اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/hasn/110.htm?print_it=1

من دفتر الإصلاح الإداري

محمد حسن يوسف

 
ذهب محمود إلى إحدى الجهات الحكومية ليستخرج ورقة متعلقة بسفره للخارج. بدأ محمود يومه مبكرا، وذهب إلى المصلحة الحكومية الكائنة في المجمع الإداري. كان يريد أن ينتهي من مهمته مسرعا، حتى يتمكن من إنهاء بقية الإجراءات المتعلقة بسفره. ذهب إلى مكتب الموظف المختص في تمام الساعة التاسعة صباحا، وطلب إنجاز الورقة التي يريدها.
لكن محمود فوجئ برد فعل الموظف أمامه الذي امتعض قائلا:
- استنى شوية على ما اخلص فطاري!!
كان محمود يظن أن مكان العمل لا يتسع لكي يتناول الموظفون فيه طعام إفطارهم. ظن أن الموظفين في المصالح الحكومية يذهبون لأداء العمل!! ونظرا لحرص محمود على استخراج ورقته بسرعة، فلم يشاغب مع هذا الموظف، واضطر للانتظار حتى يفرغ هذا الموظف من تناول طعامه!!
وتقدم محمود من الموظف بلهفة، وطلب منه إنجاز الورقة التي يريدها بالسرعة التي تكفي لتعويضه عن كل هذا الوقت الذي استغرقه في انتظاره حتى يفرغ من طعامه. وبدأ الموظف في العمل، ولكن تحت ضغط إلحاح محمود بسرعة إنجاز العمل، رفض إتمام استخراج الورقة، وقال لمحمود ببرود:
- خلاص كفاية كده النهاردة! فوت علينا بكرة!!
وهنا أسقط في يد محمود. لم يعد يدري ماذا يفعل. وأخيرا هداه تفكيره إلى أن أفضل شيء يفعله هو الذهاب لمدير هذا الموظف لكي يشكوه إليه. وهنا قصد محمود بخطوات مسرعة مكتب المدير، وأخذ يقص عليه ما فعله به هذا الموظف، وانتظاره له المدة الطويلة حتى فرغ من طعامه، ثم بعد ذلك رفض هذا الموظف لاستكمال استخراج الورقة المطلوبة!!
وهنا تعجب المدير من سلوك هذا الموظف، وبدأ في تهدئة محمود. ثم طلب الموظف المذكور، لكي يعلم منه حقيقة الأمر.

وجاء الموظف المذكور، ولما طلب منه المدير معرفة حقيقة الأمر، بدأ بالقول:
- يا فندم ده جاي يعلمنا شغلنا!! وكمان هو بيعاملنا زي ما نكون خدامين عنده!!! أليس نحن بشر مثله؟! أليس هناك طريقة أفضل للتعامل مع الناس؟! لماذا يشعر جميع المترددين علينا أنهم من طينة ونحن من طينة تانية؟!
وهنا تغيرت لهجة المدير وأسلوبه، وبدأ في الانتصار لموقف موظفه. بل وأخذ يؤيده فيما ذهب إليه. وفي النهاية طلب من محمود أن ينتظر إلى الغد كما طلب منه الموظف!!
أسقط في يد محمود، وأظلمت الدنيا في وجهه. كان يريد إنجاز مهمته بسرعة حتى يمضي في تنفيذ ارتباطاته. وجلس على أول مقعد صادفه يفكر فيما يفعله!!
وفجأة برقت عينيه، حين تذكر وسيم بيه، عضو مجلس الشعب عن دائرته. فهو يعرف هذا الرجل معرفة خاصة. قصد محمود مسرعا إلى مكتب وسيم بيه الخاص بخدمة أهالي دائرته، وطلب مقابلته على الفور.
قص محمود على وسيم بيه حكايته، وتعجب وسيم بيه كذلك من سلوك الموظف ومديره. ثم قال وسيم بيه:
- بالطبع لقد انتهى هذا اليوم، لذا انتظرني في الصباح حتى نذهب لمقابلة الموظف ومديره معا!!
وذهب محمود في الموعد المحدد، وانتظر وسيم بيه حتى ينتهي من مهمته. ولكن مرت الساعات بدون أن يظهر لوسيم بيه أي أثر، الأمر الذي أحبط محمود للغاية. وبعد يأس محمود من مجيء وسيم بيه، قرر أن يذهب إليه في مكتبه ثانية.

دخل محمود على وسيم بيه معاتبا، وقال له:
- لماذا لم تأت في الموعد المحدد؟
وأخذ وسيم بيه يعتذر لطبيعة الأعمال التي كان عليه إنجازها، ووعده ألا يتكرر هذا الأمر في الغد. ولذا اتفقا على تأجيل اللقاء الذي كان مقررا بينهما اليوم إلى صباح الغد.
وفي الموعد المحدد من صباح اليوم التالي، ذهب محمود في الموعد المتفق عليه، وأخذ ينتظر وسيم بيه مرة أخرى. ومرت الساعات تلو الساعات دون أن يظهر لوسيم بيه أي أثر. وبدأ اليأس يدب إلى قلب محمود. ثم قرر الذهاب مرة ثالثة إلى مكتب وسيم بيه.

وفي مكتب وسيم بيه، بدا محمود منفعلا للغاية بعد أن فاض به الكيل. وقال لوسيم بيه:

- أنت ليه ما جتش في الميعاد المحدد بيننا؟
وأخذ وسيم بيه يعتذر بنفس اعتذارات الأمس. ولكن محمود لم يستطع التحمل أكثر من ذلك، فانفجر في وجه وسيم بيه قائلا:
- ولكن كيف تجرؤ على ذلك؟ أنت ممثلي في مجلس الشعب، أنا الذي انتخبتك وأنا استطيع ألا انتخبك مرة أخرى لتخرج من مجلس الشعب.
وهنا بدأ وسيم بيه في الضحك. ثم نظر إلى محمود وكأنه طفلا صغيرا، وقال له:
- أنت لم تأت بي إلى مجلس الشعب، ولكن الذي جاء بي إلى المجلس هو الحزب الحاكم ووزارة الداخلية.

*****

تعتبر القصة السابقة نموذجا متكررا لما يحدث في الجهاز الإداري بهيئاته المختلفة مع المواطنين. ولذا يحسن بنا استخلاص بعض العبر من هذه القصة إذا أردنا لعجلة الإصلاح الإداري أن تمضي قدما إلى الأمام:

أولا: على المواطنين بالفعل أن يحسنوا التعامل مع موظفي الجهاز الإداري، وعدم النظرة إليهم على أنهم خدم لهم أو من طبقة أخرى. وهذه نقطة مهمة يتغافل عنها معظم المتعاملين مع الجهاز الإداري، ولكنها تعتبر نقطة البدء في إصلاح العلاقة بين الجهاز الإداري والمواطنين.

ثانيا: من أهم المبادئ الإدارية هي أن من الطبيعي أن يكون ولاء الشخص لمن جاء به إلى موقعه. فكيف يكون ولاء ممثلي الشعب للشعب، والشعب ليس له أي يد في اختيارهم؟! إن من الطبيعي أن يكون ولاء ممثلي الشعب للحزب الحاكم ووزارة الداخلية، وأن يعمل على إرضائهما، وأن يكون بعيدا تماما عن أبناء دائرته، بل وألا يفكر فيهم من الأساس.
في الدول الأوربية، لا يستطيع ممثل الشعب تجاهل أي طلب يأتيه من أحد أفراد دائرته، لأنه يعلم أن مستقبله مرهون بصوت هذا المواطن. فإذا لم يرض المواطن عن أداء ممثل دائرته، فإنه سيخسر صوته في الانتخابات التالية، وهذا ربما يؤدي لفقدان مقعده في البرلمان، وهذا ما لا يريده ممثل الشعب بالطبع.
إذا أردنا إصلاح بعضا من أوجه الخلل في جهازنا الإداري، فعلينا البدء بإصلاح نظم الانتخابات النيابية، بحيث تتم عن طريق أفراد الشعب بالفعل. في هذه الحالة سوف يتيقن النواب أن مصائرهم بأيدي أفراد دوائرهم، مما سيجعلهم يبذلون قصارى جهدهم لعلاج مشاكلهم. ومن هنا نكون قد بدأنا في إصلاح الجهاز الإداري المترهل لدينا!!

ثالثا: لابد من وجود رقابة فعالة لأداء الجهاز الإداري - باعتباره سلطة تنفيذية - من قبل السلطة التشريعية. ففي حالة تيقن أفراد الجهاز الإداري أن هناك رقابة مستمرة وفعالة عليهم من حين لآخر، فسوف يخشون الوقوع في الأخطاء المتكررة التي يقومون بها، بل وسوف يقومون بعملهم على أكمل وجه ممكن.

رابعا: لابد من تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، وألا يختفي هذا المبدأ من حياة الموظف. ذلك أن غياب هذا المبدأ من حياة الموظف – كما هو حادث الآن – جعله لا يتورع عن القيام بأي شيء يحلو له دون خشية أي شيء. فإذا عدنا إلى تطبيق هذا المبدأ مرة ثانية، وربطنا حوافز الموظف بسلوكياته وأدائه في عمله، لعاد الانضباط إلى الجهاز الإداري مرة أخرى وزال الترهل عنه.

خامسا: لابد أيضا من إعادة النظر في أجور موظفي الجهاز الإداري بالدولة، فضعف أجور موظفي هذا الجهاز وعدم استطاعته تلبية حاجاتهم اليومية المتعددة، بل وعجزه عن مسايرة الارتفاع الجنوني والمتوالي في الأسعار، كل ذلك جعل هؤلاء الموظفين يشعرون باليأس والإحباط، ومن ثم لم يعد بمقدورهم العطاء الفعال في وظائفهم.

سادسا: على المواطنين معرفة الإجراءات التي يجب عليهم إتباعها لاستخلاص الأوراق المطلوبة، ذلك أن جهل المواطنين بهذه الإجراءات يجعلهم ألعوبة في أيدي موظفي الجهاز الإداري. ولعل من الضروري على الدولة أن تقوم بإصدار دليل للتعامل مع الجهاز الإداري، يتم تحديثه أولا بأول، بحيث ينتهي التلاعب بالمواطنين ويتيسر لهم استخراج ما يريدونه من أوراق بالسرعة اللازمة.

14 من صفر عام 1429 من الهجرة ( الموافق 21 من فبراير عام 2008 ).
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية