اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khojah/120.htm?print_it=1

تقنين الحجب

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم
تقنين الحجب


ما هو مطلوب إزاء المؤلفات المنحرفة ( الموجودة في المعارض أو المكتبات وغيرها )، تقنين الحجب والمنع.
طبيعة هذا التقنين يتمثل في ثلاثة أشكال من الحيز:
1- حيز للمأذون فيه.
2- حيز للمأذون فيه "بشرطه".
3- حيز للممنوع فيه.

فالمؤلفات على قسمين؛ فالمفيد البريء من أي انحراف، لا إشكال في إتاحته للجمهور، فيوضع هذا القسم في (حيز المأذون فيه)، أما الضار المتهم بالانحراف، فنوعان:

الأول: مؤلفات ضارة لكن بمنهجية ومنطقية في الاستدلال، سواء صح منطقها أم لا.
في الفكر أو الخلق، فهذه توضع في (حيز المأذون فيه بشرط)، ثم لا تكون في متناول الجميع، بل للباحثين والمتخصصين، الذين يطلبون هذه الكتب لغرض البحث والنقد.
هذا النوع يتاح؛ لمعرفة طرق الاستدلال عند المنحرفين فكريا، وكيفية تتبعها بالنقد والكشف عن مواضع الخلل والضعف، وما فيها من ثغرات مكشوفة؛ لأجل تحصين الفكر الصحيح والمنطق الصحيح من الدخيل، فهو موجود في كل حال، وأثره قد يسرى إلى العقول، فلا بد للمتخصصين من معرفة طرقه، ليمارسوا مهمتهم في التحصين بالتصحيح؛ وقد يستدل هنا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود.
الثاني: مؤلفات ضارة فارغة من الفكر.
ليس فيها إلا الصريح من السب والشتم للمقدسات والرموز، وفيه الخلاعة والمجون، من غير فكر ولا منطق استدلال وطريقة في العلم، فهذا توضع في (حيز الممنوع)، بمعنى أن تجمع ليرمى بها خارج نطاق المكتبة والمعرض، فليست بمحترمة حتى توضع في رفوف مكتبة. ذلك لأن الله تعالى يقول:
- {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}.
- {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}.
فنهى عن الجلوس في مجلس فيه فكر منحرف، يجاهر بالخوض بالكفر والاستهزاء بآيات الله، إلا أن يكون ناصحا أو يفارق، فإن أقام على رضا، فهو مثلهم في الإثم.
هذا الحكم فيمن لا يملك المنع، فكيف بمسئول يملك منع الانحراف في دائرته أو محيطه، ثم لايفعل، بل يسمح ويحمي، فما يكون حكمه حينئذ ؟.
كذلك، فإن الله تعالى كفر الذين استهزءوا بالقراء، قالوا:
"ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء".
فنزل فيهم قوله تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
فهؤلاء كان انحرافهم صريحا، فلم يؤذن لهم من طريق حرية الرأي، بل أخذهم الله تعالى بحكمه، كذلك كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ عبد الله بن أبي ابن سلول، فيقيم عليه حد الردة، لقوله: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}. لكنه امتنع من ذلك معللا بقوله: (لا يتحدث الناس؛ أن محمد يقتل أصحابه).
فكل هذا دل على أن الانحراف الصريح، بكلام صريح من الإثم إجازته والفسح له.
والفرق بينه وبين الانحراف ذي الصبغة الفكرية؛ أن هذا الأخير خطير يحتاج إلى مواجهة بالحجة والبيان؛ لأن يتخذ سبيل الإقناع والعقلانية، فكان تركه لمحاربته بالحجة هو المتوجب، بخلاف مؤلف أو رواية ملئت سبابا أو خلاعة، فإنها مفضوحة بنفسها.
هناك نوع من المؤلفات تضمنت إيحاءات منحرفة غير صريحة ملتبسة محتملة؛ فكرية أو عقدية أو خلقية أو غير ذلك، فهذه الرأي فيها: أن تضم إلى (حيز المأذون فيه)، مع المؤلفات المفيدة، وإن لم تكن من جنس المفيد. ذلك لأنها لم تفصح عن انحرافها، فعوملت معاملة المنافقين في الدنيا، حيث يؤخذ بظاهرهم، وسرائرهم إلى الله.
وقد كان يظهر من المنافقين إيحاءات بلحن القول: {ولتعرفنهم في لحق القول}. ومواقف غير واضحة ولا صريحة ملتبسة، فيتركون مع المؤمنين ولا يؤاخذون، وإنما الفصل بينهما يوم القيامة، يضرب بينهما بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.
إذن، في حيز المأذون فيه نوعان: المؤلفات المفيدة، وذات الإيحاء غير الصريح الملتبس.
وفي حيز المأذون فيه بشرطه: المؤلفات الضارة، لكن ذات منهجية في الاستدلال.
وفي حيز الممنوع: المؤلفات الصريحة بالكفر، أو الفجور، ليس فيها منهج ولا منطق.

فكرة "المنع" (= الحيز الممنوع) تقوم على مبدأين:
الأول: وجود انحراف في القول والفكر في هذا العالم. وهذا مما لا شك فيه، عند من له دين أو عقل، فمن لم يكن وفق الشريعة، فهو قطعا منحرف عنه، والله تعالى يقول:
- {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
- {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}.
- كل نصوص الردة تدل على وجود انحراف في القول والفكر.
الثاني: أن هذا الانحراف ممنوع منه. بمعنى يجب على الإنسان: أن يمنع نفسه منه. وعلى المسئول: أن يمنع المجاهر منه. والمسئول هنا هو ولي الأمر:
- فإن كان مسئولا في المحيط الأسري، فقوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة}.
- وإن كان في مسئولا في محيط البلاد، فقوله صلى الله عليه وسلم: (الإمام راع، وهو مسئول عن رعيته}.
هذه المسئولية الملقاة على هؤلاء الأولياء تعني: وجوب منع كل فكر منحرف عن الرعية، مهما أمكن ذلك، بعدم إتاحته من قبل هذا الولي، أو بصرفهم عنه إلى غيره.
فإن عرفوه من طريق ما، عمل جاهدا على نزع ما فيه من إغراء وجاذبية، حتى لا يغتر به الجاهل، والناشيء، ومن لا خبرة لديه.
وقد يعترض على مبدأ "المنع" بالتشكيك في فائدة الحجب، وإمكانية الحجب.
فمما اشتهر من الكلام: أنه الحجب لا فائدة منه، بل يولد الكبت والانفجار، والسعي في التفتيش والبحث من مصادر أخرى.
وهذا تقرير سلم به كثير من الناس، على خطئه !!!.
كلا، بل للحجب فائدة.. فليس كل الناس يتطلعون لفك الحجب، فمن الناس من إذا لم يجد في طريقه كتابا منحرفا فكريا أو أخلاقيا، لم تنبعث نفسه للبحث عنه.
إذا لم يجد في طريقه عاهرة لم يبحث عنها في دور العهر.. أو ملحدا لم يفتش عنه.
وأكثر الناشئة لا خبر لهم بهذه الكتب، ولا يدرون بها؛ لقلة قراءتهم، أو لانصرافهم إلى اللهو، فبأي منطق يتاح لهم المؤلفات المنحرفة، لتكون بين أيديهم ميسرة سهلة التناول ؟.
هذا قطاع كبير، لا يعاني الحجب ولا يسأل عنه، فكيف يقال: الحجب لا ينفع ؟.
ثم في الحجب امتثال لأوامر الله تعالى، بالإعراض والامتناع من الأقوال والأفكار المنحرفة انحرافا صريحا ظاهرا، فهل ينسجم معها إتاحتها وجلبها للجمهور ؟.
يوالي المعترض فيقرر: أن التحصين أجدى من المنع والحجب. فيقال:
هب أنك في سوق، ولديك دكان، وإلى جانبك دكاكين: يبيعون الخمر، والخنزير. ويتعاملون بالربا، ويغشون.
فهل وجود هذا الانحراف يسوغ أن تبيع مثلهم، بدعوى التحصين ؟.
كلا، بل يبيع ما يرضي ربه وضميره، والله تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.
فهذا خطاب للمؤمنين، ولا يتمثل له إلا المؤمنون.
عن التحصين، لا يلزم له تقليد المنحرفين، فقد يتم التحصين ببعض الصغائر، كتطعيم البدن بشيء ونزر يسير البكتيريا؛ لأجل التحصين من أمراض: الحمى الشوكية، والشلل وغير ذلك، لكن لا يجوز للتحصين تطعيمه بمقدار كبير يهلك البدن.
والإذن بالمؤلفات المنحرفة الضارة الفارغة، هو كتحصين البدن بجرعة مهلكة من البكتيريا.
ثم، إننا لا نرى في هذه الوسائل التي هي أوعية لاحتضان الفكر المنحرف، ونشره بدعوى التحصين، أي ممارسة فعلية للتحصين، بل كل ممارسات وأفعال وسائل الإعلام في اتجاه تعميق الانحراف الفكري والسلوكي، وليس للتحصين إلا المقدار الضعيف، وفي غير أوقات التصحين، بل في الأوقات الضائعة.
إن محاولات خلق تعارض بين التحصين والمنع، نوع تضليل، بل هما على خطين متوازيين، فالتحصين يعين عليه المنع، والمنع يعين على التحصين، كما في الأمراض، أليس من سبل التحصين من المرض: المنع من أشياء معينة. ومن سبل المنع من المرض: التحصين ؟.


 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية