صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الإسلام والتعايش مع الآخرين

د. بدر عبد الحميد هميسه


بسم الله الرحمن الرحيم


حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كأن أول ما فعله بعد بناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار , وضع صحيفة المعاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة.
وهذه الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم، في صياغة موادها وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها.
يقول الدكتور محمد سليم العوا: ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور في جملتها معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم... وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دوَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم .
فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، إلخ، فحرية الدين مكفولة: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم» قال تعالى: \" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . سورة البقرة: 256.
وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة. راجع : الصلابي : السيرة النبوية عرض ووقائع 381.
وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان أول تطبيق عملي للدولة الإسلامية في حسن التعايش مع الآخرين من غير المسلمين , ودلالة على أن الإسلام دين لا ينفي الآخر على الإطلاق وأنه يقر أن الاختلاف بين الناس في أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم هو سنة إلهية وحكمة ربانية , قال تعالى : \" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) سورة هود .
وقال: \" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) سورة يونس .
وقال \" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) سورة الكهف .
ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته يطبق هذا السلوك الحضاري القويم , فعَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَسْلِمْ ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ ، وَهُْوَ عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَا القاسِم صلى الله عليه وسلم ، فَأَسْلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُْوَ يَقُولُ : الْحَمْدُ ِللهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ. أخرجه أحمد 3/175(12823) و\"البُخَاريّ\" 1356 و\"أبو داود\" 3095.
فهذه الحكاية تذكر في معرض حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس إلى دين الحق والخير , وقد لا يلتف كثير منا إلى شيء مهم وهو سماح النبي عليه الصلاة والسلام لغلام يهودي بأن يكون في خدمته يدخل بيته ويتطلع على أسرار لا يطلع عليه الناس .

وحكاية أخرى ذكرتها كتب السنة عن المرأة اليهودية التي لبى النبي صلى الله عليه وسلم دعوتها وذهب إلى بيتها يشاركها طعامها , عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَنَسٍ ؛ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ ، قَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكَِ - قَالَ : أَوْ قَالَ : عَلَيَّ - قَالَ : قَالُوا : أَلاَ نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
- لفظ رَوْح : أَنَّ يَهُودِيَّةً جَعَلَتْ سَُِمًّا فِي لَحْمٍ ، ثُمَّ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إِنَّهَا جَعَلَتْ فِيهِ سَُِمًّا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلاَ نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَجَعَلْتُ أَعْرِفُ ذَلِكَ فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد 3/218(13318) و\"البُخَارِي\" 2617 ، وفي (الأدب المفرد) 243 و\"مسلم\" 5756.
وأيضاً ما ذكر في كتب السنة عن موت النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي , فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا . قَالَتْ:اشْتَرَى رَسًولُ الله صلى الله عليه وسلم طَعَاما مِنْ يَهُودِيٍّ بِنَسِيئَةٍ ، وَرَهَنَهً دِرْعا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.
ورواية سفيان : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاثِينَ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ. أخرجه أحمد 6/42 و\"البُخَارِي\" 3/73 و151.
ولقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة الناصعة الساطعة فقال عز من قائل : \" لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) سورة الممتحنة .
ولقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : \" إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) سورة النساء .
قال أهل التفسير : قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن إبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف بالله ما له بها من علم فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا اثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة بن أبيرق زاد في الكشاف وشهد له جماعة من اليهود . قال البغوي : وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم طعمة فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده فأنزل الله هذه الآية وقيل إن زيد بن السمين أودع الدرع عند طعمة فجحده طعمة الله فأنزل هذه الآية : { إنا أنزلنا إليك } يعني يا محمد الكتاب يعني القرآن بالحق يعني بالصدق وبالأمر والنهي والفصل { لتحكم بين الناس بما أراك الله } يعني بما علمك الله وأوحى إليكم وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور روي عن عمر أنه قال لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه وإن رأي أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً قال المحققون دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي والنص المنزل عليه { ولا تكن } يعني يا محمد { للخائنين خصيماً } يعني ولا تكن لأجل الخائنين وهم قوم طعمة تخاصم عنهم وتجادل عن طعمة مدافعاً عنه ومعيناً له { واستغفر الله } , يعني مما هممت به من معاقبة اليهودي وقيل من جدالك عن طعمة { إن الله كان غفوراً } يعني لذنوب عباده يسترها عليهم ويغفرها لهم { رحيماً } يعني بعباده المؤمنين . الطبري 9/182 , ابن كثير 2/405,وانظر : تفسير ابن أبي لاحاتم 20 / 479.
بل وشدد النبي صلى الله عليه وسلم على حسن معاملة المسلم لغير المسلمين والعدل معهم وإعطائهم حقوقهم , فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ جَوْشَنٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. أخرجه أحمد 5/36(20648) و\"الدارِمِي\" 2504 و\"أبو داود\"2760 .
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أبنَاءِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالََ : ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أو انْتَقَصَهُ ، أوْ كَلَّفهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة. أخرجه أبو داود (3052) الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 1 / 729.
فاحترام النفس الإنسانية مبدأ إسلامي أصيل لا يختلف عليه اثنان , عن بن أبي ليلى , أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية , فمرت بهما جنازة , فقاما , فقيل لهما : إنها من أهل الأرض , فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام. فقيل : إنه يهودي. فقال : أليست نفسا؟. أخرجه أحمد 6/6(24343) و\"البُخَارِي\" 2/107(1312).
ولقد سار الصحابة الكرام بعد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك النهج القويم يطبقونه سلوكاً وأخلاقاً في حياتهم , فهم يحترمون حق الآخر في الحياة ويعايشون معه دون ذوبان أو مهادنة .

فالتعايش مع الآخر لا يعني على الإطلاق الذوبان فيه وضياع الهوية والذلة والاستكانة له , بل يعني الاحترام المتبادل ومعرفة كل طرف ماله وما عليه , يُحكى أن عليًّا بن أبي طالب- رضي الله عنه- افتقد درعًا كانت عزيزةً عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح، وعليٌّ يومئذٍ هو الخليفة أمير المؤمنين، فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: الدرع درعي، ولم أَبِع ولم أهب، فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟، فرد هذا متلاعبًا: الدرع درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب- يريد أن يمسك العصا من منتصفها- فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين: هل من بينة؟!. .وكان موقف شريح موقفًا رائعًا كموقف أمير المؤمنين.. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين، وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لا يكاد يصدق نفسه، ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا الله.. أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟!. إن هذه أخلاق أنبياء.. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجتَ من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها. فيقول علي رضي الله عنه: أمَّا إذا أسلمت فهي لك !.انظر : العريفي: رجال أنزل الله فيهم قرآنًا، ص 39 بتصرف.

وموقف رائع وصورة جميلة باهرة تؤكد عظمة الإسلام في احترام حقوق الآخرين ، فقد كان قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، سنة 99 هـ افتتحها بدون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله، أرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند يقول هذا الرسول: أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً فلما رأيت أعظم بناءٍ في المدينة، دخلت إليه وإذا أناس يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون، وإذا بحلقات هذا البناء، فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟ قال: لا، بل هذا هو المسجد؛ قال: صليت؟ قال: قلت: وما صليت؟ قال: وما دينك؟ قال: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين ,ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله؟ قال أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم، قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا ولكن اسلك هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ طيناً ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين، قال: فرجعت إلى الذي دلّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين، قال: فطرقت الباب وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم علي ورحّب بي وغسّل يديه, وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها, من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا ثم ختمها وناولنيها, فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها - يعني قتيبة بن مسلم - قال: وعدت بفضل الله مسلماً كلما دخلت بلداً صليت بمسجده وأكرمني أهله، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم ,ثم اجتمعوا في يوم وسألناه دعوانا فقلنا اجتاحنا قتيبة, ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا فقال القاضي: لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة - رحمه الله - أنت ما تقول قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية .
ما ظنّّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين .مصطفى السباعي : من روائع حضارتنا 78 .
فهل يعي المسلمون محاسن هذا الدين ويحسنون عرضها على الآخرين ؟ . وهل يفهم الآخرون حقيقة الإسلام ويدركون أنه دين يحسن التعامل مع جميع الناس ويقر لهم بحقهم في العيش الأمن المطمئن طالما أنهم يحترمون حقوق المسلمين ويعترفون بوجوده دينا أنزله الله تعالى .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية