صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قراءة تحليلية لسيرة ومسيرة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -

خالد بن عبدالله الغليقة

 
( 1 )


صحيح أنه أعمى، لكن إذا عرضت مشكلة تجد المبصرين يبحثون عنه.
وصحيح أنه كفيف، لكن لا يكف - عند النازلة - ذوو العقول والأحلام في التنقيب عنه.
وصحيح أنه لا يرى لكن تجد من يرى لا يطمئن حتى يفتش عنه ويستفتيه، هو - الشيخ عبد العزيز بن باز - تفسيراً لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحـج: 46].
وسبب التفتيش والبحث والتنقيب ما يملكه - رحمه الله - من الإدراك، القوي للأمور، والأعمى يشترك مع البصير في قوة الإدراك، وقد يفوقه، كما قيل لبشار بن برد: إنك تأتي بالمعجب والتشبيه القريب مع أنك أعمى؟‍!
فقال: "عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل"(1).
بل هناك من يرى أن المشاهدة قد تكون في بعض الأحيان سبباً في عدم إتاحة المجال للتدبر والتفكر الهادف إلى تنمية ملكات العقل والإبداع، يقول: د/ ناجي حلواني: "لا يتيح التليفزيون مجالاً للتخيل، لأنه يشغل حواس المشاهد، ولا يسمح له بأن ُيحَلَّق في خياله، وذلك بعكس الراديو الذي يتيح للإنسان فرصة للتخيل، وكذلك الكتاب الذي يجعل القارئ يسبح في أحداث رواية من الروايات، فالمطلوب هنا الخيال الهادف إلى تنمية ملكات العقل في التخيل والإبداع، وإثارة التطلعات نحو حياة أفضل، والعمل الجاد على تحقيقها"(2).
ومَنْ تدبر حياةَ هذا الإمام، واستقرأَ أحوالَه تبين كيف كتب الله له أن يعيشَ محبوباً، وليس له أعداء مع تميزه على غيره ومخالفته لهم، وهذا من النادر جدًّا؛ لأن التميزَ سببٌ في خلق الأعداء وعلة للبغضاء،كما يقول الفيلسوف الفرنسي: " إذا أردتَ أن تخلق الأعداء فتميز على أصدقائك، وإذا أردتَ الأصدقاء فدعهم يتميزون عنك"(3).
وكيف استطاع ذلك مع أن المعاصرة سبب للمنافرة، وكيف استطاع أن يبقى متمسكاً بمبادئه لا يتنازل عنها مع شدة النوازل وقوة الأزمات فمن كان عنده قوة إدراك ولديه تدبر قوي كان باستطاعته إدارة الأزمات، ووصف دوائها.
فليست العبرة بالبصر والمشاهدة، بل العبرة بالإبصار القلبي، الذي هو محل الإدراك والتفكر العقليين في إدارة الأزمات وتشخيص القضايا وحلّ المعضلات، ووصف الدواء وتحضير العلاج.
والسمع كاف للإبصار القلبي لذلك كان من شروط النبوة، والعلماء ورثة الأنبياء.
قال الصفدي - رحمه الله -: " فضل كثير من العلماء السمعَ على البصر، وقالوا: إنَّ السمع شرط في النبوة بخلاف البصر، ولذلك لم يأت في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من كان أصم، وجاء فيهم من طرأ عليه العمى، وقالوا:بالسمع تصل نتائج العقول، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل.... قلت: ولا شك أن أدلة فضيلة السمع أقوى من أدلة فضيلة البصر" (4) ا هـ.
يقول العلامة محمد رشيد رضا - رحمه الله - بمعنى كلامه: " إنَّ كثيراً ممن ينظرون للقضايا، ويقومون بإدارة الأزمات - كالعلماء وفلاسفة السياسة والاقتصاد والاجتماع أناس منغلقون في غرف وقابعون في دور".
أي أنهم لم ينتقلوا إلى مسرح الأحداث، ولم يرحلوا إلى مواقع الأزمات، ولم يشاهدوها وجهاً لوجه، بل نقلت إليهم الأخبار،لذلك لم يكن الصحفي الذي يتنقل، ويرحل، ويشاهد هو المشخص للقضايا، والمخطط لإدارة الأزمات والأحداث، بل غيره أفضل منه، وله اعتبار أكبر،ولديه حلُُّ للقضية والمخرج من الأزمة.
فالإمام عبد العزيز بن باز كفيف لكن فهم القاصي أنه قادر على حل مشكلته، وعرف الداني أنه باستطاعته أن يرفع حرجه، وعرف مَنْ في الشرق والغرب أن لديه إدراكاً لحل الأزمة.

يقول د/ سعد الشويعر مستشار الشيخ: "المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عندما يختلفون في أمر وتكثر أمامهم الآراء يلجئون بالهاتف من أي أرض لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فيرضون بما يوجههم إليه، والجاليات الإسلامية في أنحاء المعمورة - رغم أنه لم يغادر المملكة طوال عمره - لا يحل قضاياهم، ولا يريح قلوبهم في أي أمر يريدون، ولا يبذل الجاه لبناء مساجدهم ومراكزهم أو يمدهم بالكتب إلا الشيخ عبد العزيز بن باز" (5).
يقول د/ عثمان الرواف: عندما كنتُ رئيساً لقسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود زارنا في القسم أستاذ السياسة في جامعة كونيز في كندا - باكستاني الأصل - فأبدى رغبة في زيارة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - .
قال الدكتور عثمان واصفاً الزيارة: فصوت رنين الهواتف العديدة الموجودة في مكتبه لا ينقطع ما دام الشيخ يعمل، ومساعدوه يردون على المخاطبين، ويطلبون منهم الانتظار حتى ينتهي الشيخ من مخاطبة المتحدث الآخر في المكالمة الأخرى، المسؤولون يسألون الشيخ عن قضية مهمة تواجههم، وعامة الناس يستفتونه في أمورهم الصغيرة والكبيرة، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء من المدن والقرى، من داخل المملكة وخارجها يستفتون مفتي المملكة، أو يكتبون إليه لكي يسألوه عن أمور عديدة متنوعة (6).
فكون الشخص لا يرى بسبب العمى أو بعلة الانغلاق في الدور لا يدل على عدم قدرته على إدارة الأزمات.
فما بالك بمن كان إدراكه القوي وقوة تدبره يفسر قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282].
ويشرح قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

 
( 2 )


ينقل الإمام أحمد قوله لأهل البدع والمخالفين: "بيننا وبينكم الجنائز"، في الحقيقة ليس التجمهر وحده حول الجنازة كافياً في صدق ذاك الميت في المجتمع، وليس التزاحم فقط حول تلك الجثة برهاناً على قوة مبادئ وصحة أفكار ذاك المتوفى، بل العبرة في نوعية المزاحمين، وإلى أي طبقة من المجتمع ينتمي المتجمهرون، فقد يتزاحم العامة وحدهم حول جنازة ما، وقد يتجمهر العامة وأمراؤهم فقط وهذه أعلى من التي قبلها، وأعلى منهما أن يتزاحم العامة ويتجمهر الأمراء ويلتف حولها العلماء.

ومثال ذلك جنازة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - .
فالعلماء هم أولى الناس بالدخول في حديث: «أنتم شهداء الله في أرضه» عندما مرت جنازة فأثنى عليها الصحابة - رضي الله عنهم - خيراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [وجبت] ومرت أخرى فأثنى عليها الصحابة شرًّا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [وجبت] ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [أنتم شهداء الله في أرضه] (7).
فالعلماء هم أول من يدخل في معنى هذا الحديث، وعليهم التعويل في الشهادة، ولذلك أشهدهم الله على وحدانيته فقال:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
فإذا التف العلماء حول جنازة ما فهم أصلُُ في صدق ذاك الميت، ودليل على صحة مبادئه، وعلامة على قوة أفكاره، وبرهان على استقامة منهجه، وطريق إلى متانة مسلكه، وإن لم نجعل العلماء الفارق بين الجنائز وإن لم نصيرهم قاعدة التمييز بين الجثث يختلط علينا جنازة الثرى بالثريا، وجنازة الصالح بالطالح، ولا نستطيع التمييز بين جنازة التبر من جنازة التبر.
وهذا الاختلاط في الجنائز يؤثر في بناء المجتمع بناءً قويًّا، وعدم التمييز يصعب عملية إقامة مجتمع سليم ومعافى من الآفات والأزمات والبلايا.
ومن أمثلة هذا الأمر ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة على من كان عليه دين - والعلماء ورثة الأنبياء - لماذا لم يصل عليه؟ لأن في موته وعليه دينُُ دليل على أنه لم يراع حق مجتمعه، وبرهان على عدم حرصه على إيفاء حقوق الآخرين - وإن كان هناك تفصيل - لكن هذا مؤشر من الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر، وأصل في قضية مهمة وهي (أنه يجب على مَنْ تولى أمراً من أمور المجتمع أن يكون صاحب ذمة، ويهتم بإبراء ذمته، وإيفاء حقوق الآخرين)، ولذلك تقول العامة: فلان ليس له ذمة، عندما يكرهون توليه أمراً من أمور المجتمع، وعندما يخشون أكل حقوقهم، وممن ورث هذا الأصل من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحاول توضيح هذا المؤشر في المجتمع سفيان الثوري - رحمه الله - فقد ترك الصلاة على بعض أهل البدع، بل كان يحضر في بعض الأحيان الجنازة فإذا أرادوا التكبير يخرج من بين الصفوف علانيةً، حتى يتبين للناس عدم استقامة منهج هذا الرجل، وأن مبادئه وأفكاره تهدم المجتمع.
وكما قلت أولاً: إنَّ العامة تقول عن بعض من كرهوا توليه أمراً من أمور المجتمع أو يخشون أن يأكل حقوقهم: (فلان ليس له ذمة)، ومع ذلك قد يتجمهر العامة حول جنازته، وقد تتزاحم حول جثته في الوقت الذي يترك التجمهرَ العلماءُ، ويدع التزاحمَ المشايخُ.
فالعبرة في التمييز بين الجنائز هم العلماء، والتعويل في ذلك على المشايخ.
ولذلك في الوقت الذي يسافر فيه العلماء إلى الحرم للصلاة على الشيخ عبد العزيز بن باز، ويتوافد المشايخ على المسجد الحرام للصلاة عليه، ويحرص على تشييعه هؤلاء العلماء - الذين هم شهداء الله في أرضه - أنفسهم يخرجون من الحرم، وينفرون من المسجد الحرام عند إعلان صلاة الغائب على بعض الناس!
لماذا خرجوا؟ لأنهم يعرفون عدم صدق ما تبناه؟! ولماذا نفروا؟
لأنهم يعرفون ضعف أفكاره، وخطرها على المجتمع، ويلاحظون عواقب مسلكه على المسلمين، ويملكون براهين على هشاشة مبادئه، وعندهم أدلة على ضعف منهجه، لابد أن هناك من عاتبهم على نفورهم من المسجد الحرام، وأنبهم على ترك الصلاة على الغائب، وعلة إنكار هؤلاء على العلماء أنهم لم يعرفوا، ولم يفهموا ولم يلاحظوا ما لاحظه وما عرفه وما فهمه العلماء، ولهذا لما لاحظوا ما لاحظه العلماء وعرفوا ما عرفه المشايخ، وقرأوا كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (في نبذ القومية العربية) وجدتهم في مقدمة من نثر،ومن أوائل من نظم في تأبين صاحب هذا الكتاب، ولما فهموا ما فهمه العلماء رأيتهم يكتبون في ذم القومية العربية،ويسعون لكشف الحقائق الصحيحة التي تخالف ظاهر الدعوة لدى زعيمها عبدالناصر، فمن ذلك وهو أمر بسيط يستطيع هذا الزعيم المزعوم أن يتمسك به ظاهراً، ولا يضره تمسكه به، أنه في نفس الوقت الذي يدعو فيه إلى القومية العربية إذا جلس مع خاصته أو جلس مع من لا يتقنون التحدث باللغة الإنجليزية تكلم بها متفاخراً بها ومتعالياً عليهم !
فأين العروبة في هذا الأمر الذي هو من السهل التمسك به؟!
ولا يفقده التمسك به لذة ولا منصباً ولا جاهاً، بل يزيده منصباً وجاهاً وشهرة.
فما بالك بما هو أكبر ويرتبط بالمنصب والجاه؟
فقد ترجم أحدهم من كتاب أحدهم وهو «ينابيع الذاكرة» تقول الترجمة: "أن عبد الناصر سأل حاكم دبي الشيخ راشد بن سعيد المكتوم - رحمهما الله - عند لقائهما في القاهرة سنة 1959م عن الإدارة الحكومية في دبي".
ردّ الشيخ راشد قائلاً: إن كل الخدمات الرئيسة تدار بمعرفة مسؤولين بريطانيين، كان جواب عبد الناصر، - كما يرويه عيسى - مفاجأة غريبة: (أشكرك لأنك أخبرتني الحقيقة، لديَّ ملفات عن هؤلاء، عليك الاحتفاظ بالإنجليز على الدوام، بوسعك أن تستند على أكتافهم، وأن تستخدمهم لتعليم الأولاد والشبان الانضباط، أنا لست ضد الإنجليز لا تسمع لما يقوله صوت العرب"(8).
وبهذا تعلم أنه ليس التجمهر وحده كافياً في صدق الميت المحمول مع مبادئه، وليس التزاحم على الجنازة وحده يبين استقامة مسلكه ومنهجه، وليس الالتفاف حول الجثة وحده قادراً على إقناعنا بصحة أفكاره، بل الذي يقنعنا بصحة أفكاره، ويزيدنا قناعة بصدقه مع مبادئه واستقامة منهجه ومسلكه هو نوعية المتجمهرين، وسمة المتزاحمين، وصفة الملتفين حول تلك الجنازة، وباعتبار النوعية، والسمة، والصفة نستطيع أن نعرف سرَّ خروج العلماء من الحرم في تاريخ 2/9/1970م، وسفرهم إليه وتوافدهم عليه في تاريخ 12/5/1999م!
 

( 3 )

الشيخ عبد العزيز بن باز كان تفسيراً لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فمن آيات الله قوله صلى الله عليه وسلم: [من تواضع لله رفعه](9) في الحقيقة شهد القاصي وأقر الداني على تواضع الشيخ ابن باز، وفي الحقيقة لا يوصف من لا يملك جاهاً بأنه متواضع، كما أنه لا يوصف شخص لا يملك دنيا بالزهد، ولا يوصف من لم يملك مالاً بأنه بخيل.
فشهادة القاصي وإقرار الداني على تواضع الشيخ لأنه يملك جاهاً عريضاً ظهر من خلاله التواضع ناصعاً، وسمعة واسعة اتضح منها التواضع جليًّا، ومنصباً رفيعاً بان منه التواضع ساطعاً.
وبما أن هذا الداني، وذاك القاصي يعلمان علماً يقيناً أن الشيخ لم ينل الجاه العريض بثراء مادي، ولم يكسب السمعة الواسعة بنسب، ولم يحصل على المنصب بشهادة.
ومع ذلك تجدهما يقرَّان بمنصبه، ويشهدان على جاهه، ويعترفان بسمعته.
فما سبب ذلك؟!
السبب هو أن الشيخ - رحمه الله - كان يملك يقيناً قويًّا، وعنده قوة يقين تجاه حديث: «من تواضع لله رفعه». وهذا اليقين القوي وقوة اليقين هي التي يفقدها الذين يبحثون عما يبحث عنه الشيخ - رحمه الله - من منصب رفيع ليتسنى لهم أمر الناس بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ومن جاه عريض ليستطيعوا به التوسل والشفاعة في أعمال الخير، وسمعة واسعة ليزاولوا بها تعليم الناس وإرشادهم.
فمن تدبر أحوال الشيخ في بداية حياته الوظيفية ومع الناس عرف بأن الشيخ يملك قوة يقين بأنه لا يمكن أن يطاع أمره بالمعروف، ولا يمكن أن يسمع نهيه عن المنكر إلا من طريق المنصب الرفيع، وأيقن بأنه لا ينال هذا المنصب الرفيع إلا عن طريق اليقين القوي بهذا الحديث وقوة يقين بذاك الأثر.
ومن استقرأ أفعاله في أوائل أيامه في التعليم والتوجيه علم بأن الشيخ جعل هذا الحديث - واليقين القوي به - نصب عينيه، وأنه لا يمكن تعليم الناس في أقصى الشرق، وإرشادهم في أقصى الغرب إلا عن طريق السمعة الواسعة، وأنه لا وسيلة إلى هذه السمعة إلا هذا الحديث واليقين فيه.
ومَنْ سبرَ أمورَ الشيخ في الخمسينيات والستينيات، وحوله مَنْ يريدُ الشفاعةَ والوسيلةَ وهو لم يملك الجاه العريض بعد، وقارنها بحاله قبل وفاته وهو ذو جاه عريض، وعريض الجاه أيقن بأن الشيخ نصب هذا الحديث واليقين فيه أمام ناظريه، وأنه لا يمكن الشفاعة لمن أرادها ولا الوسيلة لمن ابتغاها إلا بالجاه العريض، ولا يمكن الحصول على هذا الجاه إلا بسبيل اليقين بهذا الحديث.
فالشيخ عبد العزيز إمام في منصبه وجاهه وسمعته التي لولا توفيق الله له بالصبر على هذا الخُلُُق العظيم - التواضع - وتصبيره على امتثال اليقين بمفعوله لم ينل الإمامة، كما قال الإمام أحمد: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين وتلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
 

( 4 )

لا تنسجم أفعال الإنسان وأقواله إلا إذا حدد الهدف بدقة، ولا تتناسق سكناته مع حركاته إلا إذا اتضحت لـه الغاية غاية الوضوح، ومن ليس كذلك تجده متخبطاً، فتجد منه تواضعاً في محل كبر، وكبراً في محل تواضع، ومن لم يكن كذلك تجده يضع السيف في موضع الندى، ويضع الندى في موضع السيف.
في الحقيقة تذكرت هذا الأمر عند قراءة كتابات لبعض من عاشر الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في أول حياته، وفي وسطها، وفي آخرها، فتجد بعضهم يصفه بالتواضع في موضع المصلحة فيه التواضع، وآخر يصفه بالشدة في موضع لولاها لضاعت المصلحة، وهناك من يصفونه باللين الدافع لمفسدة متحققة لو استخدمت القوة.
وهذه الصفات تجدها مجتمعة في أول حياته، وفي وسطها، وفي آخرها، وهذا أمر صعب، وصعوبته تكمن في أول حياته، ووسطها وقت التنافس الشخصي، والتطلع إلى المادة، والبحث عن الذات، بخلاف آخر الحياة فالأمر يسير، لذا كتب الشاعر الرصافي إلى نوري السعيد قائلاً: "... أظنك لا تتهمني بشيء فيما قلتُ في هذه الأبيات، وأزيدك أنني اليوم واقف على شفير القبر أعيش آخر أيامي مجرداً من الأهل والسكن، ولا ولد لي أخشى ضياعه، ولا عقار أخاف انهدامه، فمن السفه أن أتكلم عن هوى أريده أو عن غاية خاصة أقصدها وإنما غايتي فيما أقوله المصلحة العامة"(10).
وقال الأستاذ عصام العطار: "...لم أذكر هنا ما ذكرته من حديثي مع الأستاذ على الطنطاوي للتفاخر، فقد جاوزت الآن السبعين من العمر..."(11).
وعوداً على بدء لم يكتمل هذا الجانب من شخصية الشيخ بهذا الأمر، بل هناك مكمل ومتمم يكمن فيه كون الهدف محدداً بدقة، ويتضح منه كون الغاية واضحة غاية الوضوح، وهو أن مَنْ يصف الشيخ باللين لا ينكر على من يصفه بالشدة، ومن ينعته بالتواضع لا يستنكر نعت الآخرين له بالحزم، بل تجد المخالط له يصفه باللين مرة، ومرة ينعته بعدم المرونة، ومع ذلك لا يرى في نفسه تناقضاً ولا في كلامه تعارضاً.
فهذا الانسجام التام في أفعال الشيخ وأقواله، وذاك التناسق الكامل لا يتأتى إلا لمن حددَ الهدفَ من حياته بدقة متناهية، واتضحت له الغاية من خلقه غاية الوضوح.
فكلما حُدد الهدف بدقة انسجمت هذه المعاني وحلت في موضعها، فلا الندى في محل السيف، ولا السيف في موضع الندى، وكلما كانت الغاية واضحةً تناسقت هذه الصفات،فلا تواضع في مكان لا تواضع فيه ولا كبر في محل التواضع.
وهذا الانسجام وذاك التناسق ليس بمقدور شخص يبحث عن ذاته في ملف المصلحة العامة، وليس بإمكان شخص يفتش عن حظوظ شخصية على حساب حظ الناس، وبعيدة هذه المعاني الكبيرة والحكمة في استخدامها، وتلك الصفات والحكمة في استعمالها عن إنسان ينقب عن المادة في أرضية العامة.
فالشيخ عبد العزيز أنكر ذاته أمام ما ينفع المسلمين، ونسي حظه الشخصي في غمرة حظ الناس، وذوَّب المادة على أرضية العامة.
لذلك انسجمت أفعاله طوال حياته مع أقواله، وتناسقت أقواله مع أفعاله، لذا فلا غرو أن تجد من لان معه الشيخ وعامله بالمرونة يناديه بـ(الوالد)، وفي نفس الوقت من استخدم معه الشيخ الشدة والحزم يصفه بـ(سماحة الوالد).
لأن هذا وذاك يعلمان أن الشيخ هدفه المحدد (الآخرة)، وأن غايته النهائية (المصلحة العامة)، فمثله ومثلهم كأب لأبناء - نسباً - لا يَشُكُّون في حبّ والدهم لمصلحتهم، ولا يرتابون في حرصه على منفعتهم.
يعجبك مَنْ يتمسك بمقولة: (الاعتراف بالحق فضيلة)، وبعبارة: (رحم الله رجلاً عرف قدر نفسه)، فهناك من لا يرى من نفسه الأهلية لمنصب (الأبوة) وعرف أنه التزام صعب بأخلاق صعب التمسك بها في جميع المقامات، وفي مختلف الأحوال، فتنازل عن هذا المنصب مشكوراً بقوله: "عندما كنت عميداً لكلية التجارة أقول للطلبة: لستم أبنائي فلي أولادي، ولكم آباؤكم، ولكن اعتبروني إذا استحققت ذلك - أخاً كبيراً - ولا أزال أقرر هذه لكل من يقرر أنني أبوه"(12).
إذًا فلا غضاضة بعد تنازله هذا أن لا تنسجم أفعاله مع أقواله، وأيضا لا غضاضة بأن لا تتناسق أقواله مع أفعاله.
حيث قال: استدركت على أبي عبد الرحمن بن عقيل جزئية من جزئيات محاضرته التي ألقاها في مؤتمر الطلبة الخليجيين في لندن - حيث قال أبو عبد الرحمن: "إنه لا يصدق ما يقوله العلماء المختصون: من أن بعض الصخور يرجع عمرها إلى ملايين السنين لأنه استنبط من القرآن أن عمر الأرض لا يزيد على خمسين ألف عام".
الاستدراك: أن مواهب أبي عبد الرحمن - وهي بفضل الله عديدة - لا تشمل علوم الجيولوجيا والكوزمولوجيا،وأنه من الخير له ولسائله أن يترك هذا الفن لأربابه..."(13).
 فمن الخطأ أن لا نقدر شخصاً قدَّر نفسه فتنازل عن منصب (الأبوة) مثل أن نخطئه في قوله عن كتاب «رفع الحرج في الشريعة الإسلامية» للشيخ صالح بن حميد ".... ما أبيح لنفسي في عجالة كهذه أن أناقش بحثاً موسعاً مفصلاً مثل هذا البحث"(14).
فلا نخطئه قائلين: كيف يستدرك على ابن عقيل دخوله في علوم ليست من تخصصه ؟مع أنه ارتكب ما ارتكبه ابن عقيل من دخوله في غير تخصصه - وذلك بمحاولة تقييم كتاب الشيخ صالح بن حميد لولا الانشغال وعدم التفرغ - . فكون استدراكه على ابن عقيل لا ينسجم مع قوله لا يؤاخذ عليه لأنه تنازل عن منصب (الأبوة) الذي يدعو إلى انسجام الأقوال مع الأفعال، وتناسق الأفعال مع الأقوال.
 

( 5 )


الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: الآية 13] وذلك بمعاملته للمسلمين من غير العرب، ويبين معناها برميه للعنصرية، ويشرحها بنبذه للعصبية لإقليم أو نسب أو لون.
فالشيخ - رحمه الله - يؤمن بأن الدين لم ينزل على العرب فقط،بل هو عام، ولم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم للون واحد بل إلى جميع الألوان، ولم يرسل لنسب واحد بل إلى كافة الأنساب.
فإيمان الشيخ بهذه القطعيات جعله يفهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].
ويفسرها بما تقدم، ويشرحها بما سبق، وبما أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الله أخذ على الأنبياء عهدًا بأن يبينوا هذا الدين للناس، فعلى هذا يجب على العلماء التبيين وتبليغ هذا الدين، فإيمان الشيخ بهذا الواجب أداه إلى أن يفهم بأنه لا يمكن تبليغ هذا الدين مع العنصرية، وأنه لا يستطيع أن يأمر بمعروف من في أقصى الشرق أو أن ينهي عن منكر من في أقصى الغرب مع العصبية.
وأثناء قراءة الشخص عن حياة الشيخ عبدالعزيز كأنه يسمع الشيخ ينادي بأن من أراد أن يكون وريثاً للنبي صلى الله عليه وسلم فليبين للناس هذا الدين، وليبلَّغ هذا الشرع لجميع الخلق، ومن أراد أن يقوم بهذه الوظيفة فعليه أن ينبذ العصبية التي تحجم العالم أو طالب العلم وعليه أن يرمي العنصرية التي تمنع الآخرين من قبول الحق لأنه مشوب بباطل، وكلما حرص العالم أو طالب العلم على تطهير أمره بالمعروف من نتن العصبية وتنظيف نهيه عن المنكر من قذر العنصرية صار إلى القبول أقرب وإلى القلوب أوصل.
فسبب تخلف بعض طلبة العلم عن وراثة النبي صلى الله عليه وسلم في التبيين والتبليغ:الإقليمية، وسبب الإقليمية العصبية والعنصرية، وسبب العنصرية والعصبية قلة توفيق من الله.
 

( 6 )

تشتمه فيتحرك لسان حاله بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وتسبه فيحرك لسان مقاله بقوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148].
فالشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كما أعرف ويعرف الشاتم يستطيع أن يرد الشتمة بمثلها، والشيخ كما أعرف ويعرف الساب قادر على أن يأخذ بثأره، لكنه - رحمه الله - لم يرد مع استطاعته ولم يأخذ مع قدرته، وهذه هندسة في علم الاجتماع وتكتيك في العلاقات، فليست غفلة كما يظن البعض، وليست بلاهة كما يعتقد آخرون.
فالشيخ لا يريد أن يهابه الناس فيتمنوا زواله، ويخافه المجتمع فيرجو إزاحته، بل يريد أن يحبوه فيتمنوا بقاءه، ويحترموه فيدعو له بطول العمر.
وقد نال الشيخ هذه المرتبة، وحاز على هذه المزية، فتجد الشاتم بجوار المحب، والساب قريباً من الصديق في مجلسه أيام حياته، وفي المسجد وقت الصلاة عليه، وفي الصحف لتأبينه ورثائه.
والشيخ لا يريد أن يبغضه الناس فيحاولوا عرقلة مشاريعه الخيرية، ولا يريد أن يمقتوه فيحاولوا غربلة إسهاماته الطيبة، بل استطاع بتلك الهندسة أن يستخدم شاتمه في إنهاء إجراءات مشاريعه الخيرية بدل عرقلتها،وبذاك التكتيك قدر أن يستعمل سابه بتخليص إسهاماته الطيبة.
كيف استطاع أن يُحَوَّل الشاتم إلى رجل من رجالاته القائمين على خدمته؟وإلى أحد الحاضرين في مجلسه لسماع فتواه واستشارته؟ وإلى واحد من المصلين عليه تقرباً إلى الله؟ وإلى كاتب تأبين ورثاء مفتخراً بقربه إليه؟ وكيف قدر على قلب الساب إلى عضو فعال في إسهاماته؟ وإلى تلميذ؟ وإلى داع له ؟وإلى شاعر معتز بمهاتفة ومراسلة ومحادثة الشيخ له ؟
فليست البلاهة تستطيع التحويل، ولا الغفلة قادرة على القلب،بل هندسة وتكتيك مملوءان باليقين بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وقوله صلى الله عليه وسلم: [إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم توضع له المحبة في الأرض] (15).
فالشيخ لديه يقين بأنه إذا كظم غيظه وعفا عن المسيء صار من المحسنين الذين يحبهم الله، وعنده يقين بأنه إذا أحبه الله أحبه الناس،وهذا الكظم من الشيخ، وطلب التعويض من الله من اليقين بحديث: «إنك لن تدع شيئا اتقاء الله جل وعز إلا أعطاك خيرا منه »(16).
وبهذا استطاع الشيخ أن يُحوَّل الشاتم كما تقدم، وأن يقلب الساب كما سبق.
وهناك عملية أخرى يقوم بها - رحمه الله - للتحويل والقلب وهي أن الشيخ مهما نزلت أخلاق الآخرين عند التنافس، وهبطت عند الأطماع، وانخفضت عند الاختلاف تبقى أخلاقه عالية لا يتنازل عنها، ولا ينزل بها مع ذاك المنافس والطامع والمختلف، وسبب عدم تنازله عن أخلاقه ونزوله بها هو أن الشيخ يتعبد بها، وبها يتقرب إلى الله فلم يتخلق بها لينال منصباً وبنيله له تزول،ولم يتمسك بها طمعاً بزائل فلما زال زالت، ولم يعض عليها بالنواجذ لكون الآخرين موافقين له فلما اختلفوا عليه انخفضت أخلاقه وهبطت آدابه.
بل هي دائماً عالية، وسبب علوها أن الشيخ مواظب على سقياها في جميع الأحوال، ومختلف الحالات، وذلك بماء المكرمات كما قال الشاعر:
هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات
فماء المكرمات النية الصالحة والمقصد الحسن، فالمحافظة على علو الأخلاق، والمداومة على الأخلاق العالية في جميع الأحوال ومختلف الحالات صعب جدًّا، ويحتاج إلى همة عالية ويقين قوي، فلولا قوة يقين وعلو همة الشيخ بأن المداومة والمحافظة على الأخلاق ترفع الشخص في الآخرة - كما ورد في الأحاديث - لما استطاع أن يتمسك بها أمام نزول أخلاق المنافس، ولما قدر أن يصبر على هبوط سلوك الطامع، ولما تمكن من الصمود أمام انخفاض آداب المختلف، فبصموده وصبره وتمسكه لا بالبلاهة والغفلة استطاع أن يكسب احترام المنافس، وينال محبة الطامع، ويفوز بتوقير المختلف، وأن يحَوَّلهم إلى أعوان وأصدقاء.
 

( 7 )

لو سأل أحد الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في أوائل قبضه للراتب: كيف تنفق نفقة من لا يخشى غوائل المستقبل ولا يخاف الفقر؟
لأجاب الشيخ بكل يقين بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [البقرة: 276].
ولو سأله آخر: كيف تقرض من لا تأمن إيفاءه، ولا تضمن تسديده ؟
لأجاب بكل تأكيد بقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
أنا أجزم بأن الشيخ يعلم علماً يقيناً في أوائل قبضه للراتب بأن راتبه بهذا الإنفاق سيزيد إنفاقه، وأن ماله بذاك القرض سيضاعف وسيضاعف الإقراض، وإذا كان هناك احتمال السؤال فكذلك اللوم والمؤاخذة واردان، فقد يكون هناك من لام الشيخ على إنفاقه، وأخذ عليه إقراضه لكن مثل الشيخ ويقينه بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] لا يلومه إلا من قل يقينه، ومثل الشيخ وتسليمه بقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] لا يؤاخذه إلا من ضعف تسليمه بوعد الله.
فضعف التسليم وقلة اليقين يمنعان من فهم أعمال المنفقين، ويحجبان عن قراءة مستقبل أفعالهم.
يقول الأستاذ/ إبراهيم الفقي: "إن القائد يتمتع بحاسة ممتازة في عمله، فهو يستطيع أن يرى أشياء لا يراها ولا يفهمها الآخرون، كما أنه مبدع ومعروف بأفكاره النيرة على الرغم من أن النقد قد يوجه إلى خيالاته، إلا أن مع الوقت يستطيع الناس أخيراً أن يتفهموا لماذا يرى القائد الأشياء بهذا الشكل؟" (17).
فالشيخ إمام في الإنفاق، ويتمتع بيقين ممتاز أعلى من الحاسة الممتازة، وما يقينه وتسليمه إلا من الأفكار النيرة، لكن ليس كل الناس يستطيع أن يعرف أبعاد اليقين ويقرأ مستقبل التسليم إلا من رزقه الله يقيناً يعرف به وتسليماً يقرأ من خلاله، ومن لا يدرك ذلك يقال له بأن الشيخ يعلم علماً يقيناً أنه لو لا إنفاق الألف الأولى على شخص واحد لما جاءت الألف الثانية ومن ثم إنفاقها على شخص آخر، وما إلى ذلك .... ولما صار الأجر أجرين، وبهذه المعادلة زاد الراتب، وزاد عدد المنفق عليهم وتضاعف الأجر.

 
( 8 )

الإمام أحمد - رحمه الله - إمام في الزهد، وإمام في الورع والتقى، وإمام في العلم، فحياته - رحمه الله - تفسير لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فمثله إمام في عدة جوانب قد تصدر منه كلمات أو أفعال لها عدة معانٍ، فقد قال - رحمه الله -: "بيننا وبينكم الجنائز "يقصد أهل البدع والمخالفين له،لشدة يقينه بصحة معتقده واتباعه وسلوكه، وإذا كانت إمامة الإمام أحمد تفسر الآية فإمامة الشيخ عبدالعزيز بن باز تترجم هذه المقولة، فليس في هذا العصر جنازة صلي عليها في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب مثل جنازته - رحمه الله -، ولا أعرف ميتاً رثي (بحق) كما رثي هذا الشيخ، وسبب هذا وذاك صحة معتقده، وحسن اتباعه للشرع واستقامة سلوكه ومنهجه رحمه الله.
فهنا عبرة وفائدة من هذه المقولة وتلك الترجمة، وهي للمخالف للشيخ أحوج منها للموافق له في حياته، فيجب على المخالف أن يسأل نفسه عن سبب تجمع المصلين على جنازته في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ويضع استفهاماً حول تلك المراثي وتلك التعازي التي شملت جميع مستويات الناس من الحاكم إلى المحكومين، ومن الرئيس إلى المرؤوسين، فلا يمكن أن يقبل الناس على شخص، أو يتأثر جمع عظيم بوفاته إلا لسر مكنون لا يمكن يناله إلا مخالف أراد الله له التوفيق فيما بعد وفاة الشيخ، وجذر عميق لا يمكن الوصول إليه إلا مخالف أراد الله أن يحبه بعد وفاة الشيخ، وهذا السر المكنون، وذاك الجذر العميق هو أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يطرح لرجل القبول في الأرض، وينشر محبته لشخص بين الناس إلا شخص يحبه ورجل قبله.
ولا يمكن أن يحب الله رجلاً أو يقبل شخصاً إلا إذا كان معتقده بالله صحيحاً، فلا تجهم، ولا اعتزال، ولا غيرها.
واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم سليم، فلا تعصب لحنبلي، أو شافعي، أو مالكي، أو حنفي.
وسلوكه مستقيم فلا نقشبندية، ولا تيجانية وغيرها من الطرقية، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه, فيحبه أهل السماء, ثم توضع له المحبة في الأرض](18).
وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].
فمن وَدَّه الله فبسبب كون أعماله صالحة، فصلاح الأعمال طريق إلى ود الرحمن.
فجنازة الشيخ ابن باز - ومثلها جنائز الأئمة قبله - طريق لتصحيح العقيدة، والصلاة عليها في الشرق والغرب والشمال والجنوب طريق الاتباع الصحيح، والتعازي فيه طريق لمعرفة أي مسلك صحيح يسلكه المسلم، وهذا الاعتبار بهذه الجنازة لا يحصل إلا لمن أراد الله له التوفيق للهداية وسلوك طريق الأنبياء الذين العلماء ورثتهم، وهذه الجنازة لا يعتبر بها إلا من أراد الله له الخير والسداد في الحياة وبعد الممات.
 
 
----------------------------------------------
(1) "بشار بن برد شعره وأخباره" (ص 96).
(2) "وسائل الاتصال" ناجي حلواني وآخرون. (ص 314).
(3) «مجلة المعرفة» - رمضان 1418هـ.
(4) "نكت الهميان" (ص 17).
(5) "جريدة الشرق الأوسط" 11/ صفر 1420 هـ.  
(6) " مجلة اليمامة "السبت 14/صفر 1420هـ مقال د/الرواف.
(7) أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) من حديث أنس
(8) صحيفة "الشرق الأوسط" 18/11/1998م.
 (9) أخرجه أحمد في المسند (3/76) من رواية جابر بن عبد الله
(10) رسائل الرصافي (ص115) بتصرف.
(11) صحيفة "الشرق الأوسط" 20/3/1420هـ.
(12) من كتاب «صوت من الخليج».
(13) «صوت من الخليج» (ص 154).
(14) «صوت من الخليج» (ص 108).
(15) أخرجه مسلم ( 2637) من حديث أبي هريرة.
(16) أخرجه أحمد في المسند (5/78) من رواية أعرابي.
(17) «مجلة عالم الإدارة» - العدد 4 (ص 14).
(18) سبق تخريجه قريبا.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية