اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khojah/136.htm?print_it=1

أظلم النيّر

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم
أظلم النيّر


معاشر الإخوة!.
عندما يظلم المنير، ويسود البياض، ويختفي المشهود، ويحتجب الحاضر، وتستوي أنحاء السماء على الظلمة، وتغدو النجوم بلا سيد، كصغار بلا قيم.. فثمة أمر قد نزل ؟!!.
التغير يلفت النظر، وتبدل الحال يُنطق بالحكم، والمتيقظ يعي ويدرك ما حدث، لم حدث؟، والنائم والصبي والمجنون رفع عنه القلم، والساهي اللاهي يراه حدثا رائعا ولحظة نادرة تبدد الملل..{إن سعيكم لشتى}..
في الدنيا: متع، ونذر، وحساب وعقاب.. هكذا على الترتيب؛ تبدأ متعا مباحة، فإن تمادت محرمة، وقعت النذر. فإن تمادى، جاء الحساب والعقاب.
والنذر - ما بين المتع المحرمة والحساب - أنواع منوعة ومراتب ودرجات بعضها فوق بعض، فمن أرهبها وأخوفها ظلام النيّر؛ كسوف الشمس وخسوف القمر.
ذلك الخسوف درجات، فخسوف جزء ليس كخسوف نصف، والنصف ليس كخسوف التمام والكمال؛ حينها يدخل الكون في ظلمة دامسة: {إذا أخرج يده لم يكد يراها}.
الأصل في العالم الظلمة. ظلمة الجهل والطغيان والعتو والجبروت والفساد، بالخلو من معرفة الله تعالى وتوقيره، فـ (الدنيا ملعونة معلون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالم ومتعلم)، وإنما أنيرت بالوحي النازل من الرب جل شأنه على أنبيائه الكرام، وقيام المؤمنين به تعظيما وتطبيقا: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}.
وعندما يخسف بالقمر، فعلامة من علامات يوم القيامة؛ ألا يجب أن تكون علامة القيامة المرتحلة إلينا عائدة من المستقبل، أو السابقة قريناتها بالظهور: منذرة مخوفة بشيء ما ؟.
- {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل أيان يوم القيامة * فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر }.
أين الطبائعيون والفلكيون من هذا، وهم يجهدون في صرف الناس عن الاعتبار بهذا النذير؟
وعندما يخسف القمر، فعلامة على تراجع حال الناس إلى حال الظلمة ما قبل الوحي؛ أوضاع الجهل والفساد والجبروت والطغيان.
وقدر الخسوف ودرجته، على قدر تلك الظلمة في الأرض وفي القلوب والعقول والأبدان.
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع كسوف الشمس، فتساءل ناس هذا اليوم:
كيف يقع هذا، ويراه النبي المصطفى المجتبى، سيد ولد آدم، خليل الله تعالى، وزمنه خير الزمان ؟. لو كان نذيرا، فما هو بالمستحق أن ينذر. فما بقي إلا أنها ظاهرة كونية لا غير.
لكن فات هؤلاء أن يتأملوا في حاله صلى الله عليه وسلم، وهو يسعى يجر إزاره، ويقف ليصلي صلاة طويلة قدر وقت الكسوف حتى انجلى، ثم قام يخطب فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده.. فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة).
ثم ذكر رؤيته للجنة والنار، وقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا) قال: يخوف، فافزعوا، بكيتم كثيرا.. كل هذا لماذا ؟.
ألمجرد أنه حدث فلكي ((رائع))، وظاهرة طبيعية متكررة..؟!!.
أو أنه تعالى يخوفنا بغير ذنب؟!.
من ينكر النهار والشمس في وسط السماء، ففي عقله شيء، أو في قلبه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}، ومن سنة الله في عباده: أنه إذا أنذر أو أرسل عذابا، فنذيره وعذابه يعم ولا يخص: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، كنعمه، أليس الغيث إذا أتى، سقى البر والفاجر، المؤمن والكافر ؟.
فإن النذر العامة تستوعب أمما ودولا كالعقوبات العامة. فكيف للشمس أو القمر أن يخسف على فئة المجرمين والظالمين والعتاة وحدهم، وهي تظهر لجميع من في الأرض في السراء والضراء، صيفا وشتاء، حتى يوم القيامة تبدو لجميع الناس ؟.
إنه يخسف؛ ليكون نذيرا للمسيء ليتوب، وللمحسن ليستمسك بإحسانه، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم أكمل العهود والأزمان إيمانا، فلم يكن الكسوف فيه لأجل حوادث مسيئة كانت في المدينة، بل لإساءات العالمين في الأرض حينئذ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وحدود حكمه جزيرة العرب، ولما يدخل الإيمان في قلوب كثير من أهلها؛ إذ ما دخلوا في الإسلام إلا بعد الفتح، والعوالم من حولها لا زالت على الشرك والفجور والفحشاء والظلم والبغي، وقد رأوا من كسوف الشمس ما رآه الناس في المدينة، فهو من النذر إليهم، وكل من رآه فهو نذير في حقه.
لقد كان من ذنوبهم المشتهرة الزنا، وقد ذكر التاريخ ألوانا من هذا الفساد، كان في العرب بغايا، ولهن رايات على بيوتهن، وكانت المرأة تُنكح من عشرة من الرجال، ثم إذا ولدت تلحق ولدها بمن شاءت منهم، وكان فيهم من يبعث بامرأته إلى أحد الفوارس لتنكح منه، رغبة في نجابة الولد، هو ولد من ؟. لا يهمه ذلك ما دام ينسب إليه.
وفي الشام كان الروم يمارسون أنواعا من البغاء والرذيلة والعري لا مثيل له في التاريخ، يشابههم في ذلك الأقباط في مصر، إلى الفرس الذين انتشر فيهم دين زرادشت الإباحي؛ الذي كان يبيح نكاح الأمهات والأخوات والبنات.
وفي خطبته صلى الله عليه وسلم قال: (يا أمة محمد!، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته).
هذا الذنب يفشو كلما ضعف سلطان الشريعة؛ فإنه أقرب الشهوات إلى الإنسان، وأسرعها إليه، ولا تحتاج إلى كلفة، والزناة العتاة لا يبغضون شيئا مثل الشريعة؛ التي تحجز بينهم وبين فجورهم، ولو أقسم إنسان: أن من أعظم أسباب كثرة الخسوف والكسوف في العقود الثلاثة الأخيرة بصورة غير معهودة قبلها، انتشار الزنا في الأرض: لما كان حانثا.
لقد أحصي عدد الأيتام في دور الرعاية الاجتماعية قبل بضع سنوات، فكان عددهم يفوق عشرة آلاف يتيم أو لقيط، فجلهم أولاد غير شرعيين، فهذا نتاج محرم، وهناك علاقات محرمة لم تنتج، فلو جمعتها كم يكون العدد ؟!!.
هذا عندنا، فكيف بغيرنا ممن يجاهر بهذه الخطايا، وينشئ لها الدور ويضع لها القانون للحماية والرعاية، وقنوات فضائية لا تحصى تعرض على الملأ كل العري والعلاقات الجنسية بأنواعها ؟!!.
في الأرض اليوم فساد عريض تعلق بالفروج خاصة، وهو خطيئة مكروهة لقلب المؤمن، إذا سمع بها أو بلغه خبرها تغير قلبه ألما، فتبدو الكآبة والحسرة على وجهه المنور بنور الإيمان، كذلك القمر، خسوفه تعبير مشابه لما يعتري المؤمن.
إن القمر أحد مخلوقات الله تعالى، وهذه المخلوقات تتوجع مما تحس به من خطايا بني آدم؛ فهي تفرح بطاعته، وتحزن وتسخط من جريمته؛ لذا لم تبك على فرعون وآله لما هلكوا.
سأل رجل ابن عباس: "يا أبا عباس، أرأيت قول الله: { فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}، فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟، قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء، منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن، فأغلق بابه من السماء، الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه: بكى عليه.
وإذا فقده مصلاه من الأرض، التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها: بكت عليه. وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض" [تفسير ابن كثير سورة الزخرف]

روى البخاري في صحيحه عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - أنه كان يحدث: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه))، قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ قال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب)) برقم (6147)؛ ومسلم برقم (950).
فنصوص القرآن والسنة تبين: أن أفعال الناس مؤثرة في حوادث السماء والأرض، بالفساد يقول تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
كذلك بالصلاح، يقول تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}.
ليس بإرادتهم يؤثرون، لكن الله تعالى كتب أن أفعالهم الطيبة تجعل الأرض طيبة تخرج طيبا، والسيئة تجعلها خبيثة: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون}.
قالوا: كيف يكون الخسوف نذيرا وعظة، ونحن قد جدولنا وقت حدوثه لأعوام قادمة، لم نخطيء فيه بدقيقة واحدة ؟.
وكأن هذا يريد من النذر والعقوبات أن تكون فقط بغتة.. كلا، بل تأتي كذلك، وتأتي بمقدمات سابقة، هذه البراكين تحرق ما أمامها، لا يدعي أحد أنها نعمة، إنما هي عذاب ونقمة، وكل من حولها يعلمون وقتها، والأعاصير مثلها. غير أن الكسوف نذير بنقمة، تدفع بالأعمال الصالحة وترك السيئة، فتندفع بإذن الله وترفع العقوبة.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية