اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khabab/42.htm?print_it=1

حول حقيقة الالتزام...شكلاً مضموناً

خبَّاب بن مروان الحمد


     بعض المستقيمين والملتزمين بالإسلام تحكمهم الرؤية الظاهريَّة مباشرة ؛ فيرون الالتزام بالدين قاصراً على بعض المظاهر الطيبة والجيدة ، ويرون ـ وقد يكون ذلك شعوراً  لا نطقاً ـ أنَّ الرجل إذا استكملها فقد استكمل الالتزام !
إنَّ ديننا الإسلامي وضَّح مفهوم الالتزام والاستقامة على الدين ، حتَّى لا يكون الالتزام التزاماً أجوف ، أو تديناً مغشوشاً ؛ فالالتزام مفهوم واسع وشامل، إنَّه لا يقصر الالتزام على مجرد إطلاق اللحية ـ وهو واجب ـ ولا يقصر الدين على تحريم إسبال الثياب وهو ـ محرَّم ـ .
     نعم ! إنَّ من الالتزام ، إطلاق اللحية ، وعدم إسبال الثياب للرجال ، وتغطية جميع جسم المرأة ؛ ووجهها من باب أولى ـ كما هو قول جمع من الفقهاء ـ، وترك الدخان بله تحريمه ... بيد أنَّ تعليق الالتزام والاستقامة على الدين بهذه المظاهر فقط وجعلها علامة فارقة بين الملتزمين وغيرهم هو الخطأ الجسيم!
     لا ريب أنَّ هناك من يوافق على هذا الرأي ، غير أنَّه في مجال التطبيق الواقعي تكون نظراته وأفكاره مختلفة عن قناعاته الفكريَّة ، ممَّا يسبِّب تنافراً بين الفكر والتطبيق ، وفصاماً بين العلم وواقع العمل !
     كم هم الذين اغترُّوا بمظهر شخص ما فأطلقوا عليه حكماً عاماً بالالتزام ، وحين تعاشره تجد أنَّ الالتزام كان التزماً ظاهراً ، يحتاج لأن يرقِّي التزامه وينقله من التزام المظاهر والظواهر ـ وهو أمر محمود ـ إلى تعزيزه بالتزام الجوهر والضمير.
     وعليه فمن الأهميَّة بمكان أن يكون مستوى تفكيرنا وحكمنا على الأشخاص والناس حكماً دقيقاً لا حكماً ظاهرياً ، كما أنَّه من المهم أن نوسِّع دائرة الالتزام ولا نضيِّقها على بعض الهيئات التي لا أخالف في أنَّها واجبة ؛ ولكنِّي أخالف في قصرها على الالتزام الظاهري فقط.
      وهناك أمورٌ قد يتهاون بها الملتزمون ، مع تعظيمهم لبعض الأخطاء والآثام الظاهرة التي قد لا تصل لدرجة الكبيرة . بيد أنَّ هناك تساهلاً في كبائر مجمع عليها كالغيبة ، والكذب ، والنميمة ، وأكل حقوق الناس ، والظلم للعمَّال ـ والتي قد يتهاون بها بعض الملتزمين ـ فهي كبائر فظيعة ، وفواحش شنيعة ، لم يخالف في توصيفها بأنَّها كبائرٌ أحد من العلماء.
     لقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ :(وذروا ظاهر الإثم وباطنه) والآية هنا تقضي بأهميَّة التخلق بخلق الإسلام ، والابتعاد عن الإثم ظاهراً وباطناً ، لأنَّنا قد نعتني بترك الإثم الظاهر لاطِّلاع الناس عليه ونقع فيما هو أشد منه من الإثم الباطن.
     ولقد نبَّه رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ على خطورة الانخداع بالمظاهر . فعن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: "مرَّ رجل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم  ـ فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس ؛ هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يشفع؛ فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم مر رجل آخر؛ فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين؛ هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله؛ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".رواه البخاري برقم:(6447) .
     وبيَّن ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أن الله ـ عز وجل ـ لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"( أخرجه مسلم).
     نعم ! لا شك بأنَّ الحكم على الناس يكون بالظاهر والله يتولَّى السرائر كما نطق بذلك فقهاء الإسلام ، ونصَّ عليه جمع من العلماء كابن تيمية والشاطبي والنووي وغيرهم. بل حكى الإمام ابن حجر الإجماع على ذلك فقال :"وكلُّهم أجمعوا على أنَّ أحكام الدنيا تجري على الظاهر والله يتولَّى السرائر"؟ ( فتح الباري :12/273).
     ولكن .. هل المراد بقاعدة :( الحكم على الناس بالظاهر) أنَّ الإنسان يتولَّى الحكم من أوَّل نظرة؟! كلاَّ ! فذلك لا يليق بأصحاب العقول الفطنة ، ومن المعلوم أنَّه : ما كلُّ بيضاء شحمة ، ولا كلُّ سوداء تمرة.
     ولو كانت نظرتنا بهذا الشكل لكان الخوارج الضُّلاَّل أولى الناس بأن يكونوا من أهل التقى والزهد والصلاح ؛ فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنهم :"تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم ) رواه البخاري (6532-6534). والأمر هنا واضح ؛ بأنَّ النظرة السطحيَّة لا ينبغي أن يؤخذ بها مباشرة وعلى الإطلاق ؛ فقد تستهوينا عبادة رجل، بيد أنَّه في مجال المعاملة مع إخوانه المسلمين قد يظلم ، وقد يكذب ويغش ، ويحلف اليمين الغموس !
     لقد اشتُهِرَ عن العبقري الصحابي الجليل عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه حين جاء شاهد يشهد عنده فقال له عمر : ائتِ بمن يعرِّفك ؛ فجاء برجل ، فقال له : هل تزكِّيه ؟ هل عرفته ؟ قال : نعم ، فقال عمر : وكيف عرفته ؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه ؟ قال : لا ؛ قال عمر : هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟ قال : لا ؛ فقال : هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال ؟ قال : لا ، فقال عمر بن الخطَّاب : فعلَّك رأيته في المسجد راكعاً ساجداً، فجئت تزكِّيه ؟! قال : نعم يا أمير المؤمنين ؛ فقال له عمر بن الخطاب : اذهب فأنت لا تعرفه ، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك ![1]
     ومن هنا نعلم علم اليقين خطورة الحذر من التزكية الظاهرة والنظرة السطحيَّة العابرة، التي نزكِّي بها فلان وعلاَّن ، من خلال نظرات عامَّة . وما الأخبار التي تأتينا أو نسمع بها من حالات الخصام الزوجي أو الطلاق من أناس كانت المرأة أو الرجل يحسب كلُّ أحد منهم الآخر أنَّه أو أنَّها من أهل الخير والبر والصلاح لمظهرهم الحسن ؛ بيد أنَّها حين تعاملت معه ، أو حين تعامل الرجل معها ، انكشفت حقائق ما كان مستوراً ، وبدت مكنونات قلبيهما تظهر وتبدو إلى أن حصل الشقاق والخلاف.
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه ، أنَّ رجلاً اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً وكان يُضحِك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جلده في الشراب ؛ فأُتِيَ به يوماً فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ! ما أكثر    ما يؤتى به ! فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تلعنوه ! فو الله ما علمت إلاَّ أنه يحب الله ورسوله). ـ أخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ برقم:(6398) ـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ معلقاً على هذا "...فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب ؛ لكونه يحب الله ورسوله ، مع أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن في الخمر عشرة : " لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها " ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعيَّن ، الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به ، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق . ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط ، وانتفاء موانع ) الفتاوى : (10/329_330).
كم من إنسان حين تراه تقول : الخير يقطر من لسانه وجانبيه ؛ فإذا عاشرته وعاملته عرفت أنَّه ليس كما رأيت ـ وللأسف ـ ! وصدق رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ حين قال عن زمن تختلف فيه مقاييس الناس في المدح والذم :"حتَّى يقال للرجل : ما أجلده ! ما أظرفه ! ما أعقله ! وما في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان) أخرجه البخاري برقم :(7086 )، ومسلم برقم :( 143).
     لقد كان علماؤنا ـ رحمهم الله ـ لا تخدعهم المظاهر كثيراً ؛ فقد تكون المظاهر مع رونقها خواءً ، وقد قيل : لا يخدعنّك منظر الروضة الغنَّاء إذا كان بعدها جهنم الحمراء ! ولقد كانوا يعرفون أنَّ الانطباع الأول غالباً لا يكون صحيحاً، والصواب هو عدم الاستعجال في الحكم على الأشخاص، أو الإعجاب بهم لمجرد نظرة عابرة ، وقد خاطب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بقوله :(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) [التوبة:55].
     بل حذَّر الله ـ عزَّ وجل ـ رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من الانبهار حين يرى المنافقين قائلاً له:(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) فحذَّره ـ سبحانه وتعالى ـ من الإعجاب بهؤلاء المنافقين وبأجسامهم وحلو كلامهم ومنطقهم .
     إنَّ من المهم أن تكون لنا نظرة متَّزنة في الحكم على الأشخاص ، والإعجاب بهم حين الرؤية الأولى المباشرة ، بل لا بدَّ من عَرْكِ هؤلاء بالمعاملة ، لتكوَّن الرؤية الصحيحة المنبعثة عن المعاشرة والمعاملة والمخالقة.
     إنَّ من أعظم السلبيات ـ للأسف ـ التي نراها ظاهرة للعيان في بعض المجتمعات الملتزمة اهتمامَ كثير منهم بإصلاح الظاهر ، وخصوصاً لمن يدخل للتو في سلك الالتزام، وينتظم في سلك الصالحين ، مع أنَّ هذا الرجل بحاجة ماسَّة إلى إصلاح الباطن أولاً ، مع أهميَّة إصلاح الظاهر ولا شك ؛ ولكنَّ المنهج التربوي الصحيح يقضي بأهميَّة القيام بإصلاح القلب والباطن . ومن المؤكَّد حتماً أنَّه في حال إصلاح القلب سينعكس ذلك إيجابياً على ظاهر الشخص ؛ فيتأكَّد إذاً أهميَّة الاهتمام بالجوهر قبل المظهر . ومن المهم أن نعلم أنَّ المعاصي الباطنة أشد وأكبر ضرراً من المعاصي الظاهرة ؛ فمعاصي القلوب قد تكون أشدَّ ضرراً من معاصي الجوارح ، مع أن القرآن دعا لإصلاحهما معاً ، وترك ظاهر الإثم وباطنه ؛ حيث قال :(وذروا ظاهر الإثم وباطنه) قال ابن الأنباري ـ رحمه الله ـ : المعنى : ذروا الإثم من جميع جهاته.وقال ابن كثير عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ :( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) عن مجاهد قال : معصيته في السر والعلانية، وفي رواية عنه قال : هو ما ينوي مما هو عامل . وقال قتادة (وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) أي : قليله وكثيره، سره وعلانيته).
     وأخيراً : فهذه قصَّة تعكس ما تقدَّم من موضوعنا ، وتعطي ملمحاً مهمَّاً في النظرة إلى الأشخاص ؛ فقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري  ـ رحمه الله ـ ، في محاضرة له تحت عنوان :(تصحيح الإيمان) وحين فرغ الشيخ من المحاضرة انبرى أحد السائلين معترضاً على الشيخ الدوسري في استشهاده بكلام سيد قطب، مع أنه حليق لا لحية له ! فأجابه الشيخ الدوسري قائلاً له:" أنت تعالج الجرح والرأس مقطوع ، فإذا كان سيد قطب ـ رحمه الله ـ بلا شعر في لحيته؛ فهو صاحب إحساس وشعور، وإيمان ويقين، وعزة وكرامة، وغيرة على الإسلام والمسلمين؛ قدَّم روحه فداءً لدينه، واستشهد في سبيل الله طلباً لمرضاته، وطمعاً في جنته، وقال قولته المشهورة حين ساوموه ليرجع عن موقفه: "لماذا أسترحم؟ إن سُجِنتُ بحقٍ، فأنا أرضى حُكم الحق، وإن سُجِنتُ بباطل ؛ فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً يقر فيه حكمَ طاغية".
ثمَّ قال الشيخ الدوسري :هذا هو سيد قطب، فأين أصحاب الشَعْر بلا شعور من مواقف الرجال؟!"وصدق ـ رحمه الله ـ : فكم من إنسان ملتحٍ ليس له من خدمة الإسلام نصيب ! وكم من إنسان يظهر بأنَّه غير ملتزم إلاَّ أنَّ له دوراً كبيراً في خدمة دين الله ونصرته ، ورفع رايته ، فاللهم اجعلنا من الملتزمين بدينهم ظاهراً وباطناً ، واستعملنا في طاعتك ، ولا تردَّنا خائبين ، ولا عن بابك محرومين ..... آمين !

----------------------------
[1] أخرجه الخطيب البغدادي في الكفاية ، وقال ابن كثير : رواه البغوي بإسناد حسن ، وذكر ابن حجر أنَّ هذا الأثر صحَّحه أبو علي بن السكن ، بينما ضعَّف الأثر العقيلي في الضعفاء ، وقد خرَّج الشيخ الألباني طريقاً لهذا الأثر في إرواء الغليل(8/260) ومال إلى تصحيحه.

نشر هذا المقال في موقع الألوكة على هذ الرابط:
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=538


 

خباب الحمد