اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/hamza/316.htm?print_it=1

مفاتيح ضبط الصحيحين...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


ليس ثمة كتبٌ تنظر لها الأمة بإجلال بعد القرآن، شبه الصحيحين المباركين، للشيخين المبجلين البخاري ومسلم رحمهما الله، فتشوقها النفوس، وترنو لها العقول، ويمجدها العلماء، ويحتج بها الفقهاء، إذ قد حوت الصحاحَ علوا، والأحكام مكانا، والفضائل عنواناً والدرر إضاءةً، والجوهر لمعاناً وغلاءً.

ويتساءل طلاب العلم :
كيف حفظهما ووعيهما، والإحاطة بمقاصدهما، واستلهام العبر والفوائد منهما، ولعلنا هنا نعدد بعض المفاتيح العلمية المعينة على مغانم الصحيحين:


١/ البدءُ بالمختصرات :
لسهولتها وخفتها على الطلاب، قراءةً وانتهاء وفهماً واستيعاباً، ومن أحسنها مختصر الإمام الزَبيدي والمنذري رحمهما الله، اختصرا وهذبا ورتبا، وانتشر ذلك في الآفاق ، وقال الحافظ المزي رحمه الله في مقدمة كتابة تهذيب الكمال (1/147) في معرض حديثه عن كتب السنة :( وكان من أحسنها تصنيفا ، وأجودها تأليفا ، وأكثرها صوابا ، وأقلها خطأ ، وأعمها نفعا ، وأعودها فائدة ، وأعظمها بركة ، وأيسرها مؤونة ، وأحسنها قبولا عند الموافق والمخالف ، وأجلّها موقعا عند الخاصة والعامة: صحيح أَبِي عَبد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إسماعيل البخاري ، ثم صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري..).

٢/ تكرارهما مرات :
بحيث لا تقل عن ثلاث مرات، ولو جعلها خمسا فهو أجود وأحكم، فهما أبرك الكتب بعد القرآن، وأطيبها علما وروحا ونفعا، إذ لو جعلها منهجا ثابتا في حياته لطاب دهره، وشمخ علمه . قال الإمام الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ : " فرحم الله امرءا أقبل على شأنه ، وقصّر من لسانه ، وأقبل على تلاوة قرآنه ، وبكى على زمانه ، وأدمن النظر في الصحيحين ، وعبد الله قبل أن يبغته الأجل" .
وقال أيضا في السِّير : " فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله ، وبإدمان النظر في الصحيحين ، وسنن النسائي ، ورياض النواوي ، وأذكاره ، تفلح وتنجح " .
وقد عُرف أئمة أجلة بإدمانها وتكرارها، ومنهم ما قاله صاحب الصلة ابن بشكُوال رحمه الله قال: ( قرأتُ بخط بعض أصحابنا، أنه سمع أبا بكر بن عطية يذكر أنه كرَّر "صحيح البخاري" (٧٠٠) سبع مئة مرَّة). وسليمان بن عمر العلوي اليمني، مَرَّ على " صحيح البخاري"(١٥٠) مائة وخمسين مرة، ما بين قراءة، وسماعٍ، وإسماعٍ، ومُقابلة...).
ولا يداوي ضعف الحفظ شيء "كالإدمان القرائي"، وقد سئل الإمام البخاري رحمه الله، وهو الحافظ المشهور عن علاج النسيان فقال:" إدامة النظر " .
وكما قال بعضهم : أدمِ القراءةَ فيهما وعليهما... واستخرجِ المرجان والمكنونا..!
فلَترقَين مكانةً ذهبيةً... ولَتجنينَّ جواهراً وفنونا

٣/ تحشيتها بالفوائد :
من شروحات مختصرة وفوائد مبتسرة من الفتح والعمدة والإرشاد وشروحات مسلم، وحواشي بعض المعاصرين الملتذة ، كشروحات ابن باز والعثيمين والألباني والحويني والخضير والطريفي والسعد وأشباههم، ممن شرح أو حشى وعلق...!

٤/تجريد فرائدهما :
على هامش الكتاب، كالنصوص الجوامع، والحكم الروائع، والقصص النوادر، والفوائد النفائس . وهذا لهما ولغيرهما قال النووي رحمه الله : ( ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أيِّ فنٍّ كانت، بل يُبادِر إلى كتابتها، ثم يواظب على مطالعة ما كتبه...) . وبعد عدة محاولات مكررة، سيجد له "مختصرا" لأحدهما، وأنه امتلك ناصية الفائدة، ولديه الإفادة والتجاريب المفيدات، والتي قد تستدرك على المتقدم، فكم ترك الأول للأخر .

٥/ فهرسة نوادرهما : في كراس مستقل، وموضع معروف، يحيط بالكتاب إحاطة، ويوثق معانيه ورباطة، بحيث لا تذهب شاردة، ولا تختفي واردة، قد عُرفت وتُوجت، وجُمعت وقيدت...!

ومن يكن فهرسَ ذي الأسفارا..حاز ونال تلكمُ الأزهارا

٦/ وعي مكانة الشيخين : حديثيا وعلميا، وثناء الناس عليهما، وصفة كتابيهما صحةً وجودة وإتقاناً ومزايا، بمطالعة كتب المناهج كالحطة للشيخ صديق حسن خان رحمه الله، ومناهج المحدثين للشيخ المحدث سعد الحميد حفظه الله...! مع المغانم الحديثية ثم مغانم إسنادية في الكتابين، ويزيد البخاري بالبعد "الفقهي التراجمي" الذي أدهش الناس به، حتى قال بعضهم" فقه البخاري في تراجمه" وكُتبت فيه كتابات مشهورة لابن المنيّر وابن جماعة وابن رُشيد، وحلّل الحافظ في الفتح جلّها تقريبا رحم الله الجميع .

٧/ الرجوع للأصل الإسنادي :
وهما الكتابان الأصليان بعد التمرس على المختصرات ، فيجردهما، ويستكشف فوائدهما، وسيعاين عجائبها ودقة كتابيهما، وأنه لا غنى للطالب الحديثي عن الأصل والأساس ، ففيها نوادر وفوائد وأحكام خفيت عن بعض العلماء بسبب الاعتماد على المختصرات فقط...! وكم من عالم وداعية أنكر أحاديث في البخاري وهي مدونة محفوظة في الأصل ، أو قيل فيه" متفق عليه"، أو العكس، وهو خطأ فتنبه....!

٨/ وعيُ مجاميعهما المشتهرة:
التي اعتنت بجمعها وتقريبها، نحو كتابات الحميدي رحمه الله(٤٨٨)هـ في" الجمع بين الصحيحين " وامتاز بفهرسته وترتيبه وبيان الغريب، و" "الجمع بين الصحيحين" لابن الخراط الشيخ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله(٥٨٢)هـ، قال عنه الذهبي في السير" عمل الجمع بين الصحيحين بلا إسناد، على ترتيب مسلم، وأتقنه وجوده" . و " اللؤلؤ والمرجان" للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله(١٩٦٧)م. و"الجامع بين الصحيحين" للشيخ صالح الشامي، معاصر معروف بكتاباته الحديثية. و" زاد المسلم" لحبيب الشنقيطي وغيرها .

٩/ حفظ ما تيسر منهما:
فمن كان ذَا همة وعزمة، وانتفع بالتكرار التأسيسي والتأهيلي، ورغب في التدريس ونفع الناس، فعليه بالحفظ من خلال تجريد قصارها، وتكرير مختصرها وجوامعها، أو الاندراج في برامج حفظهما، "كحفاظ الوحيين"، برعاية الشيخ يحي اليحي وفقه الله وشبهها من البرامج الرائعات المبهجات . وليعلم أن الحفظ بوابة الإمامة والإتقان، ومفتاح الدرس والإفهام، ونافذة الإجادة والإحسان، وعلامة التصدر والإذعان ، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث وفد عبد القيس :( احْفَظُوهُ، وَأَخْبِرُوا بِهِ مَنْ وَرَاءَكُمْ ) مخرج في الصحيحين .

والمقوّمات المعينة على عملية الضبط فما يلي :


الإخلاص : قال الحافظ ابن الصلاح رحمه الله في المقدمة ( فأول ما عليه تحقيق الإخلاص، والحذر من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية‏، روينا عن ‏‏حماد بن سلمة‏‏ رضي الله عنه أنه قال‏:‏ من طلب الحديث لغير الله مُكر به ). أي لم يوفق فيه، وكان عاقبة أمره خسرا وضياعا، والله المستعان .

المواظبة : فلا تأجيل أو تسويف، ولا تراجع أو ملل..! وكما نهتم بأطعمتنا ومواعيدنا عليه أن نلتزم المواظبة، وندفع الأشغال والتكاسل، ونضحي لأجل الميراث النبوي وفقهه وضبطه .

الورد اليومي : وقد خصص مقال محدد لشرح هذه العملية والتزامها ، وينبغي أن يكون متوسطا يراعي الهمة والوقت، ويفسده الانقطاع والتساهل، وعند التعذر، فلا أبقى وأحسن من النزر اليسير ولو طال وكما قال الحديث في الصحيحين ( أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل ).

القراءة الجماعية : عبر زميل أو طلاب يتنافسون، ويشجع بعضهم بعضاً، وهذا يَحسن عند تراخي الهمم، أو طروء الكسل الفاني المحطّم، لا سيما عصرنا وما ينتاب الطلاب من انشغال وتواكل واضطراب وفوضوية في الطلب، ووجود الأعوان العلميون مما يعالج ذلك ويَحل مشكله، ويداوي علّته ..!

السماع المستديم : كما نعمد عند الاستماع القرآني لسورة يراد حفظها، فكذلك الأحاديث تُكرر مسموعة مضبوطة- وهي نعمة تيسرت هذه الأيام- لا سيما في السيارات، وتأمل آثار ذلك وحسن عاقبته..! مستحضرا فضل الله عليه، وسؤاله الفتح والإعانة، وأن يهديه ويسدده، ويفتح عليه أبواب المغاليق( وقال ربكم ادعوني أستجِب لكم ) سورة غافر .

التقييد الكتابي : لتجتمع الحواس إدراكاً وحفظا وتأملاً، فيرسخ المطلوب، ويفهم المرصود، وقد كان التقييد معروفا في الأزمنة السابقة، تنسخ الكتب بكاملها ، لانعدام المطابع وحاجة النساخ ، وعلاء الهمم . كما فعل الحافظ ابن القيادتين وحمه الله(٥٠٧)هـ فقد قال:" كتبت صحيح البخاري ومسلم وأبي داود سبع مرات بالوراقة، وسنن ابن ماجه عشر مرات ". وأبو الحسين اليونيني رحمه الله(٧٠٥)هـ " قابل صحيح البخاري في سنة واحدة وأسمعه إحدى عشرة مرة ".
والشيخ شهاب الدين البكري رحمه الله(٧٠٣)هـ " يكتب في اليوم ثلاث كراريس، وكتب " البخاري " ثماني مرات، ويقابله، ويجلده، ويبيع النسخة من ذلك بألف ونحوه، وكان نادرة وقته " .

الاختبار المرحلي: الدوري شهريا أو فصلياً، بحيث لا تطول المدة، ولا يستطاب المراح، فتنقضي الأشهر المعدودة، وهو لا يزال في المختصر، أو تنتهي السنة وهو في الصحيح المسند الأصل، فيتعكر المنهج، ويبتلي بالتسويف والتباطؤ ، والله المستعان . وهذا شكل من المحاسبة العلمية الرفيعة ( حاسبوا أنفسكم )، والعزوف عنها مفضٍ إلى التفريط، وعدم الالتزام ، وترجع حليمة إلى عادتها القديمة من التقصير والتراكمية المشؤومة ، ومن المستلطف الشعري هنا :

رجَعت (حليمةُ) للمكانِ الأولِ/ من منزلٍ أهدى لأسفلِ منزلِ
وتذكّرتْ طيبَ المقام وحُلوَه/ أو أنها خُدِعت بحبة فلفلِ
قد عزّ منها وجدُها وحنينُها/ فرأت لزاما أن تفيئ لأفضلِ ...!

ولذا لزم الحساب والتدقيق ومضاعفة التكليف والمعاقبة، بحيث تستشعر المواظبة واعتماد الإصرار، ولا تستمرئ التقصير والهوان على الدوام، والله الموفق .

١٤٤٠/١٢/١٩هـ

hamzah10000@outlook.com

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية