صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أحاديث وفوائد (9)
فوائد من حديث : فكأنما حيزت له الدنيا

د. بدر عبد الحميد هميسه


عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا.
\"البُخَارِي\" ، في \"الأدب المفرد\"300 و\"ابن ماجة\"4141 و\"التِّرمِذي\" 2346 .

1- المسلم يسأل الله دائما العفو والعافية :

المؤمن يسأل الله دائما العافية , ويستعيذ به من البلاء عنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ الْمَدَنِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْغَدِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، ثُمَّ أَتَاهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، فَإِنَّكَ إِذَا أُعْطِيتَهُمَا فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ أُعْطِيتَهُمَا فِي الآخِرَةِ ، فَقَدْ أَفْلَحْتَ. أخرجه أحمد 3/127(12316) و\"البُخَارِي\" ، في (الأدب المفرد) 637 و\"ابن ماجة\" 3848 والتِّرْمِذِيّ\" 3512 .
وعَنْ أَبِي صَالَحٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْلِ مَقَامِي ، ثُمَّ بَكَى ، فَقَالَ : سَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ شَيْئًا خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ ، لَيْسَ الْيَقِينَ.
النسائي في عمل اليوم والليلة (882)،و أحمد في المسند (1/3)، والترمذي في الدعوات، (3558) والألباني في صحيح ابن ماجه (3104).
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ أَبِى سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ:لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِى وَحِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأَهْلِى وَمَالِى اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِى وَقَالَ عُثْمَانُ عَوْرَاتِى وَآمِنْ رَوْعَاتِى اللَّهُمَّ احْفَظْنِى مِنْ بَيْنِ يَدَىَّ وَمِنْ خَلْفِى وَعَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى وَمِنْ فَوْقِى وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى.
أَخْرَجَهُ أحمد 2/25(4785) و\"البُخَارِي\" في (الأدب المفرد) 1200 .
قال مطرف رحمه الله: \"لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أُبتلى فأصبر\"أخرجه معمر في جامعة (11/253)، وهناد في الزهد (442)، والبيهقي في الشعب (4435)..
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسماً وأمرضهم قلباً، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلباً وأمرضهم جسماً، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان) أخرجه هناد في الزهد (427)، وأبو نعيم في الحلية (1/135)..
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ.أخرجه أحمد 1/258(2340) و\"الدارِمِي\" 2707 و\"البُخَارِي\" /109(6412) و(اابن ماجة) 4170 والتِّرْمِذِيّ\" 2304 .
وقال بشار بن برد:

إنِّي وإن كان جمع المال يعجبني * * * فليس يعدل عندي صحَّة الجسد
في المال زينٌ وفي الأولاد مكرمةٌ * * * والسُّقم ينسيك ذكر المال والولد

قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : قَدْ يَكُون الْإِنْسَان صَحِيحًا وَلَا يَكُون مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ ، وَقَدْ يَكُون مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُون صَحِيحًا ، فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَل عَنْ الطَّاعَة فَهُوَ الْمَغْبُون ، وَتَمَام ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآخِرَة ، وَفِيهَا التِّجَارَة الَّتِي يَظْهَر رِبْحهَا فِي الْآخِرَة ، فَمَنْ اِسْتَعْمَلَ فَرَاغه وَصِحَّته فِي طَاعَة اللَّه فَهُوَ الْمَغْبُوط ، وَمَنْ اِسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَة اللَّه فَهُوَ الْمَغْبُون ، لِأَنَّ الْفَرَاغ يَعْقُبهُ الشُّغْل وَالصِّحَّة يَعْقُبهَا السَّقَم ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْهَرَم كَمَا قِيلَ : يَسُرّ الْفَتَى طُول السَّلَامَة وَالْبَقَا فَكَيْف تَرَى طُول السَّلَامَة يَفْعَل يَرُدّ الْفَتَى بَعْد اِعْتِدَال وَصِحَّة يَنُوء إِذَا رَامَ الْقِيَام وَيُحْمَل . ابن حجر فتح الباري 18/219 .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ.قَالَ : فَمَاذَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.أخرجه أحمد 3/119(12224) و\"أبو داود\" 521 والتِّرْمِذِيّ\" 212 و3595 و\"النَّسائي\" ، في \"عمل اليوم والليلة\" 68.
قال منصور الفقيه:

رأيت البلاء كقطر السَّماء * * * وما تنبت الأرض من نامية

فلا تسألنّ: إذا ما سألت إلهك شيئاً سوى العافية
عن وهب قال رؤوس النعم ثلاثة فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها والثانية نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها . حلية الاولياء 4/68.
وقيل إن عابدا عبد الله تعالى خمسين سنة فأوحى الله إلى نبيهم: إني قد غفرت له، فأخبره ذلك النبي، فقال: أي رب، وأي ذنب تغفر لي ؟ فأمر عرقا في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يصل ليلته، ثم سكن العرق، فشكا ذلك إلى النبي، فقال: ما لاقيت من عرق ضرب علي في عنقي ثم سكن,فقال له النبي: إن الله يقول: إن عبادتك خمسين سنة ما تعدل سكون هذا العرق.البداية والنهاية 9/328.

2- نعمة الأمن من أجل وأعظم النعم :

إن كل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، حتى يكون تِكْأََةً لنهب الناهبين وتفريط المقصرين، فيذهب أقساماً بين أشتات المطامع والأهواء.
ومن أجل الأمن ـ عباد الله ـ جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة والحدود الرادعة تجاه كل مُخلٍ بالأمن كائنا من كان، بل وقطعت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّا كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرّة وصفهم للغير بالتخلف.
لذا حينما هبط الخليل إبراهيم عليه السلام إلى وادي مكة كان من أول دعائه \" { رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا } [ البقرة : 126 ] والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به ، وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال : الأمن أفضل ، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد .تفسير الرازي 9/260.
لذا فقد امتن الله تعالى على قريش بنعمة الأمن فقال : \" فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) سورة قريش.
فإذا ما اختل الأمن يتبدل الحال ولم يهنأ أحد براحة بال، فيلحق الناس الفزع في عبادتهم فتهجر المساجد ويمنع المسلم في إظهار شعائر دينه فقال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [يونس :83].
وباختلال الأمن تعاق سبل الدعوة، وينضب وصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيل العلم وملازمة العلماء، ولا توصل الأرحام، و يئنُ المريض فلا دواء، ولا طبيب، فتختل المعايش، وتهجر الديار، وتفارق الأوطان، وتتفرق الأُسر، وتنقض عهود ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسر طلب الرزق، وتتبدل طباع الخلق، فيظهر الكذب، ويلقى الشح، ويبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
وباختلال الأمن تقتل نفوس بريئة، وترمل نساء، وييتم أطفال.
وإذا سلبت نعمة الأمن؛ فشا الجهل، وشاع الظلم، وسلبت الممتلكات.
• إذا حلَّ الخوف أُذيق المجتمع لباس الجوع والخوف كما قال تعالى: { فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل:112]، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ \" سمى الله الجوع والخوف لباساً؛ لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس\".
والخوف يجلب الغم وهو قرين الحزن قال جلَّ وعلا: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40] .
يقول معاوية رضي الله عنه: \" إياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستئصال\".
ولو قلَّبت البصر في الآفاق؛ لوجدت الأمن ضرورة في كل شأن ولن تصل إلى غاية كمال أمر إلا بالأمن؛ بل لن تجد مجتمعاً ناهضاً وحبال الخوف تهز كيانه.
نعمة الأمن من نعم الله حقًّا حقيق بأن تُذكر ويذكَّرَ بها وأن يُحافظ عليها، قال سبحانه وتعالى: \" وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ \" [ الأنفال : 26].
ونعمة الأمن تقابل بالذِّكْر والشكر { فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 239].
وأخبرنا الله تعالى أن الأمن لمن عمل الصالحات، واستقام على سنن الهدى، وابتعد عن سبل الفساد والردى، قال تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ووعد المؤمنين الذين يقيمون شرعه ويقيمون على شريعته بالأمن في الأرض , قال سبحانه : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) سورة النور.
عَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله , عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله ,أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَلَ قَالَ اللهمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ رَبِّى وَرَبُّكَ الله. أخرجه أحمد 1/162(1397) والدارِمِي (1688) والتِّرْمِذِيّ\" 3451 .

3- المؤمن راض بما قسم الله له :
نعمة الرضا من أجل النعم وأوفاها وأعلاها , والرضا هو رضا العبد عن الله : بأن لا يكره ما يجري به قضاؤه ، ورضا الله عن العبد أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه .
والمسلم الحق هو من يسلم أموره كلها ويجعلها خالصة لله رب العالمين , حتى ترضى نفسه ويطمأن قلبه , قال تعالى : \" قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:162-164].
والمسلم الحق هو الذي يعجل إلى ربه ويفر إليه طالبا رضاه : \" وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) سورة طه.
عَنْ ثَوْبَانَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ. أخرجه التِّرْمِذِي (3389) .
قال معروف الكرخي: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل، فإن ذلك الذي يقربك إلى رضا مولاك، فقلت: وما ذلك العمل قال: دوام الطاعة لمولاك , وحرمة المسلمين، والنصيحة لهم (وفيات الأعيان 5/232).
فقلة الرضا سبب لتعاسة الإنسان في هذه الحياة , وسبب لهجوم الهموم والغموم عليه .
سئل الحسن البصري: من أين أتِي هذا الخلق؟ قال: \"من قِلَّة الرضا عن الله\"، قيل له: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: \"من قلّة المعرفة بالله\".
عن عبد الرحمن بن إبراهيم الفهري : عن أبيه قال : أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه : إذا أوتيت رزقا مني فلا تنظر إلى قلته ، ولكن انظر إلى من أهداه إليك ، وإذا نزلت بك بلية ، فلا تشكني إلى خلقي ، كما لا أشكوك إلى ملائكتي حين صعود مساوئك وفضائحك إلي. (المنتخب من كتاب الزهد والرقائق , للخطيب البغدادي 1/108.).
عن عبد الواحد بن زيد قال قلت للحسن يا أبا سعيد من أين أتى هذا الخلق قال من قلة الرضا عن الله قلت ومن أين أوتى قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله ( أبو حاتم البستي : روضة العقلاء 160).
قال غيلان بن جرير: من أعطي الرضا والتوكل والتفويض فقد كُفي.
قال ابن سعدان:

تقنَّع بما يكفيك والتمس الرِّضا * * * فإنَّك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنَّما * * * يكون الغنى والفقر من قبل الَّنفس

فالمؤمن إذا أُعطي رضي وإن لم يعط لم يسخط ولم يقنط , بل إذا أُبتلي وجد في البلاء منفعة , فحول البلايا إلى مزايا والمحن إلى منح ,فهو يعرف أن البلاء يجعل القلب قوياً؛لأن القلب إنما يستمد مادة حياته من البلاء.والعبد يوم القيامة يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، قال إبراهيم عليه السلام: { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . سورة : الشعراء:87-89.
قال أحدهم :

إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا * * * عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببليّة * * * على الناس تخفى والبلايا مواهب

قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة. قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بُني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري. مدارج السالكين : 2 / 227.
قال السفاريني في:( غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 2/421) : قالَ الْعُمَرِيُّ رَأَيْت الْبُهْلُولَ وَقَدْ دَلَّى رِجْلَهُ فِي قَبْرٍ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ , قُلْت أَنْتَ هَا هُنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ عِنْدَ قَوْمٍ لا يُؤْذُونِي , وَإِنْ غِبْت لا يَغْتَابُونِي .قُلْت لَهُ إنَّ السِّعْرَ قَدْ غَلا .قَالَ لَوْ بَلَغَتْ كُلُّ حَبَّةٍ بِمِثْقَالٍ لا أُبَالِي , نَعْبُدُهُ كَمَا أَمَرَنَا , وَيَرْزُقُنَا كَمَا وَعَدَنَا .
ثُمَّ أَنْشَدَ يَقُولُ رحمه الله تعالى :

أَفْنَيْت عُمُرَك فِيمَا لَسْت تُدْرِكُهُ * * *وَلا تَنَامُ عَنْ اللَّذَّاتِ عَيْنَاهُ
يَا مَنْ تَمَتَّعَ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا * * * يَقُولُ لِلَّهِ مَاذَا حِينَ يَلْقَاهُ

شَكَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ أَرْبَابَ الْبَصَائِرِ وَأَظْهَرَ شِدَّةَ اغْتِمَامِهِ بِهِ فَقَالَ لَهُ : أَيَسُرُّك أَنَّك أَعْمَى وَلَك عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ : أَيَسُرُّك أَنَّك أَخْرَسُ وَلَك عَشَرَةُ آلَافٍ ؟ قَالَ : لَا ، فَقَالَ : أَيَسُرُّك وَأَنْتَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلَك عِشْرُونَ أَلْفًا ؟ قَالَ : لَا ، فَقَالَ : أَيَسُرُّك أَنَّك مَجْنُونٌ وَلَك عَشَرَةُ آلَافٍ ؟ قَالَ : لَا ؛ فَقَالَ : أَمَّا تَسْتَحْيِي أَنْ تَشْكُوَ مَوْلَاك وَلَهُ عِنْدَك عُرُوضٌ بِخَمْسِينَ أَلْفًا . إحياء علوم الدين 4/124.
وهذا ابن الراوند الضال جلس على جسر بغداد فمرت خيل فقال لمن قالوا لعلى بن بلتق ثم مرت جواري فقال لمن قالوا لعلى بن بلتق ثم مر به غلام أشفق عليه فأعطاه رغيفا فقال الضال لعلى بن بلتق خيل وجواري وأنا أتسول رغيفا فرماه وظل يومه جائعا اجتمعت فيه خصال الحسد والغل وعدم الرضا بما قسمه الله فختم الله على قلبه فبعد أن كان من أهل السنة انتقل إلى المعتزلة ثم صار رافضيا ثم صار ملحدا ومات على ذلك .
امرأة تزوجت رجلا عنده ولد ماتت أمه -ومن عدم رضاها أشعلت فرن البيت يوما وألقت فيه الطفل فاحترق ثم قدر الله أن تنجب خمسة أولاد ولم تكن راضية هي تريد ستة مثل جارتها ويوما أشعلت الفرن وخرجت تنادى جارتها تساعدها أمام الفر ن تطايرت شرارة من الفرن فأمسكت بما في الغرفة ثم البيت صاحت النساء فهرع الناس للمساعدة في إطفاء الحريق ولما أخمدوها وجدوا الأولاد الخمسة قد احترقوا فوقفت المرأة مذهولة غير راضية تقول الناس تنسى وأنت لا تنسى واحد بخمسة – الناس تنسى وأنت لا تنسى واحد بخمسة .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: \"ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل.
وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: \"أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر\".
يقول الشاعر: محمد مصطفى حمام :

الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لي * * * ويُلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من النا سِ * * * لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد * * * بـهـا في العباد إلا القليلا

4- السعادة في الدنيا لأهل الإيمان :
تأمل – أيها الحبيب - تلك القصة التي أوردها القرآن الكريم عن قارون، حيث قال -سبحانه وتعالى-: \"فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ\" (القصص: من الآية79) في قمة سعادته، حتى إن قائلهم يقول: \"إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ\" (القصص: من الآية79). خرج في زينته فهو ذو حظ عظيم، كل هذا من أوهام السعادة، والنتيجة لكفره بأنعم الله كما يقول الله -سبحانه وتعالى-: \"فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ\" (القصص:81). أي سعادة هذه وأي نهاية!؟ .
وعلى هذا فقول أمية بن خلف، وأمثاله - يوم القيامة - \"مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ\" (الحاقة:28) لم يأت من فراغ.
فبئس المال الذي لا يغني عن صاحبه شيئا.
طبيبة تصرخ، تقول: خذوا شهاداتي وأعطوني زوجا!!! انظروا كيف تقول هذه الطبيبة، تصوروا، دكتورة في الطب، وربما كانت في نظر كثير من الناس \"سعيدة جدا\"، فـما دامت امرأة واستطاعت أن تكون دكتورة، بل وفي الطب أيضا.
لأن الطب - في نظر كثير من الناس - أعلى العلوم، وشهاداته أفضل الشهادات، وهذه نظرة خاطئة، إنما هذه نظرة الكثير من الناس، أن الإنسان إذا كان \"دكتورا\"، وفي الطب، فإنه يعيش في قمة السعادة.
إقرأوا ما تقوله هذه المرأة، حسب ما سطرت بقلمها، حيث جاء من ضمن كلامها: \"السابعة من صباح كل يوم، وقت يستفزني، يستمطر أدمعي، لماذا؟ أركب خلف السائق متوجهة صوب عيادتي [ثم تستدرك] بل مدفني، بل زنـزانتي\"، تعبر عن عيادتهـا التي طالما كافحت حتى تصل إليها، تعـبر عنها \"بالمدفن\" تعبر عنها \"بالزنـزانة\"، ثم تقول: \"وعندما أصل مثواي\" بدل أن تقول: أصل إلى مكتبي، ومقر سعادتي، تقول: أصل مثواي.
ويتواصل الحديث \"أجد النساء بأطفالهن ينتظرنني، وينظرن إلى معطفي الأبيض، وكأنه بردة حرير فارسية، هذا في نظر الناس، وهو في نظري لباس حداد لي!!!
[ثم تواصل قولها] أدخل عيادتي، أتقلد سماعتي وكأنها حبل مشنقة يلتف حول عنقي، العقد الثالث يستعد الآن لإكمال التفافه حول عنقي [أي: بلغت الثلاثين]، والتشاؤم ينتابني على المستقبل.
[أخـيرا تصرخ وتقول:] خذوا شهاداتي ومعاطفي، وكل مراجعي، وجالب السعادة الزائفة [تعني المال]، وأسمعوني كلمة \"ماما\".
ثم تقول هذه الأبيات:

لقد كـنت أرجـو أن يـقـال طبـيبـة * * * فقـد قيـل, فما نالني من مقالها
فقـل للتـي كـانت تـرى فـي قـدوة * * * هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
وكـل مناهـا بعــض طفـل تضمـه * * * فهـل ممكـن أن تشـتريه بمالها


والسعادة لها مصادر ومنابع لا يعرفها إلا كل مؤمن منها :

1- الإيمان بالله، والعمل الصالح:
يقول الله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: من الآية97) أي فلنحيينه حياة سعيدة.
وكلنا يريد الحياة الطيبة، فعلينا بالعمل الصالح مع الإيمان: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة: من الآية69).
وفي حديث أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \" عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد، إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيرا له \" [رواه مسلم 18/125].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد راحته ولذته في الصلاة والطاعة، كان يقول: \" أقم الصلاة يا بلال، أرحنا بالصلاة \" [رواه أحمد وأبو داود].
ويقول صلى الله عليه وسلم يقول: \" وجعلت قرة عيني في الصلاة \" [رواه أحمد والنسائي].
2- الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره:
فكله من الله - سبحانه وتعالى - فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
وهذه الصفة من أهم صفات السعداء، إذ لا يمكن أن تحصل السعادة إلا لمن يؤمن بالله، ومن الإيمان بالله الإيمان بقضائه وقدره، والرضا بقسمه، لأن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن ينتابه شيء من الهموم والمصائب، فإن لم يؤمن بالقضاء والقدر، هلك.
وهذا عروة بن الزبير- رحمه الله - أرادوا أن يقطعوا رجله، لأن فيها الآكلة (السرطان) فقالوا له: لابد أن نسقيك خمرا، لكي نستطيع أن نقطع رجلك بدون أن تحس بآلام القطع - خاصة أنهم بعد القطع سيضعونها في الزيت المغلي ليقف الدم - فماذا كان موقفه؟ لقد رفض وقال: لا، أيغفل قلبي عن ذكر الله!! فقالوا: إذن ماذا نفعل؟ قال: سأدلكم إلى طريقة أخرى، إذا قمت إلى الصلاة، فافعلوا ما تشاؤون، لأن قلبه - حينئذ - يتعلق بالله، فلا يحس بما يفعل به. وفعلا عندما كـبر مصليا، قطعوا رجله من فوق الركبة، ولم يتحرك، ولكن عندما وضعوا رجله في الزيت المغلي سقط مغشيا عليه، وفي الليل أفاق. فإذا بالناس يقولون له: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك. لقد مات ابنه في هذه الأثناء، فماذ قال؟ قال بكل تسليم وإيمان بالقضاء: \"الحمد لله، يا رب إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أعطيت وأبقيت\". سير أعلام النبلاء (4/430) , مختصر تاريخ دمشق 5/275. وفيات الأعيان 3/256 .
هذا هو الإيمان الصادق بالقضاء والقدر، ولكن أين أمثال هؤلاء التقاة الخاضعين لله، المسلمين لمشيئته، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35).

3- العلم الشرعي:
فالعلماء العارفون بالله هم السعداء.
كان أحمد بن طولون - أحد ولاة مصر - من أشد الظلمة، حتى قيل: إنه قتل ثمانية عشر ألف إنسان صبرا (أي يقطع عنه الطعام والشراب حتى يموت) وهذا أشد أنواع القتل، فذهب أبو الحسن الزاهد إلى أحمد بن طولون امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم \" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر \" [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة] وقال له: \"إنك ظلمت الرعية\"، وخـوفـه بالله - تعالى - فغضب ابن طولون غضبا شديدا، وأمر بأن يجوع أسد ثم يطلق على أبي الحسن!! يا له من موقف رهيب!! لكن نفس أبي الحسن الممتلئـة بالإيمان والثقة بالله، جعلت موقفه موقفا عجيبا.
عندما أطلقوا عليه الأسد أخذ يزأر، ويتقدم، ويتأخر، وأبو الحسن جالس لا يتحرك، ولا يبالي، والناس ينظرون إلى الموقف، بين باك وخائف على هذا العالم الورع.
وضعوا أمامه أسدا جائعا!! إنها معركة غير متكافئة!! ولكن ما الذي حدث؟ لقد تقدم الأسد وتأخر، وزأر، ثم سكت، ثم طأطأ رأسه، فقرب من أبي الحسن، فشمه، ثم انصرف عنه هادئا، ولم يمسسه بسوء.
وهنا تعجب الناس! وكبروا، وهللوا.
ولكن في القصة ما هو أعجب من ذلك.
لقد استدعى ابن طولون أبا الحسن، وقال له: قل لي بماذا كنت تفكر، والأسد عندك، وأنت لا تلتفت إليه، ولا تكترث به؟ فأجاب قائلا: إني كنت أفكر في لعاب الأسد - إن مسني - أهو طاهر أم نجس؟ قال له: ألم تخف الأسد؟ قال: لا، فإن الله قد كفاني ذلك.
هذه هي السعـادة الحقيقية، التي يورثهـا الإيمان والعلم النافع، هذا هو الانشراح الذي يبحث عنه كل الناس.
هذا الموقف الصلب من أبي الحسن يذكرنا بموقف الصحابي الجـليل خبيب بن عدي - رضي الله عنـه - عنـدمـا أسره المشركون، وقبل أن يقتلوه، سألوه: هل لك حاجة قبل أن تموت؟ فطلب منهم أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين، فأمهلوه فصلى ركعتين - وكان أول من سن الركعتين قبل القتل . وبعد الصلاة قال: والله لولا أني خشيت أن تظنوا أني جزع من القتل، لأطلت الصلاة.. فلما رفعوه ليصلبوه ويقطعوه، سألوه: أتحب أن محمدا مكانك وأنك بين أهلك؟ فقال: \"والله إني لا أحب أن يصاب محمد بشوكة بين أهله، وأنا في مكاني هذا\"!! انظر إلى قوة اليقين، وصلابة المؤمنين!! ثم قال رضي الله عنه \"اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا\".
وأنشد يقول:

ولسـت أبـالي حـين أقتل مسـلما * * * على أي جنب كان في الله مصرعي
ولســت بمبــد للعـدو تخشـعا * * * ولا جزعـا إني إلـى الله مرجعي
وذلـك فــي ذات الإلـه وإن يـشأ * * * يبارك علـى أوصـال شـلو ممزع

4- الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن:
قال تعالى :(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية28).
إن من داوم على ذكر الله يعش سعيدا مطمئن القلب. أما من أعرض عن ذكر الله، فهو من التعساء البؤساء. (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36).
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124).
(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر: من الآية22).
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْضَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : ذِكْرُ اللهِ. أخرجه أحمد 5/195(22045) و\"ابن ماجة\" 3790 و\"التِّرمِذي\"3377 .

5- انشراح الصدر وسلامته من الأدغال:
وفي القرآن الكريم آيات عديدة في مقام الانشراح، فقد حكى الله عن موسى - عليه الصلاة والسلام - قوله (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طـه: من الآية25).
وقال تعالى - ممتنا على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1).
وقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الأنعام: من الآية125).
ويقول - جل شأنه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر: من الآية22).
فانشراح الصدر وطلبه من علامات السعادة وصفات السعداء.

6- الإحسان إلى الناس:
وهذا أمر مجرب، ومشاهد، فإننا نجد الذي يحسن إلى الناس من أسعد الناس، ومن أكثرهم قبولا في الأرض.

7- النظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا وإلى من هو فوقك في أمور الآخرة:
كما ورد في التوجيه النبوي الكريم حين قال صلى الله عليه وسلم \" انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله \" [رواه مسلم].
هذا في أمور الدنيا، لأنك إذا تذكرت من هو دونك، علمت فضل الله عليك.
أما في أمور الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، لتدرك تقصيرك وتفريطك، لا تنظر إلى من هلك كيف هلك، ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا.

8- قصر الأمل وعدم التعلق بالدنيا، والاستعداد ليوم الرحيل:
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في كلمة جامعة مع أنها قصيرة: \"الحياة قصيرة. فلا تقصرها بالهم والأكدار\".
وهاك يا أخي هذه المحاورة القيمة التي دارت بين نفر، من المتخلين عن الدنيا، المتأهبين ليوم الرحيل.
جلس نفر من الصالحين يتذاكرون، ويتساءلون حول قصر الأمل.
فقيل لأحدهم: ما بلغ منك قصر الأمل؟ فقال: بلغ مني قصر الأمـل أنني إذا رفعت اللقمة إلى فمي، لا أدري أأتمكن من أكلها أم لا!! .
ولما سئل ثالثهم عن مبلغ قصر الأمل في نفسه. قال: بلغ مني قصر الأمل أني إذا خرج مني النفس، لا أدري أيرجع أم لا!! .

9- اليقين بأن سعادة المؤمن الحقيقية في الآخرة لا في الدنيا:
قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108).
وهنا قصة عجيبة لابن حجر العسقلاني - رحمه الله - خرج يوما بأبهته - وكان رئيس القضاة بمصر - فإذا برجل يهودي، في حالة رثة، فقال اليهودي: قف. فوقف ابن حجر. فقال له: كيف تفسر قول رسولكم: \" الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر \" وها أنت تراني في حالة رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن؟!.
فقال ابن حجر: أنت مع تعاستك وبؤسك تعد في جنة، لما ينتظرك في الآخرة من عذاب أليم - إن مت كافرا -.
وأنا مع هذه الأبهة - إن أدخلني الله الجنة - فهذا النعيم الدنيوي يعد سجنا بالمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنات. فقال: أكذلك؟ قال: نعم. فقال: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

10- مصاحبة الأخيار والرفقة الصالحة:
ولا يستطيع أحد أن ينكر أثر القرين على قرينه، فهو مشهود، ومجرب، وواضح من خلال الواقع، ومن خلال التاريخ.
ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم \" مثل الجليس الصـالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونـافخ الكير... \" [متفق عليه].

11- أن تعلم أن أذى الناس خير لك ووبال عليهم:
قال إبراهيم التيمي: \"إن الرجل ليظلمني، فأرحمه\".
ويروى أن ابن تيمية أساء إليه عدد من العلماء وعدد من الناس، وسجن في الإسكندرية.
فلما خرج، قيل له: أتريد أن تنتقم ممن أساء إليك؟ فقال: قد أحللت كل من ظلمني، وعفوت عنه\" أحلهم جميعا، لأنه يعلم أن ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة.
ويحكي الفضيل بن عياض - رحمه الله - أنه كان في الحرم، فجاء خراساني يبكي، فقال له: لماذا تبكي؟ قال: فقدت دنانير، فعلمت أنها سرقت فمني، فبكيت. قال: أتبكي من أجل الدنانير؟ قال: لا، لكني بكيت، لعلمي أني سأقف بين يدي الله أنا وهذا السارق، فرحمت السارق، فبكيت.
وبلغ أحد السلف أن رجلا اغتابه، فبحث عن هدية جميلة ومناسبة، ثم ذهب إلى الذي اغتابه، وقدم إليه الهدية. فسأله عن سبب الهدية. فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: \" من صنع لكم معروفا فكافئوه \" وإنك أهديت لي حسناتك، وليس عندي مكافأة لك إلا من الدنيا. سبحان الله!! .

12- الكلمة الطيبة، ودفع السيئة بالحسنة:
قال الله - تعالى -: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34).

13- الالتجاء إلى الله عزوجل وكثرة الدعاء: وقد كان ذلك من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم .
كان يقـول: \" اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري. وأصلع لي دنياي، التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي، التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر \" [رواه مسلم 17/40].
رزقنا الله وإياكم العفو والعافية في الدنيا والآخرة , وأدخلنا جنة الرضا , وجعلنا من الراضين بقضائه الصابرين على بلائه الشاكرين لنعمائه , وجعلنا من سعداء الدنيا والآخرة .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية