صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







حوار حول السلفية/ الوهابية

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

خالد بن عبدالله الغليقة

 
س: هل هناك فرق بين السلفية والوهابية؟
ج: لا ليس هناك فرق ألبتة ومن فرَّق فهو إما أنه لا يعرف السلفية، أو لا يعرف الوهابية أو لا يعرف كليهما.

س: لكن لماذا لا ينتمي المسلم إلى الإسلام بشكل عام؟ ألا يكفي ذلك؟
ج: يكفي إذا كنت أنت لا تعرف الفرق، أو الجماعات أو الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام أو لم يكن سؤالك عنها، أما إذا كنت تعرفها وتسأل إلى أي تلك الفرق ينتمي المسلم فعلى المسلم أن يحدد لك الفرقة أو الجماعة التي ينتمي إليها والتي هي في معيار الشريعة ومقياس الأدلة هي الأصوب والأقرب إلى الحق وتسير على منهج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وسؤالك هذا نفسه أو قريب منه طرحه الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر لهم أن الأمة الإسلامية ستنقسم إلى عدة طوائف وجماعات فقال: « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». فقد تحقق ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي لا يرى الانتماء إلى منهج السلف القائم على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده فهو ينكر نتيجة هذا الحديث، وينكر الواقع المشاهد من حال هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فتحديد الطائفة أو الفرقة ليس هو هوى من النفس أو تشهيًا من السلفيين بل هو إتباع لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة بإتباع فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد الفرقة المطلوب إتباعها عن هوى، بل عن وحي من الله عز وجل.

س: لكن كيف يعرف المسلم أن هذه الجماعة هي الجماعة الأقرب إلى الحق ونهج الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ج: يعرف ذلك بعدة أمور شرعية وعقلية وواقعية، أما الشرعية فلو طبقت عقيدة هذه الجماعة أو الفرقة وفهمها ومبادئها على عقيدة الرسول عليه الصلاة والسلام وفهمه ومبادئه لوجدت أنها أقرب الطرق والفرق والجماعات والطوائف إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه العقيدة وهذا الفهم وتلك المبادئ هي التي سيسألنا الله سبحانه وتعالى عنها يوم القيامة كما قال: }ماذا أجبتم المرسلين {يعني ماذا عن استجابتنا لهم في عقيدتهم في الله في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والأسماء والصفات، وماذا عن اتباعنا لهم في طاعة الله وطريقة عبادتهم له، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ، وكذلك لو طبقت أو طابقت عقيدة هذه الطائفة وفهمها ومبادئها على عقيدة صحابة رسول الله الذين رضي عنهم كما قال الله تعالى: } رضي الله عنهم ورضوا عنه {، والرضى من الله عليهم يستلزم رضاه عن عقيدتهم فيه وطريقة عبادتهم له، ولهذا حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على إتباعهم فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وحديث الافتراق يدل على ذلك في قوله: «ما أنا عليه وأصحابي» وغيرها من الأدلة الشرعية.
أما الأدلة العقلية فالعاقل إذا قرأ القرآن وعرف أن النجاة في الآخرة مرتبطة بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومشروطة بالاقتداء به، وإذا قرأ مبادئ الدعوة السلفية وعقيدتها ومنهجها وجدها مطابقة لعقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه ومنطبقة عليه. هذا من جهة ومن جهة أخرى نجد الجماعة السلفية تنفرد من جهة الاستدلال للقضايا الشرعية بالنص الشرعي وتقدسه، ولا تقدم نصًّا غير مقدس عليه، وتقدم ما جاء به الوحي على ما جاء به عقل البشر، بخلاف غيرها من الجماعات والطوائف التي قد تقدس نصوص أئمتها وتقدمها على نصوص الشرع، أو تقدس العقل ولو خالف النقل، وكل من أعمل عقله يدرك هذه المفارقة ولو كان عاميًّا، فأتذكر أنني زرت قبر (أحمد الرفاعي) للدعاء له بالمغفرة والرحمة ـ فهو محتاج للدعاء ـ لا لدعائه والتوسل به أو إليه أو طلب المغفرة منه، فوجدت هناك رجلاً عاميًّا فلاحًا من الصعيد، فسلمت عليه فرد علي السلام وبادرني بقولـه: «أنا أعرف أنكم على صواب، فأنا عشت في القصيم في السعودية سبع سنوات، ووجدتكم إذا تكلمتم تقولون قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أنني كنت أقول أحيانًا (بص) فكان صاحب المزرعة يقول: قل (انظر) لأن في القرآن (انظر) مع أن عبارة (بص) ليست داخلة في قضيتنا، وليست من هذا الباب ـ لكن هذا العامي فهم أن علامة الصواب ومعيار الصحة والحق أن يستدل الشخص على مبادئه وعقيدته بالنص المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كما قال سبحانه وتعالى واصفًا وحيه: } لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد { وقوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }.
ولهذا تمنى بعض المتكلمين الذين خاضوا في علم الكلام أن يموتوا على دين العامة والعجائز، وتابوا عن خروجهم عن النص وعدم التسليم له، وتابوا عن محاولة إثبات العقائد والأمور الغيبية عن طريق العقل فقط.
وحكاية أخرى مع عامي آخر فقد ذكر الشيخ (محمد حامد الفقي) ـ رحمه الله- أن (عاميًّا فلاحًا) كان سببًا بعد الله لهدايته لمذهب السلف والعقيدة الصحيحة فقد قال: «درست في الأزهر، وحصلت على شهادة الليسانس فيها، ثم استلمت هذه الشهادة، وذهبت بها إلى القرية فمررت في الطريق على فلاح فأخذت عنده راحة، فرحب بي وقال لي: اقعد في (الدكة) حتى أنهي بعض أعمالي فأرجع إليك وأجلس معك، فذهب الفلاح إلى عمله وجلست وحدي في هذا المكان واتكأت على طرف من (الدكة) فرأيت هناك كتابًا فأخذته وبدأت أقرأ فيه، فأخذ أسلوبه لُبي فانسجمت مع الكتاب وما فيه من المعاني والفوائد، وإذا الكتاب هو: اجتماع الجيوش الإسلامية لغزو المعطلة والجهمية " للإمام الحافظ ابن القيم الجوزية وأراه لأول مرة، فلما انتهى الفلاح من عمله توجه إلى "الدكة" فلما رآني منهمكًا في القراءة مستغرقًا فيها رجع وتأخر قصدًا لكي أقرأ وأستمر في الكتاب فقرأت جملة كافية فلما رجع إلي مرة أخرى كنت قد قرأت قسطًا جيدًا من الكتاب فحينما رآني مهتمًا بالكتاب قال لي مبتسمًا: كيف حالك؟
قلت: الحمد لله. ثم جلس بجانبي وسألني عن أحوالي، وقال لي: (إيش تحمل معك)؟ قلت: هذه شهادتي العلمية الليسانس التي حصلت عليها بعد تخرجي في الأزهر.
فقال لي: يا فلان، إنك تغربت في سبيل العلم وتحصيل هذه الشهادة؛ فأنا أهنئك على نجاحك وأنصحك أن تهتم بهذه الشهادة ، لأنها وسيلة للحياة وسلاح للمعاش في داخل هذه البلاد وخارجها، لكن هذه الدراسة ما علمتك أكبر واجب عليك وعلى كل مسلم، وهو علم التوحيد، حقًّا إنك درست كتب علم الكلام كالنسفية التي نسفت عقيدة أهل السنة والجماعة، وهكذا درست "السنوسية "، وجوهرة التوحيد "اللقانية"، وليس في هذه الكتب التوحيد الذي أعنيه، وأنصحك بتعلمه واعتقاده، وأوصيك بثلاثة:
1- التقوى بالسر والعلانية.
2- المحافظة على هذه الشهادة.
3- البحث عن كتب السلف مثل الذي قرأته الآن ومثل كتاب التوحيد "لابن خزيمة "، وكتاب الشريعة "للآجري"، وكتاب الإبانة "لابن بطة" وكتاب الإبانة " لأبي حسن الأشعري "، ومؤلفات شيخ الإسلام "ابن تيمية" وتلميذه الحافظ ابن القيم ".
وبعد أن ترجع من قريتك إلى القاهرة عليك أن تبحث عن هذه الكتب وتقرأ فيها وتنشر هذه الكتب ليستفيد منها المسلمون. (1)
أما دليل صحة عقيدة الجماعة أو الفرقة السلفية ومنهجها من جهة الواقع، فلو قارن عاقل بين أثر السلفية أو الوهابية على الإنسان وعلى المجتمع لأدرك صحة هذا المنهج وصدق تلك العقيدة، فهناك وعود من الله لمن (آمن) بالحياة الطيبة والسعادة، والتمكين، والأمن بجميع أنواعه، والمال، والأولاد، وهذه تسمى الحاجات الضرورية للإنسان فتوفيرها وتحصيلها وحمايتها وحفظها مطلب عند جميع بني الإنسان، ولهذا تسمى (الكليات الخمس) كقوله تعالى حكاية عن نـــوح عليـــه السلام:}  فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً . يرسل السماء عليكم مدراراً . ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً { وقولــه تعالـى:} وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً {، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }، وقوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وقولـه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }  ، وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً. لنفتننهم فيه }، فجميع هذه الآيات وعود من الله عز وجل لمن آمن ولمن عمل الصالحات ولمن اتقى، ولكنَ هناك أنواعًا من الإيمان وهناك أنواعًا من العقائد وهناك أنواعًا من الأعمال، فكل فرقة لها عقيدة ومبادئ وأعمال تسميها أعمالاً صالحة وعقيدة صافية، وإيمانًا صحيحًا وتؤمن بأن هذه العقيدة وهذا العمل وتلك المبادئ هي الموعودة بهذه الثمرات وهي الموعودة بهذه النتائج الإيجابية (من أمن وأمان واطمئنان واستقرار وحياة طيبة ومال وأولاد وتمكين للإنسان بأن يعبد الله بكل حرية).
فلو نظرنا إلى مجموع هذه الوعود لم نجدها مجتمعة إلا لدى شعب أو مجتمع يدين بالعقيدة السلفية بكل صراحة ـ لأن آحادها يوجد ويتوفر لدى آخرين بحسب ما لديهم من صلاح ديني أو دنيوي ـ أما مجتمعة فلا نجدها إلا لدى مجتمع أو شعب يدين بالعقيدة السلفية الوهابية القائمة على عقيدة الصحابة ومنهجهم وعملهم الذي هو قائم على عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه وعمله، قد يكون هناك مجتمع آمن لكن قد يكون المسلم فيه فاقدًا لحرية العبادة والتعبد بالعبادة الصحيحة وعلى أكمل وجه مع أن هذا الأمان لا يقارن بأمان المجتمع الذي يدين بالعقيدة السلفية وعلى هذا فقس.

س: لكن إثبات مثل هذا الأمر يحتاج إلى دراسة واستقراء؟
ج: نعم لكن دليلي هو الآيات فالآيات تثبت لعقيدة معينة الأمان والحياة الإيجـابية وتنفي عن غيرها ذلك، فالمخالف للأصل هو المطالب بإثبات ذلك، هذا إذا كنا نقدس نصوص الوحي، مع أن هذه الوعود لا يمكن أن تتخلف كما قال سبحانه وتعالى عن نفســه: }  لا يخلف الله وعده { ، فلا يمكن أن تتخلف هذه الوعود إلا في عقولنا وإثبات التعارض بين الواقع والنصوص، هذا في عقولنا وعيوننا أما في الأصل فهي على ما أثبت النص ودل عليه ووعد به ـ وسبق أن كتبت تعقيبًا على الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ في هذه القضية أنقله لك بكامله:
يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- كيف نقول للبريطانيين الجدد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» وأمامهم تاتشر بنجاحاتها؟!.
أقول: هذا القول من الشيخ استدراك على الشارع في طريقة هداية الناس، وتعقيب على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد الخلق إلى الدين الصحيح.
يقول العلامة عبد الرحمن بن مهدي: (من لم يهتد بالقرآن والسنة فلن يهتدي بغيرهما) وهذا هو الأصل.
فتأويل النصوص لأجل هداية الناس تضليل للناس، ورد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لمخالفتها للواقع (الكاذب) فيه طمس لحكمة أحكام الدين الإسلامي، وإخفاء لمعجزات الوحيين، وفيه إثبات للتناقض بينهما، وفيه من المحاذير إضعاف المسلمين وذلك بإبعادهم عن أسباب الفلاح وتوضيح هذه الأمور.
أقول: إن واقع تاتشر الذي بسببه رد الغزالي حديث النبي صلى الله عليه وسلم كواقع ذاك الصحابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له يا رسول الله: إن أخي استطلق بطنه؟!
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلاً» يقينًا من النبي عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى عن العسل:}  فيه شفاء للناس {[النحل: 69].
فسقاه عسلاً فزاد استطلاقه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره عن ذلك فأمره أن يسقيه عسلاً فذهب فسقاه عسلاً فزاده استطلاقًا فجاء يشكو مرة أخرى فأمره النبي أن يسقيه عسلاً فذهب وسقاه فبرأ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن أخاه برأ -فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك».
فيجب على من نقص يقينه بحديث: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» وارتفع يقينه بتاتشر أن يكذب عقله بنجاحات تاتشر، وفرض عليه أن يتهم الواقع بالكذب يقينًا بالحديث. وعدم التكذيب يخلق تعارضًا بين الحديث وقوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }النجم4
فإذا كان الشيخ الغزالي وغيره ممن يريد أن يدرأ التعارض بين الحديث والواقع وذلك بإبطال الحديث شفقة على عقول البريطانيين فهو بهذا وقع في إثبات تعارض أعظم وأخطر على عقول المسلمين البريطانيين، وهو التعارض بين الحديث والآية فوقع في خطأ أعظم من الخطأ الذي فر منه كما قال علي بن أبي طالب: -رضي الله عنه- لما سئل عن الخوارج أكفار هم؟
قال: من الكفر فروا. فقصور فهم الشيخ الغزالي عن درء التعارض بين الحديث والواقع كقصور فهم الخوارج وغيرهم من الفرق المخالفة للكتاب والسنة، فالخوارج لم يستطيعوا درء التعارض بين الوعد وآيات الوعيد فأبطلوا آيات الوعد.
والفرق التي عطلت صفات الله سبحانه وتعالى ونفت الصفات عنه جميعها كان سبب تعطيلها أنها شبهت صفات الخالق بصفات المخلوق فأرادت تعظيم صفات الخالق واستبعاد ما ينشأ في عقول الناس من الظن بأنها تشبه صفات المخلوق، وطرد ما يعلق في أذهان الناس إن صفات الله مثل صفات خلقه، أبطلوا صفات الله ونفوها وعطلوا الله من صفاته وجعلوه بلا صفات، مراعاة لعقول الناس بزعمهم، بخلاف أهل السنة والجماعة فلم يثبتوا التعارض ألبتة بسبب يقينهم بقوله تعالى عن صفاته:} ليس كمثله شيء وهو السميع البصير { [الشورى: 11].
فاليقين بهذا النص كان سببًا لمحو صورة التعارض بين صفات الخالق وصفات المخلوق ونفي التشابه بينهما، وأسعد الناس بهذا النص هم أهل السنة والجماعة.
فسبب وقوع هذه الفرق وأولئك الأشخاص في تعطيل الآيات وإبطالها ورد الأحاديث وإثبات التناقض بينهما هو عدم اعتمادهم على فهم من عاصروا نزول الآيات وصاحبوا من أوحيت إليه تلك الأحاديث، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على منهجهم وفهمهم.
أما كون رد هذا الحديث وإبطاله فيه إضعاف للمسلمين وإبعادهم عن أسباب الفلاح فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم ربط فلاح المسلمين بقيادة رجل، وعلق عزتهم وقوتهم بزعامة ذكر. فإذا حاول الآخرون رد الحديث الصحيح وإبطال كلام من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقد قطعوا رأس العزة والقوة والفلاح؛ لأن الحاكم أو القائد كالرأس، فإذا صلح الرأس صلح الجسد. وليس من إصلاح الحاكم جعله أنثى، بل هذا من إفساده فإذا فسد فسدت الأمة.
ولا يمكن أن يصلح الحاكم إذا لم يصلح أولو الأحلام والنُّهى وعلى رأسهم علماء الشرع ولهذا قال بعضهم: زلة العالِم زلة العالَم؛ لأن العلماء أعرف الناس بما يصلح أحوال الناس، وذلك لمعرفتهم بنصوص الوحيين وتخصصهم في دراستها فإذا زل العالم ورد قاعدة من أعظم قواعد الفلاح، وعطل سببًا من أهم أسباب العزة والقوة كرد حديث: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» فقد أصاب جسد الأمة بالوهن والضعف والذل.

س: لكن ما تقول في بعض المجتمعات الإسلامية التي لديها حريـة في العبادة؟
ج: لا تستعجل في النظرة والحكم فلو أطلت التأمل وأمعنت النظر لوجدت حرية في العبادة من جهة؛ لكن من جهة أخرى هناك عدم حرية في أمور مهمة جدًّا وعبادات عظيمة جدًّا؛ مثال ذلك شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل تستطيع أن تأمر بكسر صنم يعبد من دون الله؟ أو هل تستطيع أن تمنع من يعبد غير الله ، ويذبح لغير الله ، ويدعو غير الله ويقوم بغير ذلك من الأمور الشركية، أو هل يستطع المسلم أن يأمر بإقفال مرقص أو يمنع من العري والتفسخ حتى ولو أقرب قريب؟ فالقانون يمنعك من ذلك، أو هل تستطيع أن تُسكت أو تُعاقب من ينشر الإلحاد والزندقة والكفر وسب الدين وسب الخالق وسب الرسل؟ فالقانون يمنعك من ذلك، فهذا المجتمع لم يمكن من جميع أنواع العبادة التي رضيها الله للناس وأمرهم بممارستها. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه المجتمعات لا يمكن أن يصل إلى حد التنفيذ؛ لأن التنفيذ بيد السلطة، والسلطة لن تنفذ؛ لأن القانون يسمح بحرية العبادة وحرية الرأي وغير ذلك من الحريات التي تعارض الشريعة ، فهذا المجتمع لم يمكن التمكين الكامل من عبادته وشعائر دينه كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }، فمضمون هذه الآية وعد من الله بالتمكين في العبادة فإذا تخلف هذا التمكين، أو نقص فهذا علامة على تخلف شرط هذا التمكين، الذي هو الإيمان والعمل الصالح إما تخلفًا كليًّا أو تخلفًا جزئيًّا بحسب صحة الإيمان وقبول الأعمال عند الله، ولهذا تلاحظ أن بحسب ما عند المجتمع من إيمان أو من تطبيق للشريعة وبحسب بعدهم عن الشرك والفسق؛ ترتفع نسبة الأمن في النفس والعرض والمال وترتفع نسبة تمكين المسلم من عبادة ربه، وكذلك يرتفع مؤشر الحالة المادية والمعيشية إلى الأحسن والأفضل ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش لما سألته قائلة: (أنهلك وفينا الصالحون) قال: « نعم إذا كثر الخبث»، وأشد الخبث هو الشرك والكفر بجميع أنواعه كشرك القبور من دعاء الأموات والذبح لهم والسجود لهم، والتحاكم لغير الله وتحكيم القوانين، ثم يأتي في المرتبة الثانية من الخبث أعمال الفسق كالربا والزنا والقمار وشرب الخمر وغيرها.

س: لكنك قلت أن المجتمع المسلم الذي لا يستطيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يمكن التمكين الكامل في العبادة، وأنت تعرف أن المانع لهذه الشعيرة العظيمة هي السلطة وليس المجتمع فكيف تفسر ذلك؟
ج: السلطة والحكومة المانعة لهذه الشعيرة ما أتت إلا بسبب، والسبب هو ذنوب الناس كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، ففساد السلطة أو الحكومة داخل في هذا الفساد المذكور في الآية، وكما في الحديث المختلف في ثبوته: «كما تكونوا يولى عليكم» وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ }. فهذا يدل على أن فساد المجتمع سبب في فساد الحاكم أو السلطة، وأعظم فساد المجتمع هو فساد عقيدة المجتمعين في الله كما قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }.فنرجع إلى بداية هذه النقطة وهي أن المجتمع في الجزيرة العربية أكثر المجتمعات والشعوب استكمالاً للحاجات الضرورية الإنسانية وأكثر حصولاً وأكثر نيلاً لما يسمى لدى علماء الأديان والملل والشرائع والحكماء (بالضروريات الخمس) المتفق على المحافظة عليها، وهي الدين والعقل والنفس والعرض والمال، فتجد أفراد المجتمع هنا أكثر من غيرهم حصولاً على نتائج أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وأكثر من غيرهم من المجتمعات حصولاً ونيلاً لنتيجة الاستغفار التي هي المال والبنون كما قال سبحانه وتعالى:} فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً{10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً{11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً{12}{ [نوح: 10-12] فتجد وفرة المال عندهم، أكثر من غيرهم وكذلك تجد الزينة الأخرى وهي البنون عندهم أيضًا أكثر من غيرهم.
قبل أن نترك هذه النقطة أنبه إلى أن الاستغفار في الآية يشمل الاستغفار والتوبة من جميع الذنوب، وأهم هذه الذنوب وأعظمها الذنوب في باب العقيدة والتوحيد ولهذا قال الله تعالى: {  إن الشرك لظلم عظيم }  وقال سبحانه:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، فترك العبد المسلم العقيدة المخالفة لعقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم في توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات هو الأهم والأعظم في الاستغفار، ثم تأتي في المرتبة الثانية التوبة من الكبائر والاستغفار من الموبقات. فإذا أراد المسلم الحصول على نتائج الاستغفار كما في الآية فليترك العقائد المنحرفة والضالة، ويحقق التوحيد لله سبحانه وتعالى والانتماء لمنهج محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم القائم على النص والوحي.
ثمة نقطة أخرى هي أننا نجد المجتمع في الجزيرة العربية أقل المجتمعات الإسلامية ظلمًا من قبل حكوماتهم؛ لأنهم يتدينون بعقيدة وإيمان وعمل صالح، بيَن الله أثره الإيجابي على المحكومين فقال سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، ولا يمكن أن نصف المجتمع الذي يتسلط عليه حكامه ويظلمونهم ويسومونهم سوء العذاب بأنهم في حياة طيبة، فلما لم يكونوا كذلك دل على أن إيمانهم بشكل عام أو الغالب من إيمانهم ليس هو المطلوب وليس هو الموعود بالحياة الطيبة، فالقاعدة الإلهية أنه كلما دان الناس بالعقيدة الصافية وآمنوا الإيمان الصحيح وعملوا العمل الصالح، انجلى ظلم الحاكم عنهم وانخفض مستوى التسلط والقهر والإذلال كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }، ولهذا لو رأينا بعض المجتمعات الإسلامية الأخرى لوجدنا تسلطًا وظلمًا وقهرًا وإذلالاً من الحكام للمحكومين ومن الرؤساء للمرؤوسين، وسبب ذلك أنهم لم يؤمنوا الإيمان الذي يحيون به حياة طيبة كما في الآية السابقة ولم يتقوا التقوى التي تخرجهم من مأزق ظلم الحكام وتخرجهم من الإذلال إلى العزة كما قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب }وقوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ من أمره يسرى } فهم لم يؤمنوا الإيمان ويعتقدوا العقيدة ويعملوا العمل الذي به يأمنون من الهلاك في المال والأنفس وغيرها، والذي به يطمئنون ويستقرون ويرزقون كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }. وأتذكر مثالاً يبين أن غير المسلم قد يفهم ويدرك مثل هذه المعادلة وهي أن (صلاح الحاكم بصلاح المجتمع) وأن المجتمع مثل ما يسمى بالمصطلح الغربي (لوبي) ضاغط على السلطة بأن لا تنحرف وتنجرف فيما يضر الإسلام والمسلمين من خيانة لهم وعمالة ضدهم وظلمهم والتجني عليهم وسلبهم حقوقهم، فقد علق القنصل الأمريكي في بيروت على خطاب لأحد حكام السلفية / الوهابية وهو الملك عبد العزيز حيث قال: " إن الخطاب جاء على طريقة أئمة المسلمين في الماضي، أي إعلان الكمال المطلق للإسلام وتفوقه والتأكيد على أخوة المسلمين وكراهية الأوروبيين ـ كراهة الجانب السلبي من الحضارة الأوروبية ليس بشكل عام هذا ما يفهم من خطاب الملك ـ ولا يعبر عن رأيٍ حديث، وهو على كل حال الخطاب المنتظر من ابن سعود في مواجهة شعب تلك البلاد المتعصب دينيًّا وعند عودته من إخماد ثورة)  ـ السعوديون والحل الإسلامي ـ جلال كشك ص 22.
وأذكر كلمة للشيخ العلامة " محمد حامد الفقي " ـ رحمه الله ـ تدل على ذلك؛ فيقول: (... والنجديون كانوا ـ ولا يزالون ـ يعظمون أهل العلم،  ويوقرونهم، ولا يصدر الأمير إلا عن ما يقول العالم ؛ فكان مقام العلماء في نفوس الناس يحمل الأمراء على الرغبة في الاعتزاز بهم) ا. هـ. (2)

س: كأنك تقول أن المجتمعات الأخرى ليس فيها من يعمل الصالحات وليس فيها من يتقي الله وليس فيها من يؤمن بالله؟
ج: أنا لم أقل ذلك ألبتة بل قلت إن بحسب وجود هؤلاء الأفراد العاملين المؤمنين المتقين في المجتمع يحصل المجتمع على الوعود التي وعدهم الله بها كالعزة والرزق والأمن والحياة الطيبة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش لما سألته: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: « نعم إذا كثر الخبث »، فكلما زاد عدد المؤمنين المتقين العاملين في المجتمع زادت نسبة الأمن والأمان والرزق والعزة والحياة الطيبة، هذا من جهة ومن جهة أخرى قد يكون هناك من يعمل ويعتقد ويؤمن، لكن المشكلة تكمن بأنه من العمل والعقيدة والإيمان المردود غير المقبول وهذا العمل المردود غير المقبول يجب أن يتصور المسلم وجوده لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» وقال سبحانه وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } ولا يمكن أن يصدر عن الشارع حكم أو وصف لا يتصور وجوده أو يستحيل وقوعه أبدًا وإلا كان من العبث. والشرع منزه عن ذلك.
ومن الأدلة كذلك على صحة عقيدة الفرقة السلفية/ الوهابية ومنهجها دورها في المعركة العسكرية ومواجهة الأعداء والمستعمرين وبعدهم عن الخيانة للإسلام والمسلمين، وبعدهم عن العمالة، ويتضح هذا الدور من خلال الوقائع التاريخية التي سأوردها، فمن تلك الأدوار أو الوقائع والأمثلة مثال معاصر يشمل السلفية المعاصرة وإلا بالإمكان أن نستدل بغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابتهم رضي الله عنهم وهم القدوة الحسنة والسيرة المثلى، ولكن كما قلت حتى تدخل السلفية/ الوهابية المعاصرة فلو أخذنا مثالاً العقيدة الصوفية أو معتقدات الطرق الصوفية وقارناها بالعقيدة السلفية في مواجهة الأعداء وعدم التعاون معهم في إندونيسيا مثالاً، يقول الأستاذ " محمد فريد وجدي ": مؤلف رسالة ماجستير بعنوان (الوهابية وأثرها في الفقه في إندونيسيا) ـ جامعة القاهرة ـ يقول: (.... أثناء اندلاع الحروب هنا وهناك ضد الاستعمار الهولندي، دخل أتباع الوهابية إندونيسيا فكانت ثورتهم ضد المسلمين المتمسكين بالعادات والتقاليد القديمة من البدائية والهندوسية والبوذية كما كانت حروبهم الشهيرة ضد ذلك الاستعمار) ص 169، وقال أيضًا: (لما دخل الهولنديون مدينة (بادانج) في سنة 1821م أي بعد تسع عشرة سنة من دخول الوهابية وانتشارها في (مينانجكبو)، أسرع شيوخ (العادات) إلى الاستنجاد بالهولنديين ونشبت حروب مريرة وطويلة استمرت ست عشرة سنة 1821م ـ 1837م) بين قوى الحركة الإصلاحية الوهابية وقوى الهولنديين والعادات التي اشتهرت في التاريخ باسم (حروب البادري) التي انتهت بانتصار الهولنديين واستعمارهم في هذه المنطقة أكثر من مائة عام.
وانتصار الهولنديين على البادريين لم يطفئ نار المقاومة وتنور الإصلاح في قلوبهم، وإنما جعلهم يغيرون الخطة من المواجهة بالقوة إلى المواجهة بطريقة أكثر هدوءً، لقد أرسلوا أبناءهم إلى مكة طلبًا للعلم واستزادة من المعرفة المختلفة لكي يتسلحوا بها بعد رجوعهم إلى بلادهم.
وفي مستهل القرن العشرين الميلادي ـ وإندونيسيا لم تزل تحت الاستعمار الهولندي ـ رجع هؤلاء الأبناء والجيل الجديد للحركة الإصلاحية وواصلوا الرسالة التي حملها آباؤهم من قبل بالمبادئ نفسها، وهي الرجوع إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما في كل نواحي الدين من العقيدة والعبودية والمعاملة والأخلاق وغيرها وتصفية الإسلام من كل أنواع البدع والخرافات، وكل العادات والتقاليد المخالفة له، ولكن بثوبها الجديد تمشيًا مع طبيعة الحال والظروف المحيطة في ذلك الوقت. ا.هـ ص 180.
أما عن موقف الطرق الصوفية مع الاستعمار الفرنسي في الجزائر فيقول أحد المؤرخين الفرنسيين: (أصبحت كلمة المرابطين تدل على الجهل والتخلف وكذلك أصبحت تعني المؤيدين للاحتلال والإدارة الفرنسية).
ويقول أحد الحكام الفرنسيين: (إن أفضل وسيلة للسيطرة على الشعب الجزائري هي التقرب من شيخ زاوية أو طريقة بمنصب أو مال) وعمل المستعمر على دعم شيوخ الصوفية ماديًّا، يقول أحد المؤرخين: (إن الحكومة تمكنت من استجلاب الطرق إلى جانبها تمدها بالمساعدات وتحميها، فكان من الطبيعي أن تصبح خدمة الطرقية خدمة للأجنبي ودعائمه) وكان من نتائج هذا الدعم سيطرة الصوفية على تسعة أعشار المجالس المحلية، وأربعة أخماس المناصب القيادية، وثلثي الوظائف في الحكومة الفرنسية ، ويقول صاحب الرسالة: " وبادل الصوفيون الاستعمار الدعم والتأييد بكل قوة، فعندما طلبت فرنسا تقديم الدعم والعون أثناء الحرب العالمية الثانية بادر مشايخ الصوفية في الدعم والمساندة حتى قال أحدهم مشجعًا ومحفزًا الآخرين على الدعم: " وها أنا فرد منكم أقدم نفسي بإخلاص لدفع إعانة مالية عوضًا عن عجز صحتي البدنية قدرها عشرة آلاف فرنك "، ولهذا قال أحد الدارسين والمتخصصين في دراسة الطوائف والملل والأديان وهو "صابر طعيمة": " أعداء الإسلام القدامى والمحدثون أدركوا أن التجمعات الصوفية بمذاهبها وطرائقها وأورادها ومستويات شيوخها خطوط هجوم متقدم لهم، أو ما يسمى في لغة الحرب النفسية "طابور خامس" يعيش في البيئات الإسلامية وذلك لعزل أجيال المسلمين عن أن تعيش الإسلام الصحيح ".(3)
لاحظ أنه قال (الإسلام الصحيح) ولهذا لما نهض المجاهد الشيخ " عبد الحميد بن باديس " لجهاد الفرنسيين في الجزائر رأى في الصوفية استعمارًا آخر بما فيها من انحراف وبدع وخرافات تجعل الصوفي يسير في ركاب المستعمرين فعمل على مجاهدتهم أولاً قبل الاستعمار .
أما الاستعمار الإنجليزي في السودان فيقول عنه الدكتور "عبد القادر محمود": " إن الإنجليز استغلوا تمسك السودانيين بالدين وتعدد الطرق الصوفية فضخموا من شأن رؤسائها واصطنعوا الكثير منهم ليخضعوا الشعب عن طريقهم وأوقعوا بينهم حتى تفرق شملهم بعد أن كان يلتئم في عهد المهديـة " . ا. هـ. (4)
أما الاستعمار الإنجليزي في الهند، ففي رسالة الدكتوراه " أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم في شبه القارة الهندية" يقول الكاتب " خادم حسين إلهي بخش " تحت عنوان (الهند المتصوفة عند الاحتلال الإنجليزي):-
ويصف صاحب (موج كوثر) الوضع السلبي الذي وصل إليه المسلمون كنتيجة منطقية لهذه المعتقدات إبان القرن الثالث عشر الهجري فيقول: (كان القرن الثالث عشر أهم منعطف في حياة المسلمين الهنود، ففيه تم اكتمال تحطيمهم سياسيًّا وأحاط بهم الانحطاط الديني إحاطة السوار بالمعصم، لقد تركوا الهندوسية، غير أنهم لم يتخلوا عنها من الناحية المعنوية، فإن كانوا من قبل يسجدون للأصنام فقد أخذوا ينحنون للمشائخ والقبور الآن، ويطلبون منهم قضاء حوائجهم، فأحلوهم مكان البراهمة في العبادة، ولم يعد الامتثال لأحكام القرآن وسنة سيد الأنام وإتيان الأعمال الحسنة ضروريًّا للتربية الروحية، بل أصبحت هذه الغاية تطلب عن طريق المراقبات وقراءة الأذكار المخصوصة والتفاف المرشد واهتمامه بأمر المسترشد.
(وكانت التمائم والمعلقات في الأعناق والأعضاد نافقة الأسواق، فإذا ألم بالمرء مرض أو أراد الحصول على أهداف معينة سعى في جلب أكبر قدر ممكن من هذه العينات، فيخط له أليوكيون (الكهان) الهندوس ومشائخ الصوفية (بير) خطوطًا مبهمة، وبذلك يمنعونه من الطرق الشرعية المطلوبة في مثل تلك الأحداث).
تلك هي الصورة المجملة التي كان عليها التصوف عند دخول الإنجليز، زهد في الدنيا وانصراف عن سنن الله الكونية، واعتزال عن أمور الحياة، فالدنيا في نظر الصوفي أضحت دائرة عذاب، والمرء يمثل فيها دور المسجون الذي صدر الحكم القضائي في حقه، وأمثل الطرق للعودة إلى مكانه الرفيع أن يترفع عما تحتاج إليه نفسه وتدعو إليه ضروريات الحياة، فليشق على نفسه وجسمه بالرياضات والمجاهدات العصيبة حتى تتحرر روحه من سلطة الجسم والنفس.
ويقول المؤلف تحت عنوان: النظرة السلبية الصوفية إلى الحياة ونتائجها لصالح الفكر الغربي:
وبهذه النظرة السلبية إلى الحياة ينسى المسلم حقيقة وضعه على هذه الأرض، وأنه خليفة الله فيها، ويظن أنه ألقي به في أوحال هذا العالم، وأوساخه المادية، وأن النجاة في البعد والهروب من أحداثها، فينظر إلى الأمور نظرة مشدوه مسلوب القوى لا يعينه إلا نجاة نفسه، فلا تتحمل أعصابه أعباء التحضر والتمدن فضلاً عن إقامة الخلافة الإلهية في الأرض.
وتنتج هذه النظرة السلبية إلى الحياة في القادة والشعب نتائج مفتتة تصل بأصحابها إلى القنوط واليأس وعدم إصلاح هذه الحياة تجتمع أهمها فيما يلي:
1.   تنتزع الرهبة الصوفية خيار البشر من الأمة وتشغلهم بالمجاهدات والرياضات وحمل المشقات عن أمور الحياة، وتضني سواهم فيما لا علاقة له بهذا المجتمع الأرضي على الإطلاق، فتخلو الساحة للأشرار يفسدون ويعبثون وتؤول إليهم أمور الناس دون منازع، فيوجهونها إلى الشر دون الخير وإلى الفساد دون الصلاح.
2.   ينسلخ الصوفي من المسئولية الجماعية، فلا يهتم إلا بتربية نفسه ولا يزعجه إلا نجاة ما بين جنبيه، فكأنه لم يخلق إلا للفردية المؤلمة، لا يهمه من فساد المجتمع أو إصلاحه شيء، ويحقق القولة المسيحية الشهيرة (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) وينسى أو يتناسى قولة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته... ».
3.   تهيئ الصوفية نفوس العامة لتحمل الظلم، والصبر غير المشروع، وتسلب منهم قوة المقاومة والوقوف في وجه الطغيان والاستبداد، فتصبح الأمة لقمة سائغة للظلمة والمتجبرين يخضعون لكل سلطة وحكم، يرتبطون بالغيب ارتباط المتواكل وتارك الأسباب، فلا يسعون إلى تنحية الظلم ونصرة المظلوم، وذلك هو السر الذي جعل الصوفية لا تصطدم بأصحاب السلطة عبر التاريخ.
وهذه النظرة السلبية إلى الحياة كانت خير عون للمستعمرين لاحتلال وسلب خيرات البلدان الإسلامية، فالغربيون مثلهم كمثل من سبقهم من الملوك لم ينشئوا الصوفية إنشاء، كما أنه ليس لهم فضل في إيجادها، وإنما وجدوها قائمة على أسس تخدم النزعة الاستعمارية، وتؤمن لهم مقاليد الحكم دون عناء، فغذوها، وأنفقوا على مشاهداها وزواياها، بعد أن فرضوا لها المرتبات فحققوا هدفين في آن واحد: هدف الحفاظ على التقاليد الدينية الموروثة في نظر الناس، وهدف صرف الأنظار عن الاستعمار واستغلال البلاد.
لذا قضت المصلحة الأوربية أن يشجعوا الصوفية ماديًّا ومعنويًّا أينما وجدت، ويسهلوا لها طرق انتزاع البشر، لقتل الحيوية المسلمة المجاهدة، فاعتنوا بمشائخها وقدموهم على أبراز رعايا مستعمراتهم، وعلى الذين قضوا حياتهم في المصالح الاستعمارية، وفضلوهم على الحكام المحليين في الأبهة والإجلال.
كل ذلك التشجيع جاء ليظل شرع الله وأحكامه الجهادية متوارية عن الناس وليبقى المسلم منصرفًا عن العمل بحقيقة دينه، يطول ليله ويقصر نهاره، ويشتغل عن الجد والكد، ويصرف قواه فيما لا يمت إلى هذه الحياة الأرضية بصلة، فاجتهد المستعمرون عن طريق الصوفية أن يهجر المسلم هذا العالم، ويتنازل عنه، زهدًا فيه وخوفًا من خطره، فحققت لهم طرق الصوفية المتنوعة كل ذلك بالعزلة والانزواء ونزع خيار الشر.
ويقول المؤلف تحت عنوان: مؤسس البريلوية أحمد رضا خان (1272ـ1340هـ): " تجرع الإنجليز مرارة القتال أثناء اشتباكهم مع حركة الجهاد السرهدية التي حمل لواءها الشهيد " أحمد بن عرفان "، وأدركوا أن الإسلام يطبع أتباعه بطابع الشريعة والعقيدة، وأن حركات المسلمين وسكناتهم في العسر واليسر تنطلق من مرتكز ما ينسب إلى الله وإلى رسوله r، فبحثوا عن أفراد يخدمونهم في تنفيذ السياسة الاستعمارية في بني جلدتهم باسم الدين؛ لأنه الطريق الوحيد لتحقيق أهدافهم في البلد الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.
وقد اختلفت طرق كسب هؤلاء الأفراد، فمنهم من جاءهم فرارًا من الفقر ومنهم من أتاهم لاكتساب الجاه والمكانة المرموقة في المجتمع الذي يعيش فيه ومنهم من بذلوا له المال حتى رضي بخدمتهم.
ومن هؤلاء الذين خدموا الاستعمار عن حسن نية، أو سوء قصد الشيخ "أحمد رضا خان" (1865م ـ 1921م) زعيم الطائفة البريلوية، ولفظ البريلوي يعني الانتساب إلى مدينة "بانس بريلي" في ولاية أترابرديش في وسط الهند مسقط رأس "أحمد رضا خان"، ولا يهمنا في شأن دينه ودين من ينتسب إليه إلا أمران: تعاونه المكشوف مع الاستعمار، وتكفيره المسلمين الذين لا يستسلمون لبدعه وانحرافاته عن شرع الله عز وجل تحقيقًا لمبدأ المستعمرين "فرق تسد".

تعاون البريلوية مع الاستعمار
أدلى "أحمد رضا خان" بدلوه في البحوث التي أثيرت حول تعيين دار الحرب من دار الإسلام في الهند، وهداه تفكيره إلى تصنيف كتيب أسماه "أعلام الإعلام بأن هندوستان دار الإسلام " وأتبعه بآخر باسم " أحكام الإمارة والجهاد " وثلَّثهما بـ"دوام العيش في أن الأئمة من قريش" وجميعها تدور حول عدم فرضية الجهاد على المسلمين الهنود، وأن الهند دار إسلام، ولا جهاد في دار تنتسب إلى الإسلام.
وبالعودة إلى الكتيب الأول نجده مقسمًا إلى قسمين: قسم بيّن فيه كاتبه أن الهند المغتصبة ما زالت دار إسلام، لوجود الحرية الدينية في أداء الصلوات  والصيام...، وخص القسم الأخير بتكفير من يسعى في إعادة الهند إلى أصحابها وطرد الدخلاء المسيحيين: " إن الوهابيين مرتدون، يجوز استرقاق نسائهم ولا يجوز إعطاء الأمان المؤبد لهم، ولا تؤخذ منهم الجزية، ولا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم، وإن الصلاة على ميتهم حرام، وإن مخالطتهم ومجالستهم ومحادثتهم ومشاركتهم في أمورهم حرام شرعًا، قاتلهم الله أنى يؤفكون ".
ويحسم النقاش في " دوام العيش " فيعلن بملء فيه أنه " لا جهاد ولا قتال على مسلمي الهند في ضوء الشريعة الإسلامية " ويرد على حركة الخلافة التي أوجدها المسلمون كوسيلة ضغط على الإنجليز لحفظ الخلافة العثمانية ورمز وحدة المسلمين: " إن التقنع بحماية الأتراك خداع محض، وإنما المقصود الحقيقي من وراء حركة الخلافة تحرير الأراضي الهندية دون شيء آخر ".
وحين احتج العلماء على هذه الفتوى سافر البريلوي إلى أرض الحرمين، فنزل ضيفًا على الشريف حسين بمكة ـ حرسها الله- الموالي للإنجليز، وبرر له الخروج على العثمانيين بعد أن كفر الأتراك وأخرجهم من دائرة الإسلام، وصنف كتابًا بهذا الصدد أسماه "حجة داحرة" وخلص فيه إلى القول: " إن الأتراك بدخولهم الحرب ضد الإنجليز خالفوا الآية: (لا تفسدوا في الأرض) فيجب قتالهم والخروج عليهم بحكم القرآن " واستوثق لفتواه من علماء البلاط الشريفي ومدرسي الحرمين.
وأعقب حركة الخلافة حركة المقاطعة التجارية، التي استجاب لها جميع أفراد الشعب الهندي، وتسبب عنها الفساد والكساد في البضائع المصنعة في بريطانيا، ولم يجرؤ أحد على كسر هذا الطوق إلا أحمد رضا بفتواه "المحجة المؤتمنة في آية الممتحنة " فاستفتحه بقوله: " إن المعاملة الدنيوية التي لا تضر الدين ليست ممنوعة مع أحد، سوى المرتدين مثل الوهابية والديوبندية وأمثالهم"، ثم وصل إلى الهدف فصرح " أن المقصود من هذه الحركة هو الحصول على الحرية من الإنجليز لا غير " وقطع الشك باليقين حين قال: (إنه لا جهاد علينا مسلمي الهند بنصوص القرآن العظيم، ومن يقل بوجوبه فهو مخالف للمسلمين، ويريد الإضرار بهم).
ويشرح المعروض الذي قدم في حفل وداع "مايكل فرانسس إدوارد" حاكم البنجاب من قبل علماء البريلوية ما تكن صدورهم حيث يقول: " قبل كل شيء نهنئ معاليكم بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الضروس، وقد انتهت بكل خير في حكم معاليكم الموقر، وقد عادت الدولة البريطانية ذات البركات الإلهية أكثر عظمة من ذي قبل كما صرح بذلك الملك المعظم: إن سيوف الدولة البريطانية ما دخلت غمودها حتى نال العالم الحرية والأمن، وعم الخير والرفاهية بين الشعوب المستضعفة... ولا ننسى ذلك الفضل الذي منت به علينا حكومتكم الرشيدة، حين أيد سفهاؤنا الأتراك، وساندوهم فيما يبتغون، كل ذلك أتى نتيجة عدم وعيهم وإعطاء الأمور حقها من الفهم والإدراك ومع ذلك فقد أكد لنا ملكنا المعظم بعدم انتهاك مقدساتنا الإسلامية، وأن هذه الروح الفياضة جددت فينا الحب والولاء، ونرجو من معاليكم بعد العودة إلى بريطانيا أن تؤكدوا للملك أن وفاءنا وولاءنا لن يتغير أبدًا، مهما قامت المحن والثورات، وأنا على ثقة أن أتباعنا في الجيش سيكونون أوفياء لملكنا المعظم دومًا وأبدًا...، وإنا نأسف على أعمال أولئك الأعداء، أعداء الوطن الذين نظموا الاضطرابات والتجمعات غير الشرعية، وشوهوا وجه منطقة البنجاب الجميل، ونعود فنؤكد لمعاليكم أنا ننكر تلك الأعمال بشدة؛ لأن كتابنا العظيم يوصينا بالابتعاد عن ذلك ".
ويسجل شاهد الإنجليز فرانسس روبنسن شهادته في أحمد رضا خان فيقول: " إن البريلوي كان عمله حماية الحكومة الإنجليزية، فإنه أيد الحكومة في الحرب العالمية الأولى، واستمر في هذه الحماية والتأييد للحكومة حتى أيام حركة الخلافة سنة 1921م، وعقد المؤتمر في (بريلي) وجمع فيه العلماء الذين كانوا يخالفون ترك موالاة الحكومة، والذين كان لهم أثر كبير في نفوس العامة المتعلمين والدارسين المسلمين" . (5)

س: لكن هناك طوائف صوفية قامت بالدفاع والجهاد ضد الاستعمار مثل الحركة المهدية في السودان والحركة السنوسية في المغرب العربي وغيرها من الطوائف الصوفية؟
ج: أنا لم أقل إن أي طائفة عندها شيء من التصوف لاحظ عبارة (شيء من التصوف) لا تجاهد الأعداء وترضى بالمستعمر وتساعد على احتلال البلاد الإسلامية، أنا أقصد من كلامي الفرق الصوفية التي قامت أصولها على مخالفة الكتاب والسنة لا التي دعوتها قائمة على الأخذ بالكتاب والسنة والدعوة إلى الأخذ بهما والاستدلال بهما والاعتماد عليهما، لكن لديها شيء من التصوف أو داخلها شيء من بدعه أو بدع غيره، فالمهدية والسنوسية أقرب من غيرهم من الطوائف إلى الكتاب والسنة وإن كان عندهم باطل لا يمت إلى الكتاب والسنة بصلة، ولهذا جعلها كثير من الدارسين جماعات وطوائف متأثرة بالوهابية والتعبير بـ (متأثرة) أفضل من غيرها من العبارات ـ ولأن لديها بعض المخالفات الباطلة، لكنها وافقت السلفية في بعض مبادئها ، التي من ضمنها جهاد الأعداء وعدم خيانة الإسلام والغدر بالمسلمين، ومبادئ تمنع من تقديم الدنيا على الآخرة، وتمنع من الولاء لأعداء الإسلام، وتوافقها في تكفير الكافرين والبراءة منهم ومن دينهم وتوافقها في الحث على عقيدة التوكل على الله، والحث على جهاد الكفرة، والدعوة إلى الأخذ بنصوص الكتاب والسنة مباشرة.
 ومما يدل على أن هاتين الطائفتين ليستا من الطوائف القائمة على مبادئ التصوف الطرقية ومحاربتهم للتصوف، أن زعيم الطائفة المهدية في السودان " المهدي" أمر بتوقف العمل بالطرق الصوفية كافة لما رأى انعزالها في الخلوات مع الأوراد والأذكار المختلفة ومنع كل تجمعاتها والعودة إلى القرآن فقط، وضرورة التكتل صفًّا واحدًا بسبب الظروف السياسية والاجتماعية سعيًا للتحرر والاستقلال. (6)
ولعلك تلاحظ التقارب بينه وبين الشيخ "عبد الحميد بن باديس" -رحمه الله- في قضية محاربة التصوف والحركات الصوفية لأجل محاربة الاحتلال؛ فهذا يدل على ما عند هذه الطرق من الخنوع والخضوع والاستسلام للمحتل فضلاً عن مساعدته ومعاونته طلبًا للمال والمنصب والدنيا دون الآخرة.
ومما يدل على أن الطائفة أو الفرقة كلما كانت تدعو إلى الأخذ بالكتاب والسنة والاستدلال بهما والدعوة إليهما وتطبيقهما، كانت أبعد عن الخيانة للإسلام والغدر بالمسلمين والوقوف مع الأعداء والمستعمرين، أننا نجد الفرق والطوائف التي كانت أبعد من الطوائف الصوفية عن الأخذ بالقرآن أو السنة وأكثر مخالفة للشريعة ـ نجدها أكثر خيانة للإسلام والمسلمين وأكثر صراحة في الوقوف مع الأعداء والمستعمرين ومساعدتهم ومعاونتهم والتآمر معهم ضد البلاد الإسلامية كالطوائف الباطنية.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه « تاريخ المذاهب الإسلامية»: " إحدى الفرق الباطنية كانت النصيرية عند هجوم الصليبيين على العالم الإسلامي كانت عونًا للصليبيين على بعض البلاد الإسلامية؛ قربوهم وأدنوهم وجعلوا لهم مكانا ً مرموقًا. وعندما توجهت الجبهة الإسلامية في وجه الصليبيين على يد قادة الجهاد الإسلامي أمثال نور الدين محمود وصلاح الدين اختفى هؤلاء عن الأعين واعتصموا بجبالهم، واقتصر عملهم على تدبير المكايد والفتن والفتك بكبراء المسلمين وقوادهم العظام. ولما أغار التتار بعد ذلك على الشام والاهم هؤلاء النصيريون كما والوا الصليبيين من قبل، فمكنوا التتار من الرقاب حتى إذا انحسرت غارات التتار قبعوا في جبالهم قبوع القواقع في أصدافها لينتهزوا فرصة أخرى ". (7)
ومن تاريخ الفرق الباطنية القائم على الخيانة والغدر بالإسلام والمسلمين؛ يقول نديم حمزة في كتابه " التنوخيون أجداد الموحدين الدروز ": بعد سقوط مدينة أنطاكية بيد الصليبيين عام 490هـ، وتمكن القائد الصليبي بوهيموند من جعل أنطاكية مملكة له، أخذ في الاستعداد للزحف جنوبًا قصد السيطرة على بيت المقدس في فلسطين، فتحركت جموع الصليبيين صوب جنوب بلاد الشام مستولية على ما في طريقها من مدن وقرى. في هذا الوقت كان التنوخيون يشكلون عماد دعوة الدروز الموحدين في جبل لبنان، وتذكر المصادر أنه عندما توجه الصليبيون نحو الجنوب لم يلاقوا أي مقاومة من قبل الأمراء المحليين؛ بل إن بعض هؤلاء الأمراء صالح الصليبيين وأعطاهم الأمان. أما التنوخيون الدروز فكان موقفهم من الزحف الصليبي سلبيًّا للغاية، فلم يتعرضوا سبيل القوات الصليبية القادمة من أنطاكية والمتجهة إلى بيت المقدس ولم يمسوها بسوء؛ بل مرت بأمان من جوارهم.
لم يقف التنوخيون الدروز عند حد وقوفهم متفرجين على الزحف الصليبي؛ بل تعدى الأمر لأعدى من ذلك حيث قام أحد زعمائهم بمصالحة الصليبيين والانسحاب من صيدا وتسليمها لهم، ففي عام 495هـ ولى شمس الملوك دقاق ملك دمشق عضد الدولة علي التنوخي على مدينة صيدا نائبًا عنه هو الأمير مجد الدولة محمد بن عدي، وظل في صيدا إلى أن سقطت بيد الفرنج عام 504هـ، فخرج منها بعد أن صالح الفرنج عليها بالأمان. ظل الزعماء التنوخيون فيما بعد على هذه الشاكلة؛ إما مصالحين للفرنج متفرجين عليهم أو يعقدون العلاقات الودية معهم وتقديم العون لهم. ففي عام 528هـ انتقلت إمارة التنوخيين إلى الأمير بحتر بن شرف الدولة علب والذي استطاع أن يحافظ على منطقة الغرب والتهيئة لسقوطها في يد الصليبيين وذلك بسبب مهادنته لهم وعدم الوقوف في وجههم ومحاربتهم.
وفي أيام دولة المماليك وعندما كان الظاهر بيبرس يعمل على استعادة السواحل من الفرنج ازدادت شكوكه في علاقة الأمراء التنوخيين الدروز بالصليبيين، فعلم باتصال الدروز بوالي طرابلس الصليبي؛ فتوجس منهم خيفة وأصدر أمرًا بالقبض على هؤلاء الأمراء ليأمن غدرهم ووضعهم في السجون، وعندما توسط بعض الأمراء من المماليك لدى الظاهر بيبرس للإفراج عنهم كان جواب السلطان: " هؤلاء لا أفرج عنهم أوذيهم حتى أفتح طرابلس وبيروت وصيدا ".(8)
 
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

----------------------
(1) (المرجع كتاب ) أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب " تحقيق الدكتور عبد الرحمن الفريوائي ص 51).
 (2) كتاب أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها للعلامة محمد حامد الفقي، ص 94.
(3) رسالة " معوقات الجهاد في العصر الحاضر، رسالة دكتوراه: عبد الله العقلا ص 90.
(4) كتاب: الفكر الصوفي في السودان، ص 122.
(5) كتاب " أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم بشبه القارة الهندية " للمؤلف خادم حسيم إلهي بخش ص 339-342.
(6) كتاب الفكر الصوفي في السودان، للدكتور عبد القادر محمود، ص 100
(7) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 64 ".
(8) التنوخيون أجداد الموحدين الدروز، نديم حمزة، ص 81-110.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية