اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khalid/14.htm?print_it=1

بمنهج محمد بن عبدالوهاب استطاع عقلاء آل سعود تحويل القرية إلى دولة

خالد بن عبدالله الغليقة

 
الذين يغمزون منهج علماء نجد بالشدة في العقائد والتوحيد، ومثلهم إخوانهم الذين يلمزون فتاوى علماء السعودية بالاحتياط في الفقه والنوازل العصرية ينسون حين يغمزون التاريخ، ويتناسون حين يلمزون نتائج هذه الشدة، وآثار ذلك الاحتياط.
فالشدة استطاعت - بعد توفيق الله تعالى - توحيد أقطار متباعدة، وشعوب متناحرة، ومن نتائجها بعث جديد، ويقظة من نوم عميق للعالم الإسلامي بشكل عام، وللجزيرة العربية بصورة خاصة.
فلا ينكر هذا البعث وهذه اليقظة إلا مكابر أو مستكبر، فإنكار هذا البعث مثله إنكار نتائج بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجحد آثار هذه اليقظة كجحد آثار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى وصف منكري نتائج بعثة النبي موسى عليه الصلاة والسلام وجاحدي آثار رسالته بقوله: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل: 14]، فإن هذا الوصف من الله ينطبق على منكري نتائج دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وجاحدي آثار يقظته سواء بسواء؛ لأن الإمام محمد بن عبدالوهاب ما هو إلا مجدد من المجددين الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها](1)، ومحمد بن عبد الوهاب ما هو إلا وريث من الورثة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [العلماء ورثة الأنبياء](2).
لا يوجد عاقل فضلاً عن مسلم ينكر أن الإمام محمد بن عبدالوهاب استطاع توحيد أقطار متباعدة جدًّا، وتأليف قلوب شعوب متناحرة ومتباغضة جدًّا جدًّا. ويجحد أن محمد بن عبدالوهاب استطاع تحويل قرية الدرعية الصغيرة إلى إمارة لدولة كبيرة مترامية الأطراف، وتحويل عائلة نجدية عرف عقلاؤها وفضلاؤها بأن قوتهم وعزتهم وفلاحهم وسيطرتهم بالسير على منهج هذا الرجل، واستشارته في كل أمر ديني، واجتماعي، وسياسي، وعسكري فحَّولهم إلى ملوك أرهبوا الأعداء، وجعل منهم أمراء وحَّدوا البلاد، ورؤساء نشروا الأمن والاطمئنان بين الناس، وبثوا العدل بين الأجناس، وهذه الآثار ليست بغريبة، بل هي نتيجة وراثة العلماء لتركة الأنبياء الشرعية، وتلك النتائج التي حققها الإمام محمد بن عبد الوهاب في المجال السياسي والعسكري والأمني والاجتماعي ليست محض الصدفة بل هي أثر وراثة العلماء لتركة الأنبياء السياسية والعسكرية والاجتماعية والأمنية.

ومن يخالف في هذه التركة فقد خالف قوله تعالى عن شرعه المنزل:
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أبو ذر - t -: «ما من طائر يطير في الهواء إلا أعطانا منه علمًا»(3).
وكما قال ذاك اليهودي لسلمان الفارسي - t -: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة قال فقال أجل (4)، فمن السخرية بالشريعة أن يقال:، وأنها لم تنظم أولم تبال بالقضايا المصيرية كالسياسة والحرب والاجتماع والأمن.

ومن الاستهزاء والهزؤ بكتاب الله وسنة رسوله أن يقال إنهما اهتما بطير يطير في الهواء يرد الماء من دون حساب ويأكل من الشجر من دون ضريبة آمنًا في سربه، ومطمئنًا في وكره، ولم يرعيا اهتمامًا بإنسان يمشي على الأرض ليأكل من خيراتها من دون ضريبة ويرد الماء ليشرب من دون حساب، ولم يهتما برعاية وسيلة أمنه واطمئنانه مع أنه في الكتاب قوله سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }  [الإسراء: 70].
وفي الحديث المختلف في ثبوته قوله صلى الله عليه وسلم عندما نظر إلى الكعبة: [المؤمن أعظم حرمة من الكعبة](5)، وقوله: [ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم ريحك، والذي نفس محمد بيده حرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك](6).

ومن العيب أن يقر رجل نصراني كهرقل قيصر الروم بتركة الأنبياء السياسية والعسكرية عندما قال لأبي سفيان: "إن كان صحيحًا ما تقول عن هذا الرجل الذي ظهر فيكم فسيملك ما تحت قدمي هاتين"، وأكبر عيب أن يعترف شخص كافر كـ "برناردشو" بهذه التركة ومفعولها في إيجاد الوئام والسلام بين شعوب الأرض حيث قال: "إنَّ محمدًا أصلح العالم وهو جالس يشرب قهوة في المدينة" (7)، ويجحد هذا المفعول شخص من أتباع محمد ×، ويزدري المسلم بنفسه حين يقول: إن الشريعة لا تفي بحاجة الإنسان الاجتماعية والأمنية مع قول رجل يهودي كـ" صامويل هنتجتون": "لا آدم سميث ولا توماس جيفرسون سيفيان بالاحتياجات النفسية والعاطفية والأخلاقية للمهاجرين الجدد إلى المدينة، أو للجيل الأول من خريجي المدارس الثانوية، ولا المسيح سيفي بها على المدى البعيد، محمد سينتصر "، وهذه بعض الأدلة على تلك التركة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وقال سبحانه وتعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [نوح: 12].
 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66].
وقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97].
وقال تعالى:{ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16].

فبترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لهذه النصوص استطاع الأئمة من آل سعود أن يحكموا الجزيرة العربية بعد ما كانوا يحكمون قرية صغيرة تسمى الدرعية.
وبتفسير الشيخ محمد بن عبدالوهاب لهذه الآيات نشر الحكام من آل سعود الأمن في الجزيرة، والاطمئنان بين أهل الصحراء، وبفتاوى الشيخ محمد بن عبدالوهاب اقتص الأمراء من آل سعود للمظلوم الضعيف من الظالم القوي، وتآلف الناس بعد تنافر، وتجمعوا بعد شتات، وبفهم ابن عبدالوهاب قنع الناس بالمستوى المعيشي الذي كان السبب الأكبر للتناحر والتقاتل، وزهدوا بالمادة علة السلب والنهب. واسترخاص الدنيا.

فبهذا المنهج والفهم، وبتلك الفتاوى والترجمة والتفسير، وبذاك السبيل قامت الدولة السعودية الأولى، ونهضت الثانية، وكان أكبر إنجاز وحدوي في القرن الرابع عشر على يد الملك عبد العزيز بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء.
فكانت دولة وحيدة في انتشار الأمن في أرجائها، واطمئنان أهلها، وفريدة في رخائها وازدهارها، وما ذاك إلا بفهم وبتفسير وترجمة ومنهج وطريقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب المشوبة بالشدة والاحتياط كما زعموا، ومن سار على نهجه من العلماء إلى وقتنا الحاضر، وبإدراك وعقل وبعد نظر الإمام محمد بن سعود ومن سار على عقليته وإدراكه وبُعد نظره من أئمة آل سعود.

والخلاصة إذا كانت الشدة أقامت دولة من الصفر، وبنت ملكًا مجيدًا من إمارة صغيرة فهي وضع صحيح ليس بشاذ، وإذا كان الاحتياط من أكبر أسباب الأمن والأمان والسلامة والاطمئنان بين الناس فهو مسلك مطلوب فطرةً، وجادة مستقيمة عقلاً.
فالدول القوية المعاصرة من أكبر أسباب قوتها الشدة في ترسيخ هويتها في أفرادها، والاحتياط المبالغ فيه تجاه الدخيل على ثقافتها، إضافة للتعصب لمبادئها.
وما الطاقية التافهة والكوشر المقدس، وحائط المبكى عنا ببعيد، وأقرب من هذه التوافه اليهودية قول عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون: إن من أقوى عوامل السيطرة والاستمرارية (العصبية) .

وخلاصة الخلاصة: أن الحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها فهو أحق بها، فإذا كانت حاجات الإنسان الضرورية من أمن وأمان واطمئنان ورخاء في العيش، وعيش رغيد، وملك عادل لا تحصل إلا بالشدة المجربة في العقائد والتوحيد، ولا تتم إلا عن طريق الاحتياط المجرب تجاه الفقه، وإزاء كل دخيل، فمن الجهل البسيط عدم الأخذ بتلك الشدة، وتجنب ذاك الاحتياط، ومن الجهل المركب ترك الشدة والاحتياط معًا.

10/9/1421هـ


----------------------------------------------
(1) أخرجه أبو داود (4291)
(2) سبق تخريجه
(3) سبق تخريجه
(4) سبق تخريجه
(5) أخرجه الطبراني في الأوسط (5719) من رواية عبد الله بن عمرو
(6) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/37 رقم 10966)
(7) قوله جالس في المدينة غير صحيح بل جاهد في الله حق جهاده كما هو معلوم من سيرته صلى الله عليه وسلم.
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية