صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وقفات مع آيات الحج من سورة البقرة.. المجموعة الثالثة (٣)..!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


مع قلة آيات الحج في القرآن، غير أنها ملأى بالدروس المفيدة والعظات الرائعة، لمن تأمل ووقف واستوقف، ودقق واستنبط، وهنا وقفات:

ونظرتُ للحج العظيم فهالَني *** أنساكُه والذكر والتحنانُ ..!

الأولى: ( الحج أشهر معلومات ) دليل على وقت الحج، وأنه لا يصح في في غير عامه وموسمه المحدد من الباري تعالى ، وهي شوال وذو القعدة وذو الحج .
وكذلك قيل إن الإحرام إنما ينعقد في أشهره وموسمه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال : ( لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن من سنّة الحج أن يُحرم بالحج في أشهر الحج ) . قال ابن كثير في تفسيره: وهذا إسناد صحيح . ومن أحرم قبل موسمه لم يصح منه، وانقلب إحرامه عمرة على الصحيح والله أعلم .

الثانية : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق..) : أي ألزم على نفسه وأحرم بالحج أو العمرة، فوجب الامتثال والاستكمال، وعدم الخروج أو الانقطاع إلا بعذر .
وها هنا إشارة إلى شروط الحج وآدابه، من التباعد عن الرفث وهو الجماع ومقدماته، وعن ابن عمر رضي الله عنه يقول : ( الرفث إتيان النساء ، والتكلم بذلك : الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم) . والفسوق : وهو المعاصي بمختلف أنواعها، فلا جوارح عادية، ولا نظرات خاطفة، ولا حركات بائسة ، فالأجواء إيمانية، والمشاعر دفاقة بالعبادة والتوبة . ( ولا جدال): أي الخصومة والمراء بغير حق، سواء كان في المناسك وأحكامها، أو في الحج وصوابه كما كان يحصل في الجاهلية، أو النزاع في البيع والشراء والعلاقات بالناس ، فكله مذموم ومنتهك لروعة العبادة وجمالها، وأما الجدال العلمي لإحقاق حق ودفع باطل بآدابه فليس من ذلك الباب . قال في الحديث الصحيح:( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) . أأحح والقلب الحزين مواجعٌ*** ومخاصم لا يعتريه وقارُ...؟!

الثالثة : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ): لما حذّرهم الشرور والمعاصي، نبههم إلى الخيرات وفعلها، واهتبال الفرص وتحقيقها ، من حُسن العبادة، وفعل المعروف، واتباع السنن، وعظة الناس، والترفق بهم، ورحمة الضعفاء .

الرابعة: ( وتزودوا ): تنبيه على الزاد، وحمل الميرة من طعام ولباس وحاجيات ، تعين في السفر، وتسهل العبادة، وتريح البال، وأن لا يكون المسلم عائلاً على غيره، فقد تكاثرت الأحاديث في ذم المسألة ، قال صلى الله عليه وسلم:( لا يزال الرجل يسألُ الناس حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مُزعة لحم-أي قطعة- ) . ويروى عن عكرمة رحمه الله قال : ( إن ناسا كانوا يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : ( وتزودوا فإنّ خير الزاد التقوى ) .

الخامسة :( فإن خير الزاد التقوى ): أرشد إلى أعظم زاد، وأغلاه وأطيبه، وأن الزاد المادي لا يغني عن الزاد المعنوي، المؤثر في الحج، والنافع لصاحبه، والمؤنس لرفيقه، وهو تقوى الله ومراقبته في تلك المشاهد العظيمة .. قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً) .
وكلا الزادين مهمين، فالأول يمنع السؤال والشحاذة، والثاني يمنع الحرام والمجاسرة عليه ، قال تعالى:( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) والتقوى مقام خوف ومراقبة للواحد الأحد .

السادسة :(واتقونِ يا أولي الألباب ) : فكل من لديه مسكة من عقل، حمله عقله على الطاعة ومراقبة الله، وأن يؤثر التقوى على الهوى، والخشية على الشهوة، والجد على التكاسل والغفلة .

السابعة :(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ): نص صريح على جواز البيع والشراء في المناسك والانتفاع من منافعها وعوائدها ومغانمها كما قال في آية الحج: ( ليشهدوا منافع لهم ) ، وقد كانوا يتّجرون في الجاهلية في أسواقهم المشهورة ( عكاظ ومِجَنة وذو المجاز ) فلما جاء الإسلام خشوا الإثم ، فأنزل الله الآية، فعُرف منها الإباحة . فلا حرج بعدها للمحرم من أن يبيع ويتجر، ويسترزق مما أباحه الله، وفِي الأمثال الشعبية المشهورة ( حج وبيع مسابح )...!

الثامنة :( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله): بيان لمنسك عرفات وهو من أركان الحج لحديث ( الحج عرفةْ ) كما عند أبي داود في السنن . والإفاضة منها يقتضي الوقوف بها والمرور عليها، وهنالك المقام العظيم والدعاء المستديم، وموضع إقالة العثرات، وسكب العبرات ، ما ينبغي للحاج تضييعه أو التشاغل عنه.... والمعنى إذا خرجتم من عرفات قاصدين المشعر الحرام وهو المزدلفة، فاذكروا الله هنالك وعظّموه..!

التاسعة : قوله: ( عند المشعرِ الحرام ): يعني المزدلفة والذكر، والمبيت بها من واجبات الحج وقيل برُكنيته، ولا يصح ذلك، وتسمى ( جَمْع ) بفتح الجيم والسكون، وكذلك المشعر الحرام ، وهو موضع المسجد الحالي، وفِي أي مكان وقف الحاج، صحّ حجه، وتم نسكه لخديث( وقفتُ هنا وجَمْع كلها موقف ) .

العاشرة :( واذكروه كما هداكم ) أي لهدايتكم، وهو شعار الحج، كثرة الذكر والتلبية ( لبيك اللهم لبيك ) وهي نبْرُ الحاج وصدعه وعجّه وعجيجه، وقد صح حديث ( أفضل الحج: العَجّ والثَّج ). والسنة المكث في مزدلفة إلى الإسفار وصلاة الفجر فيها، ولا يدفع إلا الضعفة، وهنا خالف المشركين في عرفات ومزدلفة ، قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون:" أشرق ثَبير كيما نُغير" فأخر الله هذه، وقدم هذه...!

الحادية عشرة:( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) : بيان لمنته عليهم، وقد هداهم، وأرشدهم، وسلك بهم سبل الهدى والسعادة، وقد كانوا ضُلالا، يتيهون في الأرض، لا يعرفون دينا، ولا يحسنون حجاً..! فهم ضلال قبل هذا الدين وروعته، والإسلام وجماله، والشرائع واستقامتها...!

الثانية عشرة: ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ): إنكار على مشركي مكة، وقد خصّوا أنفسهم بخصائص، أو جعلوا مراسيم خاصة بهم، فلا يخرجون من الحرم، ويقفون بالمزدلفة دون عرفة لأنها خارج الحرم، ويقولون : "نحن أهل الله في بلدته ، وقطّان بيته" . فنهاهم الإسلام عن ذلك، وقال كونوا مع الناس .

الثالثة عشرة: ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ): استغفروه من ذنوبكم، وأصلحوا أحوالكم، وتجردوا من أوزاركم بكثرة التوبة والاستغفار ، وذلك في ختام العبادة، وهو ملائم لها، كما ورد في ختام الصلاة والانصراف منها، وفيه دفع لاغترار العبد وتواضعه، وهو ديدن العباد والصالحين، كما قال الصديق رضي الله عنه : علّمني دعاء أدعو به في صلاتي ؟ فقال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "الاستغفار هو طلب المغفرة، وهو من جنس الدعاء، والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب، ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا يتوب" .

الرابعة عشرة:( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا..): فيها تعظيم شأن الذكر والتعويل عليه مرة أخرى، وأنه زينة الحج وشعاره، وهل تطيب المناسك بلا ذكر وتدارك ..؟! وقال هنا:( كذكركم آباءكم ) أي كترداد الصغار وولعهم : أبه، أمه، وقيل: كانوا يلهجون في الموسم بمفاخر آبائهم، فنبههم إلى ما هو أولى وأعظم، ذكر الله وتمجيده .

الخامسة عشرة :( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا...): وهنا كشف لضمائر الحجاج وصنائعهم في المناسك، وكيف تعلق قلوبهم بالله والدار الآخرة...! وفيها بيان لأهمية الدعاء، وأن الحج موسم له، وظرف لنيل الإجابة، والدنو من الله تعالى، ولرسولنا الكريم وقفات دعائية معروفة . ولذلك كان الناس فريقين: دنيوي: همه المال والسعة وتوالي الأرزاق، وأخروي: يطمح إلى ما عند الله من الفوز بالجنة والنجاة من النيران،،! قال ابن عباس رضي الله عنهما : "كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف ، فيقولون : اللهم اجعله عامَ غيث وعام خصب، وعام ولاد حسن . لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا ، فأنزل الله فيهم الآية..."

السادسة عشرة : وفيها فضل الآخرة على الدنيا، وتدعو المؤمن إلى التوازن بين الأولى والآخرة، فلا حرج من سؤالات دنيوية، مع عدم إهمال الأخروية ، كما قال:( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفِي الآخرة حسنة ) .

السابعة عشرة : فضل هذا الدعاء الجامع، بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة ، وهو مما كان يعتني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الحسنة في الدنيا : تشمل كل مطلوب دنيوي ، من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع... وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات ، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة ،...!

الثامنة عشرة :( وقنا عذاب النار ) فلما سأل الجنة، ناسب أن يستعيذ بالله من النار وأخطارها، والوقاية تقتضي الحفظ من اسبابها، والعوامل المعينة على التباعد عن موجباتها ، وهو تأكيد لدخول الجنة مع الفائزين الأولين . ولذلك كان جزاء الدنيويين حرمان الحظ والنصيب ( فما له من خَلاق ) وجزاء الأخرويين( أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ).

التاسعة عشرة :( واذكروا الله في ايّام معدودات ): المراد به التكبير في أيام التشريقِ وهي آخر أيام الحج، والأصح أن المعلومات عشر ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريقِ، وفيها عملان للحجيج: المبيت ليالي منى، والرمي للجمار الثلاث، كل يوم (٢١) حصاة، ومجموعها بيوم العيد والتأخر (٧٠) سبعون حصاة. وصيغة التكبير ( الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد ) أو غيرها من الصيغ المنقولة عن السلف، وإلا فلا يثبت حديث مرفوع في هذا الباب، مما يدل على التوسعة .

العشرون : ( فمن تعجل في يوم فلا إثم عليه..): فيه بيان وقت انصراف الحجاج ، وجواز تعجلهم برمي يومين بعد العيد ، والتكبير مع كل حصاة، فإذا فرغ دعا عند الجمرتين الأوليين فقط، ثم انطلق إلى مكة ليطوف للوداع، وهو من واجبات الحج .

الحادية والعشرون:( ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ): فيها استحباب التأخر لثلاثة أيام التشريقِ ، لأنه أكمل وأقرب للتقوى، وهو هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد تأخر، زيادةً في العمل، وطلبا للتقوى، ثم خاطبهم بقوله تعالى :( واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) .

في الآية دليل على جواز الرمي نهارا أو ليلاً، لأنه ذكر الأيام وأطلق( فمن تعجل في يومين) ، ولَم يحدد بزوال أو غيره، فصح أن اليوم كله موضع للتعجل، وفيه تخفيف على الناس، لا سيما والأعداد كثيرة، والحشود متلاطمة، وإلزامهم كلهم بعد الزوال، يعطلهم ويؤخر مصالحهم، ويضاعف من إمكانية عدم الخروج من مِنى قبل مغيب شمس اليوم الثاني ، والله تعالى أعلم .

hamzah10000@outlook.com

١٤٤٠/١٢/٤هـ

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية