اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/hogail/45.htm?print_it=1

التنويري.. وتشريع الزواج المثلي

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


ما رأيت أحدا أكثر ورعًا في نقد الليبراليين والدفاع عنهم وعن مبادئهم، والتماس الأعذار لهم في بواقعهم وطوامهم من التنويريين. لكن ورعهم هذا يتلاشى ويضمحل حين تكون السهام موجهة للسلفية والسلفيين.

وكم دافع التنويريون عمن يطعنون في الله تعالى، ويزرون بنبيه عليه الصلاة والسلام، وينتقصون الصحابة رضي الله عنهم، ويردون محكم الكتاب والسنة، والتمسوا لهم الأعذار، وتأولوا الكلام. وفي المقابل كم شنعوا على علماء السلفية ودعاتها، واتهموهم بأنهم يصدون عن دين الله تعالى، وأنهم منغلقون على ذواتهم، متقوقعون في مجتمعاتهم، يتغير العالم من حولهم وهم لا يتغيرون.

والليبرالي بل العلماني بل الملحد قد نالوا بغيتهم من التنويريين حين امتطوهم لمسخ الشريعة وتحريفها، وتعطيل أحكامها، لكن التنويريين لم ينالوا ممن امتطاهم شيئا سوى المدح في الصحف والفضائيات بما هو مذمة على وجه التحقيق، كمدحهم بأطروحاتهم الجديدة التي تتواءم مع الحضارة، وفتح الذرائع بدل غلقها، وتقديم سيادة الإنسان على سيادة الشريعة، والتخفف من أعباء الواجبات الثقيلة، وفتح أبواب الرخصة والتيسير بضوابط هلامية لا يمكن التقيد بها.

لقد كان هدف التنوير الإسلامي -إن صحت التسمية- جر الليبراليين إلى الإسلام، وإقناعهم بشريعته، وتقديم الإسلام في أطباق جميلة للغربيين ليقبلوا به، وترك الخطاب المتشنج الذي يدخل الناس النار، ويصمهم بالكفر والنفاق، وينفرهم من الدين. لكن الذي حصل هو أن الغربيين والليبراليين قد جروا التنويريين إلى مبادئهم، وأذابوهم فيهم، فصدق فيهم قول الشاعر اليساري الثوري أحمد مطر في خروج مصر من جامعة الدول العربية بعد كامب ديفد:
(وبعد عام وقعت حادثة مثيرة..
لم يرجع الثور ولكن ذهبت وراءه الحظيرة)

فلم يبق من حديث التنويريين عن الإسلام إلا جوانب الأخلاق والتربية، ونبذ العنف والتطرف، والتأكيد على الوسطية بمفهومها الليبرالي، والهروب بالحديث إلى بواطن النفس البشرية بدل الظاهر، والاهتمام باللب بدل القشور، وما بقي لب ولا قشور؛ فالإيمان إذا وقر في القلب صدقه العمل، وصلاح الباطن يؤدي ولا بد إلى صلاح الظاهر، فيا ليت أن التنويريين يراجعون حساباتهم الآن بعد هذه التجربة الطويلة المريرة التي لم يجنوا منها إلا بريق الإعلام، وزيف المظاهر.

وقبل سنوات كتب أحد التنويريين مقالا ينتقد فيه الخطاب السلفي المتشنج ضد القيم الغربية، وذكر في مقاله أن من يسمع دعاتنا وهم يتناولون الغرب -وهو لا يعرف الغرب- يخيل إليه أن الغربيين من يأسهم وشقائهم قد اجتمعوا على أسطح البنايات يريدون الانتحار، وأنهم عراة في الطرق يركب بعضهم بعضا، وأنهم لا يفيقون من سكرهم وعربدتهم أبدا... إلى آخر ما قال.

لا أعرف أحدا قال ذلك ممن ينتقد الغرب، حتى أشد التيارات السلفية انتقادا للغرب لم يقولوا ذلك. لكنه النفخ التنويري لتجميل صورة الغرب، والتقارب مع الليبرالي الغارق في الهيام بالأوربي، مقابل تشويه الخطاب السلفي بأي صورة كانت.

في الأسابيع القليلة الماضية تسارعت عدد من الدول الأوربية إلى الاعتراف الكامل بزواج المثليين من الرجال، والسحاقيات من النساء، بعد فوز هذا التوجه المنحرف بالتصويت عليه في البرلمانات الأوربية التي تمثل الشعوب، فأصبحت الممارسات الشاذة معترفا بها قانونا، ولأصحابها حقوق الزوجية من توثيق عقود الزواج وما يترتب عليها من حقوق وآثار حسب قوانين الأحوال الشخصية. أي: ممارسة الشذوذ قد انتقلت من كونها ممارسات يستحيا منها، ومنبوذة عند أكثر الشعوب الغربية إلى ممارسات معلنة يفاخر بها.

ومنذ عام 2000م بدأ زواج المثليين يأخذ إطاره القانوني في الدول النصرانية بدءًا بالدنمارك، وهولندا، فبلجيكا، وإسبانيا، وكندا، وجنوب أفريقيا، والنرويج، والسويد، والبرتغال، وآيسلندا، والأرجنتين، وأوروغواي، ونيوزلندا، والبرازيل، وبريطانيا وفرنسا. وبعض الولايات في أمريكا والمكسيك.

وإزاء هذا الانحطاط الغربي فإن من الليبراليين من يُعجب بحرية أوصلتهم إلى ذلك، وينادي بها مهما بلغت بأصحابها، وهم المبهورون بالغرب إلى حد الاستلاب الكامل، وعدم القدرة على التمييز، وقبول خير الغرب وشره، وحلوه ومره، وما يعاب منه وما يكره إلى أن يقبل قاذورات الغرب ونجاساته كما عبر بذلك أحد العلمانيين. ومن الليبراليين من بقي فيه شيء من شيم العرب، وأخلاق الآدميين فلا يقبل ذلك.. لكن ماذا عن التنويري الذي بقي فيه رائحة من دين الإسلام وأخلاقه وآدابه.. هل سيصر على أن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة، وهو يرى أن سيادة الأمة قد أوصلت الغرب إلى تشريع عمل قوم لوط، والاعتراف به رسميا في الأحوال الشخصية الغربية؟!

إن الإنسان خُلق ظلوما جهولا، ولن يقف ظلمه وجهله عند حد معين، بل سينحط إلى ما لا نهاية، وسلطان الفطرة أقوى في النفس البشرية من سلطان الشرع؛ فقد ينتهك الإنسان حكم الشرع ولا يخالف الفطرة، لكنه لن يخالف الفطرة إلا بانتهاك الشرع في الغالب، ورغم ذلك فإن الإنسان لما أعطي سلطة التشريع في الغرب دمر بتشريعه الفطرة السوية، وأباح المثلية الجنسية مع أن كبار الأطباء النفسيين في الغرب يعدون الشذوذ مرضا نفسيا أصيب به صاحبه، فمال إلى جنسه مخالفا فطرته..

هذا المرض النفسي، والانحطاط الخلقي صار مشروعا ومحمودا لما كانت السيادة للنفس البشرية، وليست للشرائع الربانية، علما بأن من أقر الشذوذ وشرعه هم صفوة المجتمعات الغربية من البرلمانيين والسياسيين، وليس سوقة الناس وأهل الجهالة منهم.. بل إن من البرلمانيين والسياسيين من أعلن مثليته على الملأ بعد تشريعه كوزير خارجية ألمانيا.

هذا ينقض مقولة سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة، ولا سيما إذا علمنا أن هذا الانحراف وصل بعض المسلمين في فرنسا، فراهب بوذي شاذ جنسيا يتبرع لجمعية المثليين المسلمين في فرنسا بمكان للصلاة فيه، يتسلمه رئيس جمعية المثليين المسلمين لودوفيك محمد زاهد، الذي يسوغ ذلك بأن أشكال المسلمين المثليين غير مقبولة في المساجد والمراكز الإسلامية؛ لأن أشكال المخنثين منهم تشبه النساء، وتأتي فكرة مسجد المثليين في فرنسا للحفاظ على حريتهم، وعدم مضايقتهم في مثليتهم، حسب قول هذا المنحرف، عامله الله تعالى بما يستحق.

وهذه الخطوة الخبيثة الجريئة هي محاولة لتطبيع المثلية بين المسلمين في فرنسا، سواء أراد هذا المنحرف ذلك أم أراده من يقفون خلفه.

على كل أردت بهذا أن أدلل على أن إعطاء السيادة للبشر دون الشريعة الربانية سيخلف مثليين، ومساجد يجتمع فيها من يستحلون عمل قوم لوط عليه السلام ولعنهم الله تعالى؛ لنعلم مدى انحراف فكرة سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة التي يتبناها التيار التنويري في بلاد المسلمين، ولنعلم أن التنويري حين ينزه الغرب عن قذارته ويسوغها له بالحرية؛ ليرضيه وليقترب من الليبرالية؛ فإنه لن يزيل القذر عن الحضارة الغربية بقدر ما يتلوث هو بهذا القذر، ويلوث به من معه من التنويريين.

السبت 22/7/1434هـ

 

إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية