اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/hamesabadr/208.htm?print_it=1

تخير لنفسك البطانة الصالحة

د. بدر عبد الحميد هميسه


بسم الله الرحمن الرحيم


نهى الله تعالى المؤمنين عن موالاة بطانة السوء قال تعالى : \" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) سورة آل عمران.
والبطانة خاصة الرجل الذين يطلعهم على الباطن من أمره .معاني القرآن للنحاس 465.
وهو نهي عام يشمل الحكام وغير الحكام , فهناك بطانة الرجل الخاص به كالزوجة والأصدقاء , وعليه أن يحسن اختيارهم , فإذا اختار الزوجة الصالحة كانت نعم المعين الصالح له على طاعة الله تعالى , وإذا اختار الزوجة السيئة كانت سبباً في هلاكه وهلاك أبناءه , فالمرء على ما تعود .
قال الشاعر :

نُبِّئْتُ أن سليمانَ الزمانِ ومَنْ * * * أصبى الطيورَ فناجَتْه وناجاها
أعطى بلابلَه يوماً يؤدبُها * * * لحكمةٍ عنده للبُومِ يَرعاهـا
فاشتاق يوماً من الأيام رؤيتَها * * * فأقبلَتْ وهي أعصى الطيرِ أفواها
فنال سيدَها مِنْ دائها غضَبٌ * * * وودَّ لو أنه بالذبح داواهـا
فجاءه الهدهدُ المعهودُ معتذراً * * * عنها يقول لمولاه ومولاهـا
بلابلُ اللهِ لم تَخرَسْ ولا وُلدَتْ * * * خُرساً ولكنّ بومَ الشؤمِ رباها

كانت هناك أم لديها ابن صغير وكان هذا الابن قد تعود السرقة وفي ذات يوم أحضر إلى أمة بيضة , وما كان جواب تلك الأم المربية إلا أنها قالت له: أحسنت يا ولدي كيف استطعت أن تسرق بهذه السهولة فكأن الأم تشجعه على ما فعل ففرح ذاك الابن حتى في اليوم التالي جاء بدجاجة ففرحت تلك الأم وشجعته على فعله وما مكث أياماً حتى تجرأ أن يسرق بيت السلطان أو الحاكم ولكن لم يمهله الله سبحانه وتعالى في هذه المرة حتى تمكنوا منه وامسكوا به وحكم السلطان علية بالإعدام , فلما أخذوه إلى خشبة المشنقة وقبل أن يشنق قال اطلب منكم طلباً قالوا له : اطلب قال عليكم أن تحضروا أمي , ولما جاؤا بأمه قال لها : أماه أريد أن أقبل لسانك قبل أن ارحل عن هذه الدنيا فمدت تلك الأم لسانها ,فقام بعضها حتى قطع لسانها , وقال لو كانت أمي تمنعني من السرقة ما وصلت إلى خشبة المشنقة .

هذا على المستوى الشخصي أما على المستوى العام فهناك الحكام والولاة , الذين يجب عليهم أن يجمعوا حولهم بطانة الخير والحق , فالسعيد من رزق مع الولاية البطانة الصالحة التي تذكره إذا نسي وتعينه على الخير وتنهاه عن الشر , عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ. أخرجه أحمد 3/39(11362) و\"البُخَارِي\" 8/156(6611).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء ، إن نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه . رواه أبو داود في : ، (8/150) عون المعبود . قال الشارح : ( والحديث سكت عنه المنذري ) . ورواه النسائي 33 ، وأحمد (6/70).
أحد أسباب تمادي الظلمة في ظلمهم هو بطانة السوء وإعانة بعض الرعية الظالم على ظلمه. قال تعالى عن قوم فرعون: \" فاستَخَفّ قومَهُ فأطاعوهُ إنهم كانوا قوما فاسقين \" (26) سورة الزخرف.
قيل إن فرعون قال للناس أنا ربكم , يقصد سيدكم ومولاكم , وصاحب النعم عليكم , كما يقال : رب المنزل ؛ أي صاحبه , لكنهم سجدوا له فقال : أنا ربكم الأعلى .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين . السياسة الشرعية (ص 7) .
وكتب أحدهم إلى أحد الأمراء : \" وشاور في أمرك الذين يخافون الله تعالى، واحذر بطانة السوء. فإنهم إنما يريدون دراهمك ويقرّبون من النار لحمك ودمك.ترتيب المدارك 2/36.
قال الشاعر :

صبحت في أمة أوترت معظمها * * * بهيمة الله بين الذيب والنمر
تسدد الرأي معصوما فتنقضه * * * بطانة السوء مركوسا إلى الحفر

فالبطانة الصالحة تواجه الحاكم والمسؤول بأخطائه , ولا تجامله في الحق , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ ، أَنْ تَقُولَ لَهُ : إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ. أخرجه أحمد 2/163(6521) رقم : 501 في ضعيف الجامع .
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا ، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا ، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ، فَقَالُوا : لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا.أخرجه \"أحمد\" 4/268 (18551) و\"البُخَارِي\" 3/182(2493) .
قال الإمام سفيان الثوري: لما حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان, فوضعوا لي الرصد حول البيت, فأخذوني بالليل. فلما مثلت بين يديه قال لي: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا؟ فما أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه.فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟.قال: لا أدري, لي أمناء ووكلاء.قلت: فما عذرك غدا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حج قال لغلامه كم أنفقت في سفرنا هذا؟.قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارا.فقال: ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين.وقد علمت ما حدثنا به منصور عن الأسود بن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:\" ربّ متخوّض في مال الله ومال رسوله فيما شاءت نفسه له النار غدا\", فيقول أبو عبيد الكاتب: أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟.فيجيبه سفيان بقوة المؤمن وعزة المسلم: اسكت, إنما أهلك فرعون هامان . وفيات الأعيان 2/ 387 .
قال الشاعر :

مازال فينا ألوف من بني سبأ *** يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا
مازال لابن سلول شيعة كثروا *** أضحى النفاق لهم سمتا وعنوانا

كان مالك بن دينار يقول : \" لا يتفق اثنان في عِشرة إلا وفي أحدهما وصفٌ من الآخر ، وإن أجناس الناس كأجناس الطير ، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة . قال : فرأى يوما غرابا مع حمامة فعجب من ذلك ، فقال : اتفقا وليسا من شكل واحد ، ثم طارا فإذا هما أعرجان ، فقال : من ها هنا اتفقا \" .
قال تعالى : \"الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) سورة الزخرف , عن قتادة عن أبي إسحاق أن عليًا قال في هذه الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران, فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك, ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر, ويخبرني أني ملاقيك, يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني, فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما, فيقول: ليثن أحدكما على صاحبه, فيقول: نعم الأخ, ونعم الخليل, ونعم الصاحب, قال: ويموت أحد الكافرين, فيقول: يا رب إن فلانًا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك, ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير, ويخبرني أني غير ملاقيك, فيقول بئس الأخ, وبئس الخليل, وبئس الصاحب. أخرجه الطبري: 25 / 94, وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 199-200.
وقد قال بعض الحكماء : كل إنسان يأنس إلى شكله ؛ كما أن كل طير يطير مع جنسه ، وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بد أن يتفرقا ، وهذا معنى خفي فطن له الشعراء حتى قال قائلهم :

وقائل كيف تفارقتما * * * فقلت قولا فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته * * * والناس أشكال وآلاف

وذات مرة وهو عائد إلى بيته إذا بامرأة حامل رأت عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمامها من رهبته وخشيته أجهضت ما في بطنها فبلغ عمر فصعد على المنبر وقال أيها الناس بينما أنا سائر في الطريق أجهضت امرأة عندما رأتني هل على غرة؟ قال بعض الناس يا أمير المؤمنين امرأة تخاف فيسقط ما في بطنها لا ذنب له ..لكن عليا يقول يا أمير المؤمنين إن كانوا قد نصحوك فقد غشوك ويوم القيامة لن ينفعوك عليك غرة فدفعها عمر رضي الله عنه.

عن عبيدة قال جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلاء ولا منفعة ، فإذا رأيت أن تقطعناها ؟ لعلنا نحرثها ونزرعها فاقطعها إياهما ، وكتب لها عليه كتابا ، واشهد فيه عمر وليس في القوم ، فانطلقا إلى عمر ليشهداه ، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ، ثم تفل فيه ومحاه فتذمرا ، وقالا : مقالة سيئة ، قال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل ، وان الله قد أعز الإسلام ، فاذهبا فأجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما أن رعيتما ، فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران ، فقالا : والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر ؟ فقال : بل هو ، ولو شاء كان ، فجاء عمر مغضبا حتى وقف على أبي بكر ، فقال : أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين ، أرض هي لك خاصة أم هي بين المسلمين عامة ؟ قال : بل هي بين المسلمين عامة ، قال : فما حملك أن تخص هذين بها دون جماعة المسلمين ؟ قال : استشرت هؤلاء الذين حولي ، فأشاروا علي بذلك ، قال : فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك ؟ أو كل المسلمين أوسعت مشورة ورضا ؟ فقال أبو بكر : قد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا مني ، ولكنك غلبتني. أدب الدنيا والدين ص 143.

بعد تولي الخليفة أبو جعفر المنصور الخلافة وتحويلها إلى سلطويه كسرويه أو كما قال احد كبار الصحابة لمعاوية بن أبي سفيان من قبل بل تريدوها قيصريه كلما مات قيصر جاء آخر المهم كان العالم الإسلامي في حيره من أمره فالمسلمون في أعناقهم بيعه لمحمد بن عبد الله الحسن ( النفس الذكية ) وحتى أبو جعفر المنصور ذاته كان قد بايع النفس الذكية والذي كانت تؤيده المعتزلة بقياده عمرو بن عبيد وهنا حدثتا المواجهة بين الأستاذ والتلميذ بين أبو جعفر المنصور والزاهد العابد عمرو بن عبيد وفي إحدى لقاءاتهما دار حوار يطلب فيه أبو جعفر المنصور من عمرو أن يساعده هو ورجاله من المعتزلة في شئون الحكم فيرد عليه عمرو بن عبيد احكم بالعدل يتبعك أهله فيقول له أبو جعفر هذا خاتمي افعل ما تشاء اصدر أحكام ما تشاء فيقول له : لا استطيع وهواء الشياطين يحكمون بدلا منك ( يقصد جند خراسان من الشعوبيين ) وطلب منه عمرو ابن عبيد إلا يطلبه مره أخرى واستمر كذلك حتى توفى عمرو بن عبيد وبعد سنه واحده من وفاته قامت ثوره المعتزلة بقياده محمد بن عبد الله الحسن .
فتخير لنفسك البطانة الصالحة حتى تكون العين الساهرة عليك , واليد الممتدة بالخير إليك .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية