اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khalid/31.htm?print_it=1

مفعول فتاوى التحريم في إقامة الكيان الإسلامي
(تجارب ودروس)

خالد بن عبدالله الغليقة

 
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا حكيم إلا ذو تجربة، ولا حليم إلا ذو عثرة] (1).
وقد اتفق العقلاء مع الحكماء على أن" التجربة خير برهان، فمن لا يستفيد من التجربة، ولا يعتبر بالدرس فقد خالف نص الشارع، وعارض إجماع الحكماء والعقلاء.
يجب على من ينظر لقضايا المسلمين، ويصدر الفتاوى في نوازلهم، ويحكم على واقعهم أن يعتبر بالدرس، ويستفيد من التجربة قبل أن يتعجل ويفتي بالتيسير الذي قد يُخفي معالم الشرع من الأرض، وقبل أن يفتي بالمصلحة التي قد تكون أحياناً مثبطة لهمم المسلمين في المحافظة على أمر الشارع، ومخدرة لعزمهم في محاربة الأمر المخالف للشرع وبناء الكيان الإسلامي.

فمن التجارب الناصعة في جبين المسلمين في هذا العصر، ومن الدروس المفيدة في حياة المسلمين في هذا الزمن: تجربة البنوك الإسلامية، فهذه البنوك قامت على الفتاوى المنفرة من التعامل مع البنوك الربوية، وكان أساسها القوي الفتوى بتحريم أخذ الفوائد الربوية.
فكان إصرار كثير من العلماء على هذه الفتاوى وتمسكهم الشديد بمضمونها، وعدم التنازل عن هذا المبدأ كان سبباً قويًّا لرفع همة بعض المسلمين لإنشاء بنوك إسلامية، وشدت من عزم بعض المؤمنين وأوجدت تكاتفاً بينهم لإقامة مصرف إسلامي، فتوجه كثير من المسلمين إلى المساهمة في هذه البنوك وتلك المصارف فنهضت، وكانت في البداية خائفة تترقب من البنوك الربوية العملاقة، وهنا جاءت الفتاوى مرة أخرى لتعزز موقف هذه البنوك، وتشد من أزر هذه المصارف، وتستبدل الخوفَ بالأمن، فحرمت على المسلم وضع ماله - باختياره - مطلقاً في البنوك الربوية، فكانت نتائج هذه الفتاوى أن نشر (انجو كارستن) الأستاذ في مؤسسة السياسة الاقتصادية في جامعة كيبل في ألمانيا، وكان حينذاك يعمل خبيراً في البنك الدولي نشر بحثاً وقال فيه: "إنَّ المعلومات عن مستوى أداء المصارف الإسلامية قليلة في الواقع، إلا أنها تشير إلى أن المصارف الإسلامية قادرة على مزاحمة المصارف التقليدية". هذا الكلام سنة 1982م (2).

أما الآن فكانت ثمرة تلك الفتاوى أن صرح مديرصندوق النقد الدولي بكل وضوح بقوله: " إنَّ البنوك الإسلامية أكثر استقرارً من البنوك الربوية"(3).
والأمثلة على هذا الأمر كثيرة، بل وصل الحال بهذه البنوك الإسلامية أن غزت البنوك التقليدية،فأنشئت الأخيرة أقسام استثمارات إسلامية، وإن كانت هذه الأقسام مجاملة للمسلمين أكثر منها حقيقة إلا أن هذا مؤشر على نجاح التجربة الإسلامية، ولا يجامَل إلا من يُضرب له حساب ولديه نفوذ وقوة، ومن الأمثلة بنك سيتي بنك، وبنك باريس الوطني، وغيرها من البنوك الربوية العالمية.

فعلى هذا نستطيع أن نقول: لو اعتمد هؤلاء البعض الذين أنشؤوا هذه المصارف الإسلامية على الفتاوى الشاذة التي تجيز الفوائد الربوية - من باب التيسير كما قال بعض المشايخ - هل ستتخلق في أذهان المسلمين فكرة البنوك الإسلامية؟
الإجابة في الواقع: لا.
ولو تبنى هؤلاء المسلمين القول بجواز التعامل بالربا للمصلحة –المتوهمة، وهي أنه لا يمكن حكومة قوية إلا باقتصاد قوي ولا اقتصاد قوي إلا ببنوك ولا بنوك إلا بربا كما قال بعض الدكاترة - هل سينبت مشروع بنوك بلا ربا في عقول أصحاب الأموال؟ الجواب معروف.
ومثال آخر قريب من هذا الأمر: عندما أصدر مجلس الفقه الأوروبي برئاسة أحد الدكاترة فتوى تجيز أخذ القرض الربوي لبناء المساكن استناداً إلى قول في المذهب الحنفي.

بالطبع لم تكن الفتوى مُتَّفَقًا عليها من جميع أعضاء المجلس فهناك من عارضها، وكان مستنده الأدلة الشرعية من جهة، ومن جهة أخرى - وهو الذي يهمنا في قضيتنا - أن هذه الفتوى تضعف همة المسلمين في البلاد الأوروبية للقيام لإقامة بنوك إسلامية، وفيها تخدير لعزيمتهم في التكاتف لإقامة شركات تعطي قروضاً بلا ربا.

مع ملاحظة أن امتلاك سكن في أوروبا لم يصل إلى حد الضرورة القصوى التي تبيح ارتكاب المحرمات والكبائر حتى يبحث عن المصلحة القاتلة للهمة، وحتى يفتش عن رأي فقهي مخدر للعزيمة، فالفقه الإسلامي فيه هفوات توهن العزم، وشذوذات تقتل الهمم تراجع أصحابها عنها وندموا عليها.
هناك تجارب ودروس ناصعة مفيدة غير البنوك الإسلامية لدى علماء المسلمين في البلاد الإسلامية، وخاصة لدى علماء السعودية في المجتمع السعودي ففي المجتمع السعودي، مثلاً مستشفيات خاصة بالنساء، ومدارسُ خاصة بالنساء، ومعاهد خاصة بالنساء، فتفعيل أمر الشارع في هذه النواحي وتلك الشؤون قام بفتاوى العلماء المحرمة للاختلاط، واستمرار هذا الأمر قائم على إدراكهم معنى المصلحة المبيحة للمحظور، ومعرفة مقصد الشارع في التيسير، ومدى القول بهما ونتائجهما في المجتمع وأثرهما على المسلمين، فيجب على مَن يتصدى للفتاوى أن يعتبرَ بالدرس في مجال استخدام المصلحة والقول بالتيسير وعاقبتهما وأثرهما في المستقبل، ويستفيد من ذلك بتجربة علماء السعودية في المجتمع السعودي، ويقارنها بالتجارب الأخرى في المجتمعات الأخرى ومدى ما وصلت إليه هذه المجتمعات بتلك الآراء والفتاوى الفقهية، وهذه الاستفادة لن تتحقق إلا بشرط تذويب الفروق والألوان والأعراق والجنسيات تحقيقاً وتطبيقاً لقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
فالقضية أكبر من ذلك، والغاية أعظم من ذلك، فلا ينبغي للألوان أو الأعراق أو الجنسيات أن تكون حاجزاً عن الاعتبار بالدروس الناجحة والاستفادة من التجارب المفيدة، تحقيقاً لقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}  [الروم: 42].
وتحقيقاً لقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17].

أليس من الآيات التجارب الموافقة للشرع والتي كانت نهايتها رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وتحقيقاً لقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20, 21].
وأليس من الآيات الدروس والتجارب التي بها تحقق مراد الله ورسوله في بناء مجتمع آمن ومستقر ومطمئن، وبها يتحقق المقصد من الشرع، وهو حماية النفس والعقل والعرض والمال.


----------------------------------------------
(1) سبق تخريجه.
(2) بواسطة بحث للشيخ صالح الحصين.مجلة" البحوث الإسلامية "عدد( 23) 1408 ص 132
(3) مجلة الحكمة، بحث للدكتور خالد المصلح.
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية