اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/hamesabadr/43.htm?print_it=1

شاعر في ميزان الذهب

د. بدر عبد الحميد هميسه


الشعر هو الأداة المعبرة عن آمال الناس وآلامهم , وهو ديوان العرب وذاكرتها الحاضرة , وهو لغة النفس بكل ما في النفس من توتر وانفعال, والشعر كما قال الشافعي رحمه الله : \" كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح \" والحسن والقبح يتبعان الغرض من إنشاده ، والمعاني التي يحتويها ، والملابسات التي تحوطه والآثار التي تترتب عليه .
ولقد ظن البعض خطأ أن الإسلام ذم الشعر ونفاه , ووقف منه موقف الداء , وكان سندهم في ذلك الفهم الخاطئ لبعض آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن الشعر والشعراء ومنها قوله سبحانه : \" وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) سورة الشعراء .
فالذم هنا لهذا الصنف من الشعراء الذين لبس عليهم إبليس وهم الذين في عمل واد من الكذب والقذف والهجاء وهتك الأعراض يهيمون.
ففي هذه الآيات دعوة صريحة للالتزام فالشعر الذي يلتزم بالإسلام ولا يفئ إلى ظلاله يعتبر شعرا كاذبا ويعتبر شاعره غاويا يهيم في الناس لا يفعل شيئا أما الذين آمنوا من الشعراء هم الذين فروا بشعرهم إلى مرافئ العقيدة وتفيئوا ظلال الأمان فالتزموا القيم والمبادئ السامية , ولقد قال ابن عباس رضي الله عنه في تأويل هذه الآيات أن الله نسخ واستثنى من الغاوين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا .
فالآيات ينبغي أن تفهم في سياقها الكامل وألا نفصل صدرها عن عجزها ولذلك حينما أنزلت هذه الآيات جاء كعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل فقال له : إن المجاهد يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده ترمونهم به نضح النبل سنن أبى داود السجستانى جـ 4 ص 304 كتاب الأدب _ باب ما جاء في الشعر \" حديث رقم 501 .
وجاء حسان كذلك يبكى إلى النبي ومعه عبد الله بن رواحة وقالا : قد علم الله حينما أنزل هذه أنا شعراء فتلا عليهم النبي بقية الآيات إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذهبي : سير أعلام النبلاء جـ 2 375 .
ولقد روى على بن أبى طلحة أن عبد الله بن عباس قال في تأويل هذه الآيات : يعنى الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن ,وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس ولهذا فئام من الناس فأنزل الله هذه الآية والشعراء يتبعهم الغاوون .
إذن فالآيات لا تذم إلا صنفا مخصصا من الشعراء أما الصالحون من الشعراء فهؤلاء مكانتهم سامية ومنزلتهم نامية .
وأما قوله تعالى \" وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) سورة الحاقة . وقال أيضا \" وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) سورة يس .
فهاتان الآيتان تخاطبان كفار قريش الذين ادعوا أن القرآن يشبه الشعر أو يكاد مع أنه ليس بشعر كما يزعمون ، وأن ما يأتى محمد لا يمكن أن يوصف بالشعر , فالقرآن يختلف عن الشعر فنحن نرى كثيرا من الشعراء يوصف بالنقص حينما ينتقل من معنى إلى غيره والقرآن يتحدث في جميع المعاني بإعجاز وقوة واحدة .
لذا فقد قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً.أخرجه أحمد 3/456(15878) و\"الدارِمِي\" 2704 و\"البُخَارِي\" 8/42(6145) ، وفى )الأدب المفرد) 858 عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
وعَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ؛أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي ، وَهُوَ يَقُولُ:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ * * * الْيَوْمَ نَضْرِبُْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ * * * وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا ابْنَ رَوَاحَةَ ، بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَفِي حَرَمِ اللهِ ، تَقُولُ الشِّعْرَ ؟! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ. وسلم : خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ ، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَكَلاَمُهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ.أخرجه التِّرْمِذِيّ\" 2847 و\"النَّسائي\" 5/202.
وقد كان حسان بن ثابت-رضي الله عنه- يقول الشعر في المسجد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمدح رسول الله والمؤمنين، ويهجو المشركين ويرد عليهم . بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له . الحديث صورته صورة الإرسال لكنه موصول عند البخاري (453) وغيره، فقد سمعه سعيد بن المسيب من أبي هريرة -رضي الله عنه _ .
وعن سعيد بن المسيب. قال: ( مر عمر في المسجد وحسان ينشد فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك. (والسبب الذي دعا حسان لأن يقول هذا القول، لأن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أنكر عليه إنشاده الشعر في المسجد . ورواية النسائي716) تبين هذا، قال: ( مر عمر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه .. الحديث ) . لحظ إليه: أي نظر بمؤخر عينه من أي جانبيه كان، يميناً أو شمالاً، وهو أشد التفاتا من الشزر . ( لسان العرب 7/458) مادة : لحظ .
ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عني اللهم أيده بروح القدس قال نعم ) (رواه البخاري(3212)، ومسلم(2485)، وأحمد(21429)، والنسائي(716) .
هذا عن الشعر أما عن الشعراء , فالشعراء أيضا قسمان :قسم جعل الشعر وسيلة إلى التكسب وقذف الناس بما ليس فيهم , والتطاول عليهم , بهذا السلاح الفتاك القاتل , كما كان يفعل الحطيئة قبل أن يتوب , فلقد سار الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصدقات قومه، فلقيه الحطيئة ومعه أهله وأولاده يريد العراق فراراً من السنة وطلباً للعيش، فأمره الزبرقان أن يقصد أهله وأعطاه أمارة يكون بها ضيفاً له حتى يلحق به، ففعل الحطيئة، ثم هجاه الحطيئة بقوله‏:‏

مـا كان ذنب بغيض أن رأى رجلاً * * * ذا حاجةٍ عاش في مستوعرٍ شاسِ
جـاراً لـقومٍ أطالوا هون منزله * * * وغـادروه مـقيماً بـين أرماسِ
مـلَّـوا قِـراهُ وهـرَّته كـلابهُمُ * * * وجـرحـوه بـأنيابٍ وأضـراسِ
دع الـمكارم لا تـرحل لـبغيتها * * * وأقـعد فـأنت الـطاعم الكاسي

فشكاه الزبرقان إلى عمر، فسأل عمر حسان بن ثابت عن قوله إنه هجو، فقال حسان : ما هجاه يا أمير المؤمنين ، قال فماذا صنع به ؟ قال سلح عليه ، فقال عمر : علي بجرول ، فلما جئ به قال له : يا عدو نفسه تهجو المسلمين فأمر به فحبسه عمر في مطمورة . فأرسل إليه معتذرا ومستعطفا :

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ *** زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
أدخلت كاسبهم في قعر مظلمة *** فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه *** ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها *** لكن لأنفسهم كانت بك الإثر

فشفع فيه عبد الرحمن بن عوف والزبير، فأطلقه بعد أن أخذ عليه العهد أن لا يهجو أحداً أبداً . صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي: الوافي بالوفيات 11/55, ابن الأثير الجزري : أسد الغابة 2/292,ابن عبد البر : لاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/522.
قال بعضهم: الشعر شعران: جيد محكك، ورديء مضحك.
قال دعبل الخزاعي:

يموت رديء الشعر من قبل أهله * * * وجيّده يبقى وإن مات قائله

وحكى أن رجلاً قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعراً استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه!! فقال له: إذا أخذت درهماً تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء هل ينفعك استحسانك إياه؟.وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله، وأنشد:

وقد يقرض الشعر البكي لسانه * * * وتعيي القوافي المرء وهو لبيب

يقول الشاعر محمود مفلح :

شعرٌ يموتُ وآخرٌ يتسكَّع * * * وإلى الفُتات على الموائد يُسرعُ
هذا يمُدُّ على السحاب جناحَهُ * * * وسواه في حمأ الرذيلة يرتعُ
هل يستوي الشّعران شعرٌ مؤمن * * * ومُدجَّجٌ بالكفر لا يتورع
هل يستوي السيفُ الذي هتك الُّدجى * * * والآخر المُتزلِّفُ المتصنِّعُ
هل يستوي البحران هذا ماءوه * * * عذبٌ وذاك الآسنُ المستنقع
والشعر مرآة الشعوب فإن سمت * * * فالشعر أسمى ما يقالُ ويُبدعُ
والشعرُ صوت الحق في آفاقنا* * * لو كان من ثدي الحقيقة يرضع
والشعر قنديل الهداية تارةً * * * والشعر إعصارٌ يهزُ ويصرعُ
إن القصائد كالرجال فبعضُهم * * * شُمُّ الأنوف وبعضهم متمِّيع
حَسْبُ أنها لا تنحني* * * إلاَّ لجبَّار السماء وتركعُ

ذكران أبا نواس رؤي في المنام ، فقالوا ما فعل الله بك ؟قال : غفر لي وأدخلني الجنة ... قالوا : بماذا ؟ قال : بقصيدتي النرجسية , والتي قال في بعض أبياتها:

تأمل في نبات الأرض وانظر * * * إلى آثار ماصنع المليك
عيون من لُجين شاخصات * * * بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات * * * بأن الله ليس له شريك

فشتان بين شاعر يسبح وشاعر يقبح , وشتان يبين شاعر يسير شعره في طريق الخير والإيمان , وبين شاعر اختار طريق الضلالة والعصيان .

الشعر ليس بفكرة موزونة * * * بل شدو قلب قد حباه كريمُ

كان الشاعر محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي المكنى بأبي الحسن الذي مدح المعز الفاطمي الخليفة الرابع للدولة الفاطمية بقصائد بالغ في مدحه حتى خرج بمدحه للكفر البواح , وكان مما مدح به هذا الخليفة قوله :

ما شئت إلا ما شاءت الأقدار * * * فاحكم فأنت الواحد القهار

وقال له أيضاً

رأيتك من ترزقه يرزق من الورى * * * دراكاً ومن تحرم من الناس يحرم

وقال له أيضاً :

ندعوة منتقماً عزيزاً قادراً * * * غفار موبقة الذنوب

ولكن انقلب السحر على الساحر , فوضع عليه المعز الفاطمي من قتله في الطريق فوجد مذبوحاً وجثته ملقاة على حافة البحر في 23 رجب – 362هـ وقيل في موته غير ذلك أنه قد أصيب بداء قاتل كان يجعله يعوي مثل الكلاب وهو على فراشه وفي مرض موته كان يبكي ويصرخ قائلاً \'أنت الواحد القهار ثم أنشد قائلاً :

أبعين مفتقر إليك نظرت لي * * * فأهنتني وفذقتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني * * * علقت بآمالي بغير الخالق

وهكذا تكون نهاية هؤلاء الذين يؤثرون غير الله ويرجون غير الله يعذبون بمن آثروه من دون الله وتكون نهايتهم وجزاؤهم من جنس أعمالهم .
فشتان بين شاعر مثل هذا لا يساوي فلساً وبين شاعر يوضع في ميزان الذهب .
ومن الشعراء الذين يوضعون في ميزان الذهب , شاعر قد لا يعرفه كثير من الناس , ولم يأخذ حظه من الشهرة كبقية شعراء عصره , ولقد كنت إلى عهد قريب أظن ذلك الشاعر من الشعراء المحدَثين , لكن لما وقفت على ترجمته وتتبعت أشعاره , وجدته من شعراء العصر العباسي , بل من الذين روى عنهم ابن أبي الدنيا وأخذ عنهم العلم , ذاكم هو الشاعر الزاهد , محمود بن حسن الوراق أبو الحسن (ت 255هـ) وهوشاعر عباسي مشهور من شعراء القرنين الثاني والثالث المرموقين,وقد ذكر أنه كان مولى لبني زهرة وهو شاعر من بغداد لذلك علق به لقب البغدادي.وأكثر شعره في المواعظ والحكم وقد اشتهر بلقبين أحدها الوراق والآخر النخاس فأما الوراق فهو الناسخ بالأجرة ولعلها مهنة عمل بها.
وأما اللقب الآخر النخاس فقد جاء من المهنة كذلك قال البغدادي: وقد كان نخاساً يبيع الرقيق وكان له رقيق.
قال الذهبي في ترجمته محمود الوراق * ابن الحسن بغدادي خير شاعر مجود، سائر النظم في المواعظ.
روى عنه: ابن أبي الدنيا، وأبو العباس بن مسروق.
وقيل: كانت له جارية أعطي فيها سبعة آلاف دينار، فامتنع.
فلما مات اشتريت للمعتصم بسبع مئة دينار.
ثم قال لها: كيف رأيت ؟ قالت: إذا كان أمير المؤمنين ينتظر بشهواته المواريث، فسبعون دينارا في كثيرة. السير 11/491.
وقال ابن شاكر : في ترجمته , هومحمود بن الحسن الوراق؛ أكثر شعره في المواعظ والحكم، روى عنه ابن أبي الدنيا، وتوفي في خلافة المعتصم في حدود الثلاثين والمائتين.
ومن شعره:

ما إن بكيت زماناً * * * إلا بكيت عليه
ولا ذممت صديقاً * * * إلا رجعت إليه

وقال:

وما صاحب السبعين والعشر بعدها * * * بأقرب ممن حنكته القابل
ولكن آمالاً يؤملها الفتى * * * وفيهن للراجين حق وباطل

وقال أيضاً:

يا ناظِراً يَرنو بِعَينَي راقِدِ * * * وَمُشاهِداً لِلأَمرِ غَيرَ مُشاهِدِ
مَنَّتكَ نَفسُكَ ضَلَّةً وَأَبَحتَها * * * طُرُقَ الرَجاءِ وَهُنَّ غَيرُ قَواصِدِ
تَصِلُ الذُنوبَ إِلى الذُنوبِ وَتَرتَجي* * * دَركَ الجِنانِ بِها وَفَوزَ العابِدِ
وَنَسيتَ أَنَّ اللَهَ أَخرَجَ آدَماً* * * مِنها إِلى الدُنيا بِذَنبٍ واحِدِ

وقال أيضاً:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه * * * هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته * * * إن المحب لمن يحب مطيع

وقال أيضاً:

تعز بحسن الصبر عن كل هالك * * * ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبة * * * سلوت على الأيام مثل البهائم

وقال أيضاً:

لبست صروف الدهر كهلاً وناشئاً * * * وجربت حاليه على العسر واليسر
فلم أر بعد الدين خيراً من الغنى * * * ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر

وقال أيضاً:

أيا رب قد أحسنت عوداً وبدأة * * * إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر
فمن كان ذا عذر لديك وحجة * * * فعذري إقراري بأن ليس لي عذر

إلى غيرها من الأشعار التي ذكرها , راجع : فوات الوفيات 4/79.
وقال ابن المعتز في أخبار محمود الوراق:حدثني القاسم بن داوود قال: أخبرني الحسن العلويّ قال: كان سكن جارية محمود الوراق من أحسن خلق الله وجهاً، وأكثرهم أدباً، وأطيبهم غناء، وكانت تقول الشعر فتأتي بالمعاني الجياد والألفاظ الحسان، وكان محمود قد رقت حاله في بعض الدهر، واختلت اختلالا شديداً، فقال لجاريته سكن: قد ترين يا سكن ما أنا فيه من فساد الحال، وصعوبة الزمان، وليس بي وجلال الله ما ألقاه في نفسي ولكن ما أراه فيك، فإني أحب أن أراك بأنعم حال وأخفض عيش، فإن آثرت أن أعرضك على البيع فعلتُ، لعل الله عز وجل أن يخرجك من هذا الضيق إلى السعة، ومن هذا الفقر إلى الغنى.
قالت الجارية: ذلك إليك. فعرضها، فتنافس الناس ورغبوا في اقتنائها، وكان أحد من بذل فيها أحد الطاهريين مائة ألف درهم، وأحضر المال، فلما رأى محمود تلك البِدَر سَلِس وانقاد ومال إلى البيع، وقال: يا سكن البسي ثيابك واخرجي. فلبست ثيابها وخرجت على القوم كأنها البدر الطالع، وكان محمود - وهي كذلك - معها، فقالت سكن وأذرت دمعها: يا محمود، هذا كان آخر أمري وأمرك أن اخترت علي مائة ألف درهم؟ قال محمود: فتجلسين على الفقر والخسف؟ قالت: نعم، أصبر أنا وتضجر أنت، فقال محمود: أُشهدكم إنها حرة لوجه الله، وأني قد أصدقتها داري وهي ما أملك، وقد قامت علي بخمسين ألفاً. خذوا مالكم بارك الله لكم فيه، قال الطاهري: أما إذ فعلت ما فعلت فالمال لكما، ووالله لا رددته إلى ملكي. فأخذ محمود المال وعاش مع سكن بأغبط عيش.
وشعر محمود كثير، وأكثره أمثال وحكم ومواعظ وأدب، وليس يقصر بهذا الفن عن صالح بن عبد القدوس وسابق البربري.
ومن قوله:

يُثمل ذو الحزم في نفسه * * * مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه * * * لما كان في نفسه مثلا
رأى الهم يُفضي إلى آخرٍ * * * فصير آخره أولا
وذو الجهل يأمن أيامه * * * وينسى مصارع من قد خلا
فإن بدهته صروف الزمان * * * ببعض مصائبه أعولا
ولو قدم الحزم في نفسه * * * لعلمه الصبر عند البلا

توفي محمود الوراق في حدود المائتين والثلاثين.انظر : ابن المعتز : طبقات الشعراء 1/111.
ومن حكمه : وإذا مرضت من الذنوب فداوها بالذكر إن الذكر خير دواء والسقم في الأبدان ليس بضائر والسقم في الأديان شر بلاء.
وقوله : \" لا تطلبين أثرا بعين فالشيب إحدى الميتتين أبدى مقابح كل شين ومحا محاسن كل زين\" طبائع النساء , لابن عبد ربه 82.
واشترك محمود الوراق وعلي بن الجهم في معنى قول علي وأحسن فيه: كم منْ عليل قد تخطاه الرَّدى فنجا ومات طبيبه والعوَّدُ.
وقول محمود:

وكم منْ مريضٍ نعاهُ الطبيبُ * * * إلأى نفسه، وتولَّى كئيبا
فمات الطبيبُ، وعاش المريض* * * فأضحى إلى الناس ينعي الطبيبا

وروي: أن هشام بن عبد الملك بن مروان لما ثقل في مرضه الذي مات فيه - : بكى عليه ولده. فقال لهم: جاد لكم هشامٌ بالدنيا، وجدتم عليه بالبكا، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، فما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له.
فأخذ هذا المعنى محمودٌ الوراق فقال:

تمَتَّعْ بمالِكَ قَبلَ الممَاتِ * * * وإلاّ فَلاَ مالَ إِنْ أَنتَ مُتّا
شَقِيت بهِ ثمَّ خَلَّفْتَهُ * * * لِغيْرِكَ، بُعْداً وَسُحْقاً ومَقْتاً
فَجَادُوا عَلَيْكَ بِزُورِ الْبُكا * * * وَجُدْتَ علَيْهِمْ بما قَدْ جَمَعْتَا
وأَوْهَبْتَهُمْ كلَّ مَا في يَدَيْكَ * * وَخَلَّوْكَ رَهْناً بماَ قَدْ كَسَبتَا

فهو شاعر يمتلك ناصية البيان , لكنه شاعر صاحب مبدأ ورسالة والتزام .
قال:

إني أحبك حباً لا لفاحشة * * * والحب ليس به في الله من باس

ولقد أجاد الوراق في وصف الدنيا فقال:

هي الدنيا فلا يغررك منها * * * مخايل تستفزّ ذوي العقول
أقل قليلها يكفيك منها * * * ولكن ليس تقنع بالقليل
تشيد وتبتني في كل يومٍ * * * وأنت على التجهّز والرحيل
ومن هذا الذي يُبقي عليها * * * مضاربه بمدرجة السيول

وقال:

شاد الملوك قصورهم وتحصنوا * * * من كل طالب حاجة أو راغب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن * * * يا ذا الضراعة طالباً من طالب

وقال :

بادِر شَبابَكَ أَن تَهرَما * * * وَصِحَّةَ جِسمِكَ أَن تَسقَما
وَأَيّامَ عَيشِكَ قَبلَ المَماتَ * * * فَما قَصرُ مَن عاشَ أَن يَسلَما
وَوَقتَ فَراغِكَ بادِر بِهِ * * * لَيالي شُغلِكَ في بَعضِ ما
فَقَدِّر فَكُلُّ اِمرِئٍ قادِمٌ * * * عَلى عِلمِ ما كانَ قَد قَدَّما

وقال:

تعز بحسن الصبر عن كل هالك * * * ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبة * * * سلوت على الأيام مثل البهائم
وليس يذود النفس عن شهواتها* * * من الناس إلا كل ماضي العزائم

قال:

قدم لنفسك توبةً مرجوةً * * * قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها علق النفوس فإنها* * * ذخر وغنم للمنيب المحسن

كما أجاد أيضا في وصف الناس وأحوالهم فقال:

أرى دهرنا فيه عجائب جمَّةٌ * * * إذا استعرضت بالعقل ضلَّ لها العقل
أرى كلَّ ذي مالٍ يسود بماله * * * وإن كان لا أصلٌ هناك ولا فصل
وآخر منسوباً إلى الرَّأي خاملاً* * * وآخر مخبولاً له الجاه والنُّبل
وما الفضل في هذا الزمان لأهله* * * ولكنَّ ذا المال الكثير له الفضل
فشرِّف ذوي الأموال حيث لقيتهم * * * فقولهم قولٌ وفعلهم فعل

وقال:

سَأُلزِمُ نَفسي الصَفحَ عَن كُلِّ مُذنِبٍ * * * وَإِن كَثُرَت مِنهُ عَلَيَّ الجَرائِمُ
ما الناسُ إِلا واحِدٌ مِن ثَلاثَةِ* * * شَريفٌ وَمَشروفٌ وَمِثلي مُقاوِمُ
فَأَمّا الَّذي فَوقي فَأَعرِفُ فَضلَهُ * * * وَأَلزَمُ فيهِ الحَقَّ وَالحَقُّ لازِمُ
وَأَمّا الَّذي دوني فَإِن قالَ صُنتُ عَن * * * مَقالَتِهِ نَفسي وَإِن لامَ لائِمُ
وَأَمّا الَّذي مِثلي فَإِن زَلَّ أَوهَفا * * * تَفَصَّلتُ إِنَّ الفَضلَ لِلحُرِّ حاكِمُ

وقال :

رَجَعتُ عَلى السَفيهِ بِفَضلِ حِلمٍ* * * فَكانَ الحِلمُ عَنهُ لَهُ لِجاما
وَظَنَّ بي السَفاهَ فَلَم يَجِدني* * * أُسافِهُهُ وَقُلتُ لَهُ سَلاما
فَقامَ يَجُرُّ رِجلَيهِ ذَليلاً * * * وَقَد كَسَبَ المَذَمَّةَ وَالمَلاما
وَفَضلُ الحِلمِ أَبلَغُ في سَفيهِ * * * وَأَحرى أَن يَنالَ بِهِ اِنتِقاما

وقال :

لا تَلتَمِس مِن مَساوي الناسَ ما سَتَروا * * * فَيهتِكَ اللَهُ سَتراً عَن مَساويكا
وَاِذكُر مَحاسِنَ ما فيهِم إِذا ذُكُروا * * * وَلا تَعِب أَحَداً مِنهُم بِما فيكا
وَاِستَغنِ بِاللَهِ عَن كُلِّ فانٍ بِهِ * * * غِنىً لِكُلِّ وَثَق بِاللَهِ يَكفيكا

كما كانت له مواقفه الايجابية في مقاومة الظلم والدعوة إلى العدل .
فمن شعره في احتجاب الوالي:

إذا آعتصم الوالي بإغلاق بابه * * * وردّ ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت بهم حدى ثلاث وربّما * * * نزعت بظنٍّ واقعٍ بصوابه
فقلت به مسٌّ من العيّ ظاهرٌ * * * ففي إذنه للناس إظهار ر ما به
فإن لم يكن عيّ اللسان فغالبٌ * * * من البخل يحمي ما له عن طلابه
فإن لم يكن هذا ولاذا فريبةٌ * * * يصرّ عليهم عند إغلاق بابه

وله شعر رقيق رائع في الزهد منه قوله :

يا عائب الفقر الأ تزدجر * * * عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله * * * على الغنى إن صحّ منك النظر
أنك تعصي اللّه تبغي الغنى * * * ولست تعصي اللّه كي تفتقر

وأخذ محمود الوراق قوله: لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا مثل النار نام هاربها:

عجبت من هارب يخاف من * * * النار ومن نومه على هربه
والذي يطلب السبيل إلى* * * الجنة أنى ينام على طلبه
كم من جهول قد نال بغيته * * * ومن أديب أكدى على أدبه
ورب باك فوات حاجته * * * وفي الفوات النجاة من عطبه

ولكنه قد علم أن الزهد الحقيقي هو الذي لا يكون من الفقر , بل هو الذي يكون من الغني , فلا يجعل المال يطغيه , ولا الدنيا تأخذه وتلهيه .
قال :

اِسعَد بِمالِكَ في الحَياةِ فَإِنَّما* * * يَبقى خِلافَكَ مُصلِحٌ أَو مُفسِدُ
فَإِذا تَرَكتَ لِمُفسِدٍ لَم يُبقِهِ * * * وَأَخو الصَلاحِ قَليلُهُ يَتَزَيَّدُ
فَإِذا اِستَطَعتَ فَكُن لِنَفسِكَ * * * وارِثاً إِنَّ المُوَرِّثَ نَفسَهُ لَمُسَدَّدُ

وقال :

شَيئانِ لَو بَكَتِ الدِماءَ عَلَيهِما * * * عَيناكَ حَتّى يُؤذِنا بِذَهابِ
لَم يَبلُغا المِعشارَ مِن حَقَّيهِما * * * فَقدُ الشَبابِ وَفُرقَةُ الأَحبابِ

وقال :

يُحِبُّ الفَتى طولَ البَقاءِ وَإِنَّهُ * * * عَلى ثِقَةٍ أن البَقاءَ فَناءُ
زِيادَتُهُ في الجِسمِ نَقصُ حَياتِهِ * * * وَلَيسَ عَلى نَقصِ الحَياةِ نَماءُ
إذا ما طَوى يَوماً طَوى اليَومُ بَعضَهُ* * * وَيَطويهِ إِن جَنَّ المَساءُ مَساءُ
جَديدانِ لا يَبقى الجَميعُ عَلَيهِما * * * وَلا لَهُما بَعدَ الجَميعِ بَقاءُ

وقال :

حَياتُكَ أَنفاسٌ تُعَدُّ وَكُلَّما * * * مَضى نَفَسٌ مِنها اِنتَقَصتَ بِهِ جُزءا
فَتُصبِحُ في نَقصٍ وَتُمسي بِمِثلِهِ * * * وَمالُكَ مَعقولٌ تُحِسُّ بِهِ رُزءا
يُميتُكَ ما يُحييكَ في كُلِّ ساعَةٍ * * * وَيَحدوكَ حادٍ ما يُريدُ بِكَ الـهُزءا

وقال في التوكل :

توكّل على الرحمن في كل حاجةٍ ... أردتَ فإن الله يقضي ويقدِر
إذا ما يرِدْ ذو العرش أمراً بعبده ... يصبْه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسانُ من وجهِ حِذْره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر

وله شعر رائع في المناجاة منه قوله :

يا رب كن لي ولياً ... بالحفظ حتى أطيعك
فإن ذممت صنيعي ... فقد حمدت صنيعك
أو كنت أعصيك إني ... أحب فيك مطيعك

وقوله :

إلهي لك الحمد الذي أنت أهله * * * على نعم ما كنت قط لها أهلا
إن زدت تقصيرا تزدني تفضلا * * * كأني بالتقصير أستوجب الفضلا
فرحمة الله على هذا الشاعر , وجعلنا جميعا من ألسنة الحق والصدق .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية