صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قرأت لك

الدين في القرار الأمريكي
تأليف: محمد السماك
بيروت، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط:1، 1424هـ، 108 ص.

عرض وتحليل
محمد حسن يوسف

 
ما زال البعض منا ينظر إلى طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي على أنه صراع للحصول على قطعة أرض أو أنه صراع قائم على حواجز نفسية!! وأن العرب - والفلسطينيين خاصة - ضيّعوا فرصة عمرهم حينما لم يشاركوا في محادثات السلام التي عرضها عليهم السادات بعد زيارته غير المسبوقة إلى إسرائيل وما أعقب ذلك من محادثات سلام بين مصر وإسرائيل. وهذه نظرة قاصرة مبنية على ما يروجه أصحاب العقول القاصرة أو غير العارفين بحقائق الأمور. ولكن على الجميع أن يدرك تماما أن الصراع بين العرب وإسرائيل، الذي تطور الآن إلى صراع بين المسلمين من جانب وبين أصحاب الفكر الصهيوني من اليهود والمسيحيين من جانب آخر، إنما هو صراع وجود وليس صراع حدود.
فحينما تصطبغ الحروب بين الشعوب ببعد عقدي، تصبح أكثر شراسة وتهورا. ويكون النصر والغلبة لأصحاب العقيدة الأقوى في النفوس، وليس ضروريا الأصح في المضمون. ولا يمكن أن ينطفئ أوار تلك الحروب إلا إذا ظهرت عقيدة أقوى في نفوس الخصوم يقاومون بها أصحاب تلك العقيدة الزائفة.
وهذا الكتاب يوضح لنا كيف تطور دور الولايات المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي حُقّ له أن يسمى الآن بالصراع الإسلامي الصهيوني، لتقف في مؤازرة اليهود على طول الخط ضد جميع مصالح العرب والمسلمين. كما يوضح لنا الأسباب الكامنة وراء انتهاج الولايات المتحدة ذلك الخط، والبعد العقدي الذي أصبح يصبغ السياسة الخارجية الأمريكية بشأن هذا الصراع. وفيما يلي استعراض سريع لأهم فقرات هذا الكتاب:

الصهيونية الأمريكية بين السياسة واللاهوت
يعد ثيودور هرتزل أول من استعمل تعبير " الصهيونية المسيحية ". وكان تعريف الصهيوني المسيحي في ذلك الوقت يعني: " أنه المسيحي الذي يدعم الصهيونية ". ثم تطور هذا المعنى فيما بعد ليأخذ بعدا دينيا، وهو أن المسيحي الصهيوني هو: " إنسان مهتم بمساعدة الله لتحقيق نبوءاته من خلال الوجود العضوي لإسرائيل، بدلا من مساعدته على تحقيق برنامجه الإنجيلي من خلال جسد المسيح.
وتلتقي الحركتان، الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية، حول مشروع إعادة بناء الهيكل اليهودي في الموقع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى. والهدف المشترك الذي تعمل الحركتان على إنجازه هو تحقيق هيمنة يهودية كاملة على كل فلسطين ( الأرض الموعودة ) وخاصة على جبل الهيكل. وفي اعتقاد الصهيونية المسيحية " إن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تعميم البركة الإلهية على العالم كله، في الوقت الذي تقرّ الأمم وتتجاوب مع ما يقوم به الله في إسرائيل ومن خلالها ".

أدبيات الصهيونية المسيحية
تتمتع الحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة بحضور إعلامي قوي، حيث تملك وتشرف مباشرة على مائة محطة تلفزة، وعلى ألف محطة إذاعة. كما أنها تتمتع بانتشار واسع النطاق، حتى إنها تبدو أكثر الكنائس الأمريكية توسعا، إذ يعمل في ميدان التبشير 80 ألف قسيس. وفي حقبة الثمانينات وحدها تم إنشاء 250 مؤسسة وجمعية دينية أمريكية مؤيدة لإسرائيل في إطار برامج الصهيونية المسيحية.
وتعطي كتابات القساوسة المؤمنين بهذه الحركة فكرة كبيرة عن مدى تشددهم في ربط الفكر الديني بالموقف السياسي من إسرائيل ومن القضية الفلسطينية. ومن هذه العناوين: الثمانينات والعد العكسي لهرمجيدون – الطريق إلى المحرقة – المعركة الأخيرة – العرب والنفط وهرمجيدون – الحرب غير المقدسة والنفط والإسلام وهرمجيدون – إسرائيل مفتاح خلاص أمريكا – هرمجيدون والنفط وأزمة الشرق الأوسط – المأساة الأخيرة.

الترجمة السياسية لنظرية الألفية
تأثرت الصهيونية المسيحية بحركات ثلاث تنطلق جميعها من تفسيرات للنبوءات الدينية الواردة في التوراة. تهتم الحركة الأولى بقضية مؤشرات نهاية الزمن، وتهتم الحركة الثانية بقضية التقرب من اليهود من أجل المسيح، أما الحركة الثالثة فإن اهتمامها يتركز على الدفاع عن إسرائيل وعلى مباركتها.
ورغم تباين هذه الاهتمامات، بل وحتى تناقضها أحيانا، فإنها تلتقي أولا حول التأويل الحرفي للتوراة، وتلتقي ثانيا حول الإيمان بأن المستقبل الكارثي للإنسانية أمر مبرمج ومقرر إلهيا، وتلتقي ثالثا حول وجوب مساعدة اليهود على التجمع في فلسطين.

من الأمة المنتهية إلى شعب الله المختار
في العقيدة المسيحية، إن الأمة اليهودية انتهت بمجيء المسيح، وإن خروج اليهود من فلسطين كان عقابا لهم على صلب المسيح، وإن الحديث عن عودة اليهود من المنفى يشير إلى العودة من بابل على يد الإمبراطور الفارسي قورش. واعتبر القديس أوغسطين أن القدس هي مدينة العهد الجديد، وأن فلسطين هي إرث المسيح للمسيحيين.
غير أن حركة الإصلاح الديني، التي قامت في أوربا في عام 1523م، تبنت أسسا جديدة تقول بأن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم الأمة المفضلة على كل الأمم، وأن ثمة ميثاقا إلهيا يربط اليهود بفلسطين ( الأرض المقدسة )، وأنه ميثاق سرمدي أبدي بين الله والشعب اليهودي، كما تقول بربط الإيمان المسيحي بالعودة الثانية للمسيح بشرط قيام صهيون إسرائيلية في فلسطين.
في القرن التاسع عشر، حدث ما يمكن اعتباره الانشقاق الكبير بين منظّري الألفية. أخذ البريطانيون من لاهوتيي هذه الحركة بالرأي الذي يقول إن اليهود سوف يتحولون إلى المسيحية، وأنهم سوف يندمجون في الكنيسة قبل عودتهم إلى فلسطين، وأن هذه العودة سوف تتم كمسيحيين، وليس كيهود. أما الأمريكيون منهم فأخذوا بالرأي الذي يقول إن اليهود سيعودون إلى فلسطين كيهود وقبل تحولهم إلى المسيحية، وأنهم سيبقون حتى بعد التحول إلى المسيحية، وبعد العودة إلى فلسطين، منفصلين عن الكنيسة.
وكان جون نلسون داربي هو أهم لاهوتيو الفريق الأمريكي وأكثرهم تأثيرا، ويعتبر الأب الشرعي للحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة. ثم حمل لواء دعوته مجموعة من القساوسة، منهم دوايت مودي، الذي روّج لنظرية " اليهود شعب الله المختار "، وأنهم سوف يتحولون إلى المسيحية لدى عودة المسيح، وأن ذلك سوف يتم بمعزل عن الكنيسة. ومنهم وليم بلاكستون، الذي وضع في عام 1887م كتابا بعنوان " المسيح آتٍ "، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى 36 لغة، وفيه أكد على نظرية حق اليهود التوراتي في فلسطين وبأنهم سوف يزدهرون هناك.

بدايات الصهيونية المسيحية الأمريكية
تمكن بلاكستون من جمع توقيعات 413 شخصية مسيحية ويهودية أمريكية على مذكرة رُفعت إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت بنجامين هاريسون، تطالب بعقد مؤتمر دولي من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين.
وجاء في المذكرة: " لماذا لا تُعاد فلسطين إلى اليهود ثانية؟ فعلى أساس توزيع الله للأمم، فإن فلسطين هي وطنهم، إنها ملك لهم طُردوا منه بالقوة ... فلماذا لا تُبادر القوى الدولية، بموجب معاهدة برلين 1878م، التي أعطت بلغاريا للبلغار، وصربيا للصرب أن تعيد فلسطين إلى اليهود ".
وبعد قرن من الزمان، يأتي هول ليندسي ليتأثر بأفكار بلاكستون التي تفسر الأحداث السياسية في ضوء التأويلات التوراتية. وبلوّر أفكاره الخاصة في كتابه الواسع الانتشار " نهاية الكرة الأرضية العظيمة ".
غير أن القس سايروس سكوفيلد هو أشد قساوسة هذه الحركة تطرفا وأكثرهم تأثيرا بلا منازع، فقد وضع ما يُعرف باسم " إنجيل سكوفيلد المرجعي " في عام 1917. وقد أعيد طبع هذا الكتاب عدة مرات، وأصبح بمثابة العمود الفقري للفكر الأصولي للإنجيلية الصهيونية. ويستمد قساوسة هذه الحركة المعاصرين – أمثال بيل غراهام، وابنه فرانكلين، وجيري فولويل، وبات روبرتسون، وسواهم – أفكارهم التي يبنون عليها التزامهم الديني بإسرائيل، وبما يعتقدون أنه حقها التوراتي من النيل إلى الفرات!!
وهناك القس أرنو غيبيلين، الذي أرسى قواعد النظرية التي تقول إن التعاطف مع اليهود شيء، والإيمان بحتمية تدميرهم في معركة هرمجيدون شيء آخر. وبالتالي فإن دعم اليهود وتأييدهم ومساعدتهم لا يتم من أجل اليهود كيهود، إنما من أجل توفير الشروط اللازمة للعودة الثانية للمسيح.

الثابت والمتغير في النبوءات الدينية
شهدت الحركة الصهيونية المسيحية انحسارا واضحا في الفترة بين عامي 1918 و1948، وذلك عندما أعطت الولايات المتحدة الأولوية في سياستها الخارجية لمصالحها النفطية ولحاجتها الاستراتيجية لاحتواء النفوذ السوفيتي في العالم العربي.
وعند إعلان قيام إسرائيل في عام 1948، سادت المخاوف لدى الأمريكيين من تعرض مصالحهم في الدول العربية للإحباط والانهيار الكامل، وكذلك استثماراتهم النفطية. ومما لا شك فيه أنه لو تحققت تلك المخاوف في ذلك الوقت، أي لو أن رد الفعل العربي على قيام إسرائيل تحرك في اتجاه هذه المخاوف، لما تمادت الولايات المتحدة في الاستخفاف بالعالم العربي، ولما دعمت حروب التوسع التي شنّتها إسرائيل فيما بعد ( 1967 و1973 و1982 )، ولما غطت الجرائم التي ارتكبتها في فلسطين ولبنان ومصر ... ولما شنّت الحرب غير المبررة على العراق، واحتلته في مارس – أبريل 2003. ولكن الحق السائب يعلّم الدول الحرام!!
ثم غرقت الأصولية الإنجيلية الأمريكية بعد ذلك حتى أذنيها في المشروع الصهيوني " باعتباره تجسيدا للإرادة الإلهية. واعتمد المنطق اللاهوتي لقساوسة هذه الحركة على مبدأ أساسي، تحدد فيما يلي: " إن أرض فلسطين هي الأرض المقدسة، لأن الله جعل هذه الأرض ملكا لشعب مميّز من ذرية داود. ولذلك فإن كل من يحاول فصل شعبها عنها يتعرض لعقاب إلهي ". وقد وجد قساوسة هذه الحركة في احتلال إسرائيل للقدس علامة بارزة من العلامات الممهدة للعودة الثانية للمسيح. ولذلك قال كل من القس بيلي غراهام والقس نلسون بال: " إن سيطرة اليهود على القدس، لأول مرة منذ ألفي عام، يثير في نفس دارس الإنجيل قشعريرة روحانية ويجدد إيمانه بصحة وبصدقية كل ما ورد فيه ".

القرار السياسي الأمريكي والنبوءات التوراتية
لم تقتصر هذه المشاعر على القساوسة فقط، ولكنها غمرت سياسيين أيضا، بمن فيهم بعض رؤساء الولايات المتحدة. ولعل الرئيس رونالد ريجان كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين إيمانا والتزاما بعقيدة الصهيونية المسيحية. وكان يؤمن بنظرية هرمجيدون، وكان يقول: " إننا الجيل الذي سيرى هرمجيدون ". ولذلك فإن فترة رئاسته اُعتبرت الفترة الذهبية للصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة.
بهذه الخلفية العقدية، وافق ريجان في عام 1986 على قصف ليبيا لأنه اعتبرها " عدوا لله ". وعندما تمكن التحالف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي من إخراج القوات الفلسطينية من لبنان في عام 1982، اعتبر ريجان – في خطاب له – ذلك الإنجاز " مفخرة لأمريكا، لأننا معنيون بالبحث عن السلام في الشرق الأوسط، ليس كخيار إنما كالتزام ديني ".
وقد لعب ثلاثة من القساوسة دورا في صناعة القرار السياسي الأمريكي لم يلعبه أحد من قبل. منهم جيري فولويل، الذي يعتبر من أهم القساوسة الذين تأثروا بالاحتلال الإسرائيلي للقدس في عام 1967، وقاموا بإعطاء هذا الاحتلال معنى دينيا توراتيا.
ومنهم بات روبرتسون، الذي يعتبر واحدا من أقوى الشخصيات الأمريكية في الدوائر السياسية والدينية. وقد أنشأ في عام 1990 محطة تليفزيون سماها " المحطة العائلية "، بلغ عدد المشتركين فيها 63 مليونا. ويقول: " إنه ينتظر اللحظة التي ستتولى محطته نقل وقائع نزول المسيح فوق جبل الزيتون في القدس ".
أما ثالثهم فهو هول ليندسي. ويحدد ليندسي في كتابه نهاية الكرة الأرضية العظيمة الواسع الانتشار سيناريو نهاية الزمن، بقيام صهيون، ووقوع هرمجيدون، والعودة الثانية للمسيح، ومن ثم الألفية التي تسود العالم عدلا وسلاما. ويستند في ذلك إلى نبوءات توراتية يربط تفسيرها بوقائع سياسية معاصرة. ورغم أن هذه الوقائع تتغير باستمرار، فإن السيناريو ثابت.
على أن هذا المشهد المنتظر لن يتم في مفهوم الحركة الصهيونية المسيحية ما لم تتهود فلسطين كاملة، ولذلك فإن القس روبرتسون وجّه مذكرة إلى الكونجرس الأمريكي في أبريل 2002، دعا فيها إلى دعم إسرائيل بكل الوسائل ضد الإرهاب الفلسطيني ( أي: الانتفاضة الفلسطينية )!!!

موقع القدس وفلسطين
كانت القضية المطروحة للنقاش أمام المؤتمر السنوي للتحالف المسيحي في عام 2003 الذي ينظمه في واشنطن هي " إسرائيل والعرب ". وكانت القضية الأولى التي طُرحت أمام المؤتمر هي الترانسفير، أو توطين الفلسطينيين خارج إسرائيل. ولذلك اتخذ المؤتمر شعارا له ما ورد في الجزء 33 من التوراة، حيث ينسب إلى الله قوله لموسى إنه: " أعطى بني إسرائيل حق وراثة أرض كنعان "، وحيث يُنسب إليه قوله أيضا: " عليك بطرد كل سكان هذه الأرض ... وإذا لم تخرجهم جميعا أمامك، فإن الذين يبقون منهم سيكونون كالقش في عيونكم، وكالأشواك في خواصركم، وإنهم سوف ينغصون عليكم صفو حياتكم في الأرض التي تعيشون فيها ".
وقد تمحورت الخطب التي أُلقيت في هذا المؤتمر حول وجوب تحقيق الإرادة الإلهية بإقامة إسرائيل من النهر إلى البحر، على أن تكون دولة يهودية صافية لا يبقى فيها " قش في العيون وأشواك في الخواصر ".
إن خطورة هذه الحركة الدينية الأمريكية تكمن في أنها تجعل من السياسة الخارجية القائمة على أساس دعم إسرائيل ومحاربة أعدائها، الوجه الآخر للسياسة الداخلية. كما تكمن في الإيحاء بأن مساعدة إسرائيل هو واجب ديني على كل أمريكي ... وأن هذا الواجب يحتم القضاء على أعدائها!!!
إن العلاقة بين العمل السياسي – العسكري والإيمان الديني بهذه النبوءات، هي علاقة مباشرة، ذلك أن هذه الحركة الكنسية تُعلّم أتباعها أن من واجب الإنسان المؤمن أن يوظف كل إمكاناته وقدراته لتحقيق إرادة الله، على النحو الذي تحدده هذه الحركة الدينية، وأن الله يختار من الناس من يؤهلهم ويمكّنهم من القيام بهذا الدور المساعد لتحقيق الإرادة الإلهية. ولذلك كان الرئيس الأسبق ريجان يقول: إنه يتمنى أن يمنّ الله عليه بشرف كبس الزر النووي لتحقيق إرادة الله في وقوع هرمجيدون، ومن ثم بعودة المسيح. حتى إن الرئيس بوش نفسه يقول: إن الحرب على العراق هي " مهمة إلهية " يقوم بها من أجل عالم أفضل.
ما كان لتوظيف الدين في السياسة أن يتمتع بمصداقية مقدسة، وبالتزام شديد في الدوائر السياسية الأمريكية، لو لم يعمل لاهوتيو الحركة الصهيونية المسيحية على ربط الوقائع السياسية بالنبوءات التوراتية. وهذا أمر برع القس هول ليندسي في أدائه بفعالية كبيرة. فهو يقول مثلا: إن الحرب النهائية الكبرى سوف تشمل تركيا كجزء من المعسكر الإسلامي المتحالف مع روسيا ... وأن الأمم الكبرى التي يشير إليها الإنجيل هي ممالك الشرق ( الصين والهند وباكستان، وكلها أمم نووية ) وروسيا ( هاجوج ومأجوج ) وليبيا ومصر وإيران والعراق إلى ما هنالك ... ويقول القس دافيد بريكنز: إننا نعرف أن تدمير بابل، الذي ورد في الإصحاح 18، يعني تدمير العراق.

مؤسسات الحركة الصهيونية المسيحية
إن الانتقال بالإيمان من الروحي إلى الممارسة السياسية، يحتاج إلى جهود تقوم بها منظمات ومؤسسات متخصصة ومتفرغة، وهذا ما قامت وتقوم به الحركة الصهيونية المسيحية منفردة، وبالتعاون مع الحركة الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة. إن عدد المنظمات والجمعيات والمؤسسات التي تعمل في هذا الإطار كبير جدا وفعال جدا. ولعل أهم وأنشط مؤسستين تعملان في هذا المجال، هما: " اللجنة المسيحية الإسرائيلية للعلاقات العامة "، ويرمز لها اختصارا بالاسم " سيباك " لتكون على شاكلة الإيباك. والثانية هي " مؤسسة الائتلاف الوحدوي الوطني من أجل إسرائيل "، وتضم هذه المؤسسة 200 جمعية ومنظمة يهودية ومسيحية أمريكية، يبلغ مجموع أعضائها حوالي 40 مليون شخص.
ومن أهداف تلك المؤسسات دعم إسرائيل لدى المؤسسات الإعلامية والسياسية الأمريكية، والتشهير بأصحاب المواقف المعتدلة من السياسيين أو الصحفيين أو الكتّاب، ويُشهّر بكل من يرفع صوته ضد إسرائيل. وقد دفع بالفعل كثيرون من الشخصيات الأمريكية ثمن ذلك استبعادا وعزلا وتشويها.

علاقة الرئيس بوش بالصهيونية المسيحية
لم يكد يمر عام على تسلم الرئيس جورج بوش – الابن – مقاليد الرئاسة في البيت الأبيض، حتى تجمعت لديه ووفيه العوامل التالية:
العامل الأول: إيمانه والتزامه بعقيدة حركة الصهيونية المسيحية، الأمر الذي تجسّد في تقرّب قادة هذه الحركة منه.
العامل الثاني: نجاح المنظمات والمؤسسات والجمعيات التابعة لحركة الصهيونية المسيحية في تعزيز حضورها السياسي والإعلامي والديني، وتحولها إلى قوة انتخابية، وإلى قوة ضغط شديدة الفعالية والتأثير.
العامل الثالث: وقوع مأساة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، التي ألهبت مشاعر العداء ضد المسلمين والعرب.
تكاملت هذه العوامل الثلاثة في دفع الحركة الصهيونية المسيحية نحو مزيد من التطرف، وكان تطرّفها في هذه المرة مجلببا بشرعية الرئيس الأمريكي نفسه. ووجدت ثقافة كراهية الإسلام في هذه المأساة مرتعا رحبا للتعبير عن هذه الكراهية، ولتعميق وتوسيع انتشارها، ومن ثم لبناء القرار الأمريكي عليها.
من هنا فإن الحرب الأمريكية على العراق لم تكن حربا مسيحية على الإسلام، ولكنها كانت وجها متقدما من الحرب التي أرادتها الحركة الصهيونية بجناحيها اليهودي والمسيحي، والتي جعلت من إدارة الرئيس بوش حصنا لها ومخلبا.
من هذا المنطلق يمكن تفسير السياسة التي ينتهجها الرئيس الأمريكي بوش بأنها – على وصف الحاخام ياشيل إيكشتاين – " سياسة تنطلق من إيمانه العميق بمسيحيته، ومن تمييزه بين الشر والخير، وتصميمه على وجوب الوقوف في وجه الشر ومحاربته ... وبالتالي فإن مواقفه تعبّر عن قناعات شخصية، وليست مناورة سياسية ".

البعد الديني للحرب على العراق
قبل الحرب الأمريكية على العراق، صبّ قساوسة الصهيونية المسيحية جام غضبهم على الانتفاضة الفلسطينية، ووقفوا ضد أي تسوية سياسية انطلاقا من إيمانهم بأن السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط يتعارض مع مستلزمات العودة الثانية للمسيح، وفي مقدمتها حتمية معركة هرمجيدون.
ودعا القس والتر ريغانز إلى محاربة اتفاقي أوسلو وواي ريفر بحجة أن الاتفاقين يمنحان الشرعية " للطموحات " الفلسطينية في القدس وفي الضفة الغربية. وحذر من أن ذلك سوف يشكل الخطوة الأولى في مسيرة الفلسطينيين " الإرهابيين " نحو القضاء على إسرائيل. وحتى يعطي هذا الموقف السياسي خلفية دينية، أعلن القس ريغانز: " إن اتفاقات السلام هي خيانة لله ولنواياه نحو الشعب اليهودي ... فالسلام كاذب لأن جذوره تنطلق من الشيطان ". ويعرض القس كلارنس الأمر في غاية الوضوح، فيقول: " علينا أن نشجع الآخرين على فهم الخطط الإلهية وليس الخطط التي هي من صنع الإنسان في الأمم المتحدة، أو حتى في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي أو في أوسلو أو في واي ريفر ... الخ. إن الله بعيد عن أي مخطط يعرّض مدينة القدس للصراع، بما في ذلك منطقة جبل الهيكل وجبل الزيتون، وهو أبعد ما يكون عن إعطائها للعالم الإسلامي. إن المسيح لن يعود إلى مدينة إسلامية تدعى القدس، ولكنه سيعود إلى مدينة يهودية موحدة تدعى ( جروزالم ) ".

... وعلى الانتفاضة الفلسطينية: تلقي هذه الأفكار اللاهوتية للمسيحية الصهيونية الضوء على المواقف السياسية التي اتخذتها إدارة الرئيس بوش، والتي اتخذها الرئيس نفسه، من القضية الفلسطينية وانتفاضة الشعب الفلسطيني ضد اجتياح الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة، وارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ذلك أن تلك الجرائم، على بشاعتها، لم تكن لتحرك مشاعر إنسانية أو لتوقظ ضميرا معذبا، طالما أنها يُنظر إليها على أنها من أعمال تُرتكب باسم الله ومن أجل تحقيق برنامجه في الأرض المقدسة.
إن الأدبيات الدينية التي توظفها هذه الحركة الصهيونية المسيحية، تجعل من اليهود المؤتمنين على الخطة الإلهية التي يتحدد بمقتضاها مصير البشر جميعا، وتجعل من إقامة دولتهم المدخل الوحيد الذي لابد منه للعودة الثانية للمسيح، وهي العودة التي تحسم مصير صراع الإيمان والكفر، والتي تنتهي بانتصار المسيح وسيادته على العالم مدة ألف عام، ومن ثم تقوم الساعة.
في ضوء هذه الأدبيات الدينية، يمكن فهم خلفية الموقف الرسمي الأمريكي المعارض لمبدأ عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، والذي يشجّع في الوقت نفسه اليهود على الاستيطان في إسرائيل وفي بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة!!

الرئيس بوش ومصالح إسرائيل في الشرق الأوسط
كان وراء قرار الرئيس بوش بالحرب على العراق مصلحة إسرائيلية مباشرة بتحقيق المشروع الصهيوني بتقسيم المنطقة العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية، مما يؤمنّ لإسرائيل أمنا استراتيجيا على المدى البعيد.
وتعتقد إسرائيل أن الحرب على العراق تكرس أولا مقولتها بأن التوتر في الشرق الأوسط يعود إلى خلافات وصراعات عربية – عربية، وليس إلى الصراع العربي الإسرائيلي. وهي تأمل الآن أن تؤدي هذه الحرب إلى فرض أمر واقع جديد في المنطقة، بحيث تكون آخر حروب الشرق الأوسط. وفي اعتقاد إسرائيل أيضا أنها سوف تنعم بالسلام والاستقرار، ليس بسبب كسر شوكة العراق العسكرية فقط، إنما بسبب الوضع السياسي الذي سوف يترتب على ضرب وحدة العراق الوطنية، وإدخال شعوب المنطقة في حروب لا نهاية لها من التصفيات والانتقامات، على قاعدة التباينات الطائفية والمذهبية والعنصرية. وبذلك تكون إسرائيل قد استخدمت الأيدي الأمريكية - والبريطانية كذلك – من أجل نزع كل الأشواك التي تمكنّها من ابتلاع ثمرة " الصبير " الشرق أوسطية باطمئنان.
وإذا كانت مهمة القوات العسكرية الأمريكية هي البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق وتدميرها، فإن هؤلاء المبشرين يؤمنون بأن سلاح الدمار الشامل في العراق، الذي يجب تدميره، هو الإسلام الذي يتهمونه بأنه مصدر الفكر الإرهابي، والحافز على ارتكاب العمليات الإرهابية، كالتي جرت في الولايات المتحدة ( نيويورك وواشنطن ) – على حد زعمهم، وفي إسرائيل ( العمليات الاستشهادية ).

الصورة الجديدة للولايات المتحدة
لم تكن صورة الأمريكي في التاريخ بمثل بشاعة الصورة التي صنعتها إدارة الرئيس بوش، وفي ذلك ظلم للإنسان الأمريكي الذي عبّر عن حقيقة مشاعره وقناعاته من خلال المسيرات ضد الحرب، ومن خلال بيانات المجالس الكنسية الأمريكية التي اعتبرت الحرب خروجا على تعاليم المسيح وانتهاكا لقيمها.
لقد فتح الرئيس بوش النار ليس على العراق وحده، ولا على المشرق العربي وحده، ولكنه فتح النار على سمعة الولايات المتحدة وعلى هيبتها في العالم كله، حتى أن كل أمريكي أصبح هدفا مع وقف التنفيذ ... بعد أن كان قدوة ومثالا!!
إن القارئ للمفردات المستعملة في خطب وتصريحات الرئيس بوش حول قوة أمريكا العسكرية، وحول التهديدات الموجهة إلى الرئيس العراقي صدام حسين، ليجد أنها تشبه إلى حد بعيد المفردات التي استعملها هولاكو في القرن الثالث عشر في رسالة الإنذار التي وجهها إلى الملك قطز، ملك مصر في عهد المماليك.
ومن الطبيعي أن تؤدي هذه السياسة الاستعدائية، التي تقوم على قاعدة العقاب الجماعي، إلى توسيع دائرة الكراهية وتعميق مشاعر الحقد. حدث ذلك في الإمبراطوريات السابقة، كما يحدث في إمبراطورية اليوم. فالرئيس بوش يتساءل: لماذا يكرهوننا؟ وقد تعلّم الآن الإجابة من الإمبراطور الروماني كاليجوليا صاحب القول غير المأثور: " ليكرهوننا بقدر ما يخافوننا "!!!!

براءة المسيحية من الصهيونية المسيحية
مع ذلك فإن دراسة البيانات الرسمية التي صدرت عن الكنائس وعن المجالس الكنسية المختلفة في أوربا وكندا وأفريقيا واستراليا، بل وفي الولايات المتحدة، تكشف عن إدانة شديدة للكيفية التي خاضت بها الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب، محذرة – كما جاء مثلا في بيان لمجلس كنائس اسكتلندا – تعليقا على المجازر التي وقعت في أفغانستان، من " الرد على قتل الآلاف من الأبرياء بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء ".
كذلك فإن هذه البيانات تكشف عن رفض كامل للمبررات التي اختلقتها الولايات المتحدة لشنّ الحرب على العراق، وتؤكد على وصفها بأنها مبررات مفتعلة لتغطية قرار متخذ مسبقا.
ولا شك في أن البابا يوحنا بولس الثاني كان رائدا في الدفاع عن قيم وعن أخلاق المسيحية في تصديه القوي للحرب على العراق، وفي تعاطفه الصادق مع معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي.
لقد كان قادة المسيحية والمؤمنون بها في وادٍ، والمخططون للحرب على العراق والمتواطئون على الشعب الفلسطيني في وادٍ آخر. كان هدف هؤلاء- كما زعموا هم أنفسهم – " جرّ " يد الله لوقوع مأساة نهاية الزمن.
عندما أسقطت الولايات المتحدة قنبلتها النووية فوق هيروشيما، في نهاية الحرب العالمية الثانية، سئل صانع القنبلة روبرت أوبنهيمر ( الألماني الأصل ) عن شعوره. فأجاب، مرددا ما ورد في إحدى الأساطير الدينية الهندية، قائلا: " اليوم أصبحت أنا الموت ... مدمر العالم "!!

26 من صفر عام 1427 ( الموافق في تقويم النصارى 26 من مارس عام 2006 ).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية