مِنَ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ ، قَالَ : فَجِئْتُ ، فَقَالَ : مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَة ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللهِ ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ ، فَيُعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : فَقَالَ : مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَة ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : لاَ وَاللهِ ، الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ : سَلْنِي ، أُعْطِكَ ، وَكُنْتَ مِنَ اللهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِي ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي ، فَقُلْتُ : أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لآخِرَتِي ، قَالَ : فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَوِيلاً ، ثُمَّ قَالَ لِي : إِنِّي فَاعِلٌ ، فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ. أخرجه أحمد 4/59(16694)صحيح الترغيب والترهيب 1/29 .
ذكر أن ثابت البناني رحمه الله خرج إلى بغداد فرأى بساتين جميلة فيها ثمار يانعة وورود مفتحة، وفيها أشجار فناء، ورياض خضراء، فقيل له: يا ثابت ! ما الذي أعجبك في هذه البساتين؟ فقال: أعجبني في بستان كذا .. عجوز رأيتها تصلي الضحى.
وهذا الربيع بن خثيم شاب من الشباب، مشغول بطاعة الله جل وعلا كان يبكي وربما لم ينم ليلة أو ليالي متتابعة، فتقول أمه: يا ربيع ! لماذا لم تنم؟ فيقول: وكيف ينام من يخاف الموت يا أماه؟! ويبكي بكاء شديداً، فتقول: والله إن من رأى بكاءك يظن بك السوء؛ هل قتلت نفساً.. أخبرنا، فإن أهل القتيل لو علموا بحالك لعفو عنك رحمة بك، وشفقة لما حل بك؟ قال: نعم يا أمي! لقد قتلت نفساً فلا تخبري أحداً، إني قتلت نفسي بالذنوب. أقوام اشتغلت أنفسهم بالطاعة فاشتاقوا إلى الآخرة، وعلموا أن الدنيا ممر ومعبر لكي يستقروا في نعيم لا يتكدر أبداً. يقول ابن مسعود رضي الله عنه الله عنه عن ذلك الشاب المشتغل بطاعة الله ألا وهو الربيع بن خثيم: [يا ربيع ! لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك] شاب يقول له ابن مسعود: [لو رآك النبي لأحبك].
وهذا ربعي بن حراش قلما رئي هازلاً ضاحكاً، فقيل: لماذا لا تضحك؟ فقال: وكيف يضحك من سيمر على الصراط، فلما مات مات ضاحكاً متبسماً، وغسلوه وهو ضاحك، ودفنوه وهو ضاحك مبتسم، ولسنا بهذا نحرم أو ننكر على أحد الضحك، ولكن نقول: من اشتغل بشيء أشغله، من أولع بشيء شغل قلبه، من اشتغل بالطاعة شغلته واهتم بها، والدار الآخرة مثل حالي أو حال كثير من الناس فيها كحال رجل أعطي أرضاً فلم يحفر بها بئراً، ولم يغرس بها نخلاً، ولم يجعل لها سوراً، فلا يبالي أن ينزل بها الذئاب والكلاب، وأن ترمى بها الأقذار والأوساخ، وآخر أعطي أرضاً، فأنشأ لها سوراً، وغرس بها نخلاً، وحفر بها بئراً، فهل يرضى أن ترمى بها المزابل والأوساخ والسباطات والقذارات؟ لا. فالشاب الذي يبني الآخرة، يسورها بسور جميل، يشق فيها أنهاراً، يغرس أشجاراً، ويحرثها، فلا يرضى أن يرمى في أرض آخرته المزابل والمعاصي، أما الذي أرض آخرته كلأ مباح للذئاب والبهائم يوضع فيها الروث والسرجين والنجاسات والأوساخ، فلا تعجب ألا يبالي بأمر آخرته، وربما نفع غيره بضر آخرته هو: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ [الجاثية:21].
قال الشاعر :

إن لله عبــادا فـــطنا * * * طلقوا الدنيا وخافـوا الفتنا
نظــروا فيهـا فلما علموا * * * أنها ليـست للـحي وطنا
جــعلوها لجــة واتخذوا * * * صالح الأعمـال فيها سفنا

وطلب الرشيد ماء ليشرب، ثم قال لابن السماك : عِظني.فقال له: بالله يا أمير المؤمنين لو مُنعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال بنصف ملكي، قال: لو مُنعت خروجَها بكم كنت تشتريه؟ قال بنصف ملكي الآخر، فقال إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه، فبكى هارون.وقال له ابن السماك يوماً: إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك، فاحذر المقامَ بين يدي الله عز وجل والوقوفَ بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكَظَم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبةٌ تقبل ولا عثرةٌ تُقال، ولا يقبل فداءٌ بمال.فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة فقام فخرج من عنده وهو يبكي.

2- حب الله ورسوله سبب للفوز والفلاح :

بعد أن سأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة , وسأله النبي عما أعد له , أجاب بأنه قد أعد لها حب الله ورسوله , فهو قد عرف أن محبة الله ورسوله جالبة لكل خير , دافعة لكل شر , فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من محبة الله تعالى , قال تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) سورة آل عمران , وقال : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) سورة النساء .
وفي الصحيحين : عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم (( والذي نفسه بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب من والده وولده والناس أجمعين ))0 وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله والله لانت أحب إلي من كل شي إلا من نفسي فقال(( لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال : والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال : (( الآن يا عمر )) 0
وقد ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله- أن الأسباب الجالبة لمحبة الله عشرة:
الأول: قراءة القرآن وتدبره.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكر الله على كل حال بالقلب واللسان والعمل.
الرابع: إيثار محاب الله على محاب النفس.
الخامس: التأمل في أسماء الله وصفاته، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.
السادس: التأمل في نعم الله تعالى على العبد؛فإن التأمل فيها يدعوا إلى محبة المنعم.
السابع: انكسار القلب بين يدي الله تعالى.
الثامن: الخلوة بالله وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه حين يبقى ثلث الليل الأخير وختم ذلك بالاستغفار.
التاسع: مجالسة الصالحين المحبين الصادقين والاقتداء بهم.
العاشر: الابتعاد عن كل الأسباب التي تحول بين القلب وبين الله عز وجل فاتخذوا هذه الأسباب رحمكم الله للحصول على محبة الله عز وجل وابتعدوا عن أضدادها.
قال وهب بن منبه:لبث رجل عابد سبعة أيام لم يرزق شيئا، فقالت امرأته:-لو خرجت فطلبت لنا شيئا؟فخرج العابد فوقف مع العمال،فاستؤجر العمال، وصرف الله عن العابد الرزق، ولم يستأجره أحد فقال:- والله لأعملن اليوم مع ربي.فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل،ولم يزل راكعا وساجدا حتى أمسى . وأتى أهله فقالت امرأته:- ما صنعت اليوم ؟قال العابد:-عملت مع أستاذي، وقد وعدني أن يعطيني.ثم غدا إلى السوق فوقف العمال فاستؤجر،وصرف الله عنه الرزق،ولم يستأجره أحد فقال-لأعملن اليوم مع ربي.فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل،ولم يزل راكعا ساجدا حتى إذا أمسى أقبل على أهله فقالت امرأته :- ما صنعت؟قال العابد:- إن أستاذي قد وعدني أن يجمع لي أجرتي.فخاصمته امرأته وبرزت عليه، ولبث يتقلب ظهر البطن، وبطنا لظهر،وصبيانه يتضاغون جوعا، ثم غدا إلى السوق، فاستؤجر العمال وصرف الله عنه الرزق ولم يستأجره أحد فقال :- والله لأعملن اليوم مع ربي:فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل ، ولم يزل راكعا ساجدا حتى إذا أمسى قال :-أين أمضي ؟ و أنا قد تركت العيال يتضاغون جوعا ثم تحامل على جهد منه، حتى إذا قرب من باب داره سمع ضحكا وسرورا،وشم رائحة قديد وشواء، فأخذ عل ى بصره وقال : - أنا نائم أم يقظان ؟ تركت أقواما يتضاغون جوعا، وأشم رائحة قديد وشواء،وأسمع ضحكا وسرورا؟ ثم دنا من باب داره فطرق الباب ، فخرجت امرأة حاسرة ، قد حسرت عن ذراعيها وهي تضحك في وجهه، ثم قالت :-قد جاءنا رسول أستاذك فأتانا بدنانير وكسوة و ودق - الدهن - ودقيق ، وقال: إذا جاء فلان فأقرئه السلام وقولي له :إن أستاذك يقول لك: قد رأيت عملك و قد رضيته ، فإن زدتني في العمل زدتك في الأجر.
قال الشاعر : عبد المعطي الدالاتي:قال لي صغيري أسامة يوماً وهو يُحاورني: أحبّك كثيراً يا أبي، ولكنّي أحبّ رسول الله أكثر.


أعـودُ مساءً ، فتجري إليــّا * * * * تـمُـدّ يـديـكَ .. أمُدُّ يَدَيّــا
تـغيبُ بضمٍّ .. أغيب بلثمٍ * * * * عـن الـعالمينَ نغيبُ ســويّا
فـأدفـنُ أعباءَ يومي لديكَ * * * * وتـدفنُ شـــوقَ النهارِ لديّا
وتـفتحُ كلّ المتاعِ فترضى * * * * ويا ويلتا، إنْ سخطتَ عليّا!
\"أهذي هداياكَ دوماً إليّا !\" * * * * لـقد قلتَ يا بْني مقالاً فريّا
أتـظلمُ ؟! ظلمُكَ حُلْوٌ شهيٌّ * * * * ولـولاك ما ذُقتُ ظلماً شهيّا
فـعاتبْ، وكرِّرْ، أنا لن أَمَلَّ * * * * وكيف أَمَلُّ العتابَ الهنيّا ؟!
تـحكَّمْ بحُبّي .. بدقّاتِ قلبي * * * * بخُطْواتِ دربي .. تحكَّمْ بُنيّا
فـلو أَستطيعُ لسقتُ النجومَ * * * * هدايا إليكَ .. وسقتُ الثريّا
ولـو أَستطيعُ سكبتُ فؤادي * * * * وروحي وعيني ولم أُبقِ شيّا
ويـا لهَنائي إذا ما رضيتَ * * * * عـليَّ ، فتهمسُ همساً خَفيّا
\" أحبّك حباًّ كبيــراً .. كبيراً * * * * وأكـثـر منكَ أُحــبُّ النبيّا


3- يحشر المرء مع من أحب:

المرء في الدنيا يميل قلبه إلى من يحبه فيأنس إليه ويلهج لسانه بذكره , ويهفو قلبه لمؤانسته ومجالسته , دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه، وقام رجل فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: ومن ظلمك؟ قال: عمارة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم فاقعد مع خصمك، فقال: ما هو لي بخصم، إن كانت الضيعة له فلست أنازعه، وإن كانت لي فهي له، ولا أقوم من مجلس قد شرفني أمير المؤمنين بالرفعة إليه لأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة.( ابن حمدون : التذكرة الحمدونية 1/148 , نثر الدر للأبي 78).
فانظر إلى عبد أحب عبدا كيف لم يرض أن يترك القرب منه ولا الإيناس به لحظة , فما بالك بمن يأنس بخالقه ومولاه ؟ ويحب من يحبه ويبغض من عاداه .
إن الحب الحقيقي لا الحب الزيف، هو الذي يكون لله وبالله ومع الله ؛ إنه الحب الذي يقرب إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه الحب الذي دعا صاحبه إلى أن يقول هذه الكلمات النيرات \"والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي\".
إنه الحب الذي ملك قلوب أولئك الصحابة البررة الأطهار يوم أعلنوا الحب وقالوا: \"يا رسول الله: هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك\"
والمحبة ليست قصصا تُروى، ولا كلمات تقال، ولا ترانيم تُغنى، المحبة لا تكون دعوة باللسان، ولا هياماً بالوجدان، وإنما هي طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، المحبة عمل بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، تتجلى في السلوك والأفعال والأقوال {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [آل عمران: 31] .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي ، قَالَ : فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي. أخرجه أحمد 3/155(12607).
وهذه المحبة وإن كانت عملا قلبيا, إلا أن آثارها ودلائلها لابد وأن تظهر على جوارح الإنسان , وفي سلوكه وأفعاله , فالمحبة لها مظاهر وشواهد تميز المحب الصادق من المدعي الكاذب , وتميز من سلك مسلكا صحيحا ممن سلك مسالك منحرفة في التعبير عن هذه المحبة .
وأول هذه الشواهد والدلائل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه , فإن أقوى شاهد على صدق الحب - أيا كان نوعه - هو موافقة المحب لمحبوبه , وبدون هذه الموافقة يصير الحب دعوى كاذبة , فإذا كان الله عز وجل قد جعل اتباع نبيه دليلا على حبه سبحانه , فهو من باب أولى دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم , قال الحسن البصري رحمه الله \" زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية .
وصدق القائل :

تعصي الإله وأنت تزعم حبه * * * هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته* * * إن المحب لمن يحب مطيع

فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم , هو من أطاعه واقتدى به , وآثر ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه .
فإذا أردت دخول الجنة فأحب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان حتى تحشر معهم واعلم أخي الكريم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل ، وقد قرنها الله بها ، وتوعد من قدم عليها شيء من الأمور المحبوبة طبعاً من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك ، فقال تعالى : (( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ )) .
سئل وهيب بن الورد : هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله ؟ قال : لا ، ولا من هم بالمعصية .
وقال ذو النون : كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب . عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الإيمان ، فقال : أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله \" . وفيه - أيضا – عن عمرو بن الجموح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله ، فإذا أحب لله ، وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله \" وفيه : عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : \" أوثق عرى الإيمان : أن تحب في الله وتبغض في الله وخرج الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : \" أفضل الأعمال : الحب في الله والبغض في الله\". ومن حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : \" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان \" . وخرجه أحمد ، والترمذي من حديث معاذ بن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد أحمد في رواية \" وأنكح لله \".
وهذا ثوبان رضي الله عنه غاب النبي صلى الله عليه وسلم طوال اليوم عن سيدنا ثوبان خادمه وحينما جاء قال له ثوبان: أوحشتني يا رسول الله وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: \' اهذا يبكيك ؟ \' قال ثوبان: لا يا رسول الله ولكن تذكرت مكانك في الجنة ومكاني فذكرت الوحشة فنزل قول الله تعالى { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [69] سورة النساء .

أنا ما أَتيتُكَ يا حَبيبـي مَادحــاً * * * يَكفِيـكَ مَدْحُ اللهِ والتَمجِـيـــدُ
فَصِفَاتُ خَلْقِكَ في الكِتَابِ كَثيـرَةٌ* * *لَيسـتْ لهـا حَدٌ .. ولا تَحديـــدُ
أنا هَائمٌ في نُورِ حُبِّـكَ ذَائِـبٌ* * *فَأَظـلُّ أَبكـى... والغَرَامُ يَزِيـــدُ

يقول الشافعي وهو يتحدث عن نفسه بتواضع:

أحب الصالحين ولست منهم * * لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارتهم المعاصي * * وإن كانا سوياً في البضاعة

فيرد عليه الإمام أحمد ويقول:

تحب الصالحين وأنت منهم* * ومنكم قد تناولنا الشفاعة
وتكره من بضاعتهم معاصي * * وقاك الله من شر البضاعة

فاعلم – أيها الحبيب – أنك إذا أحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام حشرت معهم , وإذا أحببت أهل المعاصي والفجور حشرت والعياذ بالله معهم , فأي الفريقين تختار ؟ وأي النهجين تفضل ؟ .

أمامك فانظر أي نهجيك تنهج ؟ * * * طريقان شتى : مستقيم وأعوج

جعلنا الله ممن يحب الله ورسوله وأصحابه الغر الميامين وآله الطيبين الطاهرين , وحشرنا معهم جميعا في جنات رب العالمين .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية