صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







معْركةُ القلَم...!(١)

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000



ولَجَ بعضُهم عالمَ الكتابة، وكأنه يخوض معركةً مع الباطل والتخلف والضياع والتفاهة، ولذلك هو دائما مشتعل العزم، عاقد الهمة، مشمّر السواعد ...!

يخوضها مسطِّرا روائع الحكمة، ولطائف الكلم، وأطايب المعاني، ونفائس الجُمل .

فثمة صراع فكري، وتخلف لغوي، وضحالة ثقافية، وجُلّها تعالج بالأقلام الروائع، والرماح السواند..!

وتخاض ليبقى العلم سيدا والقرطاس أساسياً، والكتاب إماماً، والمعرفة تاجا ، والفقه حاكما .

ويُخاض ليشهر الكتابة، ويغذي القراءة، ويوسع الاطلاع، وليقول للجموع : هلموا إلى علم وذكر، ومتاع وفكر، وغذاء ونَبْر، وتراث وفَسْر ..! فلا أطيبَ من علمٍ مكتوب، أو فكر ٍمسطور، أو جُمَل عميقة، لا مقطوعة ولا ممنوعة...!

وفِي القلم يقظةُ عقل، ونباهة إنسان ، ونماء وعي، ومحاربة للجهالة والخرافة. قال عبد الحميد رحمه الله ‏:‏ ‏( القلم شجرة ، ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر، لؤلؤهُ الحكمة‏ ) ‏‏.‏

وإذا تدفق رشّ على الحياة أمطارها ، وأمدها بحلو غيوثها، فأنبتت الزروع، وضاعت الربوع، فحصدنا الثمار، وجنينا الفواكه..!

فما أروع أن تدخره للفضائل، وتنشر به الحقائق، وتتباعد به عن الغوائل والرذائل ..!

يدحر بِه باطلًا، ويفري جهلا، ويعالج ضلالة، ويفك عقدة وتمردا عقليا ، فهو نبض القلب وحديث الروح، وترياق المواجع ..!

كم من قلمٍ نصر الحق، وأذاع الفائدة، وذبّ عن الشريعة، وصار سيفاً في المعارف، كالمهند في الملاحم والعواصف..!

إنْ رد أقنع، وإن ضرب أوجع، وإن حلّل أسمع، ولا تزال يضوع الأفنان ، ويرسم البيان، ويحاول إيقاظ الوسنان...! إن الكتابة إملاء بداخلِه...ركائزُ العقل فاكتب ما له ابتدرا..!

وكم من قلم استهان حِبرُه، واستذل خبرُه، فبات ذليلَ الحجة، خاين المحجة، بائعاً للعهد والمعرفة والميثاق، يسير ضد الضمير والوعي والواقعة. ( ن. والقلم وما يسطرون ).

كلُّ سطر أنت عنه مسؤول، وكل حرف وراءه شجون وعيون، فاتعظ وتفكر، ولا تخط إلا الخط الصحيح، والفكر المليح، والقول الرجيح .

قال الإمامُ ابن كثير رحمه الله: " وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْقَلَمِ﴾ الظَّاهِرُ أَنَّهُ جِنْسُ الْقَلَمِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَقَوْلِهِ ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٣ -٥] . فَهُوَ قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَنْبِيهٌ لِخَلْقِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ الَّتِي بِهَا تُنَالُ الْعُلُومُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: يَعْنِي: وَمَا يَكْتُبُونَ ) وقيل: قلم المقادير الذي كتب كل شيء .

وحينما تدرك أنه نعمةٌ إلهية، فإنك تسلك به مسالك التوقي، وتقفو به موارد الحيطة، فلا تقول إلا خيرا، ولا تنشر إلا طيبا مفيدا..!

وأما أقلامُ السفل والضَعة، فكم تسئ للمعرفة والقراءة والصحافة ، وتفسد العقل والذوق والأخلاق، ومع ذلك لا يقهرها إلا أقلامُ الحق والهدى والديانة ..! وها هنا معركة شريفة عالية البأس، يتحتم على الأقلام الواعية المحقة، خوضها ونصر شرائع الله تعالى( وجاهدهم بِه جهادًا كبيرا ) سورة الفرقان .

قال القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في القاضي البيساني رحمه الله(٥٩٦) : ( لا تظنوا أني فتحت البلاد بالعساكر ، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل) . وقد برز في الفصاحة والصناعة الإنشائية ، قال عنه العماد الأصفهانى: "رَبُ القلم والبيان واللسن اللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة".

لم يكن الأقلامُ تسلية عند أرباب الوعي والحق والمجالدة الفكرية، وهم يذبون عن الشريعة ، ويحمون الأخلاق، ويصونون العقول .

الكاتبُ اليوم كالمجاهد في المعركة، يثبّت المجاهدين، وينصر الفرسان، ويخرس الأعداء والمتخاذلين، ويحج المنافقين ويكسرهم ، قال صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه :( إنّ روحَ القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله ).

قال بعضُهم : وإذا انتضى قلماً ليخطبَ .. خلتَ في يمْناه نصْلا

كمْ ردّ عاديةَ الخطوبِ ... وكم أعزّ وكم أذلا
يجري فيؤمنُ خائِفاً ...ويصُبُّ في الأعداء نبْلا


ربَّ مقال، رفع اللهُ به حقا، وأزهق باطلا، وصاحبه لا يعرف، وشخصيته مجهولة، وليس له من المجد إلا ذلك القلم الغيور، واليَراع المسكوب..!

وتُعرف الأقلام قبل الشخوص والأجسام ، لا سيما والقلم حيّي، ومتخف، ويحب الانزاوء، بينما الدرس والكلام ، لا يستطيعه إلا القوي الجسور .

ولذلك عُرف علماء ومثقفون بأقلامهم وكتاباتهم، وشكرهم الناس، ولَم يُعرف لهم منصب ولا زاوية ولا مقام، إلا عبر ذلك اليراع المطيوب ..!

سادوا بأقلامِهم، وحكموا بعقولهم، واشتهروا بجميل عباراتهم وأخلاقهم.. ففي القلم خلق، وفيه نبض، وله إشعاع، واذا لم يشع النور والبدور والزهور، فما تعلم ولا تفقه، ولا تهذب...!

وتموتُ الفضلاءُ وتبقى أقلامهم بعدهم، تُحي ذكرهم، وتجري لهم ثناءً وحسنات، وهي من العلم الباقي بعد الوفاة ، والذكر الحسن للميت، قال في الحديث: ( أو علم يُنتفع به ).

فربّ علمٍ منتفع به، كان سببه ( القلم السيال ) علما وفكرا وطيبا، سواء كان مصنفات، أو مقالات، أو حِكما وتغريدات .

فالكلمة الرضوانية تُلقي بك في الجنة ، إذا صدقتها واحتسبتها، والكلمة السخطية تودي بصاحبها النار، إذا تجاسر فيها وتساهل ، وفِي الحديث قال عليه الصلاة والسلام :( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ).

وهذه الكلمة ربما كانت مقالا رائعا، أو مقالا خائبا، تكلفه صاحبه ليعز نفسه، ويرضي بها الجماهير ، فمن أحسن فله الرضا، ومن أساء فله السخط...! ‏قال ابن الجوزي رحمه الله : ( ربَّ كلمةٍ جرى بها اللسان، هلك بها الإنسان ).

القلمُ البارع يستهوي النفوس، ويجتذب الأفئدة، ويصنع الأعاجيب، ويفعل ما لا تفعله الأصوات والخطب أحيانا .

وهو كالنصيحة الهادئة، إذا لم يتشنج، أو يتجاوز آفاق الأدب والفضيلة، وكما أن السباب والبذاءة محرمة صوتا، فهي محرمة قلما وكتابة ( وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين ) سورة الانفطار ).

وحينما كان المقال في صحيفة ضيقة عتيقة، ولا يقرأه إلا طلابه،وقد يضيق عليه وينتشر من خلالها ، فقد بات الآن تغص به مواقع التواصل الاجتماعي، ويُقرأ في المشارق والمغارب، وينتشر انتشارا يقلق المنغلقين والضائقين ...!

ولَوَقعُ أقلامٍ لكم كمهندٍ... وكصارم متوثبِ الضربات ِ... يُضحي به الأقوام في هام العنا... ورؤوسُهم مغلولةُ الطلعاتِ

كلُّ الذين تصدروا وتسوّدوا...ما هالهم إلا صبيبُ دواةِ/ سأظل أضربُ باليراع كأنني...برق من الأنوار والآياتِ / وأُذلُّ حزبَ الكارهين لديننا... وأُذيقهم من كومة الصفَعاتِ...! والله الموفق .

hamzah10000@outlook.com
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية