اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khojah/153.htm?print_it=1

متى يكفر المرتكب للكفر ؟.

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم


التكفير شرط لكل ملة.. ما معنى هذا؟.


حتى يكون المرء مسيحيا عليه أن يؤمن برسالة عيسى السلام، ويتبعه على تعاليمه، هذا في المسيحية الحقة، أما المحرفة فعليه أن يؤمن به ربا وابنا للإله تعالى، فمن كفر بهذا؛ أي أنكره وجحده، لم يعد مسيحيا. كذلك البوذي واليهودي وغيرهم.

أن يكون من أتباع ملة أو خارجا عنها، يحدده امتثاله أو عدم امتثاله لا شيء آخر، تماما كالذي يكون من رعايا دولة ما، حاصل على جنسيتها، تمتعه بهذه الجنسية ليس أبديا لايزول، بل يخضع لامتثاله لشروط التجنس أو عدم امتثاله.

كذلك الإسلام، حصله بالشهادتين وإقامة الأركان الخمسة والستة، واجتناب النواقض، فإن أخل بالشهادة أو بالأركان، فقد تعرض للتخلي عن الإسلام والخروج منه.

بمعنى آخر: ما حصل عليه الإنسان بشرط، يفقده إذا لم يلتزم الشرط. وكل الملل والأديان والعقائد لا تحصل للإنسان إلا بشرط، هو: أن يلتزم أركانها وأصولها، وإلا فليس من أتباعها.

هكذا ندرك أن التكفير جزء من كل دين وملة وعقيدة؛ لأنه السيف المصلت على كل من أراد أن يعبث بالأصول والأركان، إما بتركها أو نقضها، ينزل عليه فيقصيه ويبعده ويعتبره أجنبيا؛ ليس بينه وبينه صلة.

بعد هذا، لا غرابة ولا عجب إذا قلنا: إن التكفير جزء من ديننا، ينزل بالذي ركب وفعل ناقضا من نواقض الإسلام، فيبعده من جملة المسلمين، ويلحقه بجماعة الكافرين، ويعامله مثلهم في أحكام الفقه والاعتقاد، وتفاصيل ذلك معروفة في كتب الفقه والعقائد.

هو سيف يخيف كل عابث أو متهتك، إما من عقوبات الدنيا؛ قتله ردة، والتفريق بينه وبين أهله، وعدم دفنه في مقابر المسلمين. أو عقوبة الآخرة، وهي دخول النار خالدا مخلدا فيها.

لأجل هذا، فلا يلتفت إلى ادعاءات لا تصدر إلا من جاهل أو مخادع، تقول: إن المسلم لايكفر أبدا، وأنه معصوم من ذلك.

هذا قول ساقط بمرة، وهو كشف عن جهل مركب فاضح؛ لا يدري ويزعم أنه يدري. فأين هو من آيات كفرت وأعادت مرارا وتكرارا، كقوله تعالى:

{لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
{إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم..}.
وقد يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب).

وهو لا يدل على ما زعموا؛ فالحديث عن جزيرة العرب، وليس عن كل المسلمين، ومعناه: أنه أيس أن يعيد جزيرة العرب مشركة كما كانت قبل الإسلام.

هذا الفريق المفرط في هذا الأصل؛ الذي امتنع من تكفير حتى من دعا غير الله، وذبح لغيره، وتقرب بالعبادات إلى فلان وعلان: يقابله آخر أعمل آلة التكفير على المقبل والمدبر، وتساهل في إطلاق هذا الحكم، فوسم به من لا يستحق، أو استعجل قبل التحقق وسماع أعذار المتهم بالكفر.

وفي التاريخ هناك فرقتان تقابلتا في مسألة التكفير..

فرقة المرجئة – خاصة الغلاة منهم – امتنعوا من التكفير لأحد شهد الشهادتين، مهما أتى من أفعال ناقضة للدين، مهما ترك من أركان الدين.

وفرقة الخوارج كفرت كل مرتكب لكبيرة، وحكموا بخلوده في نار جهنم.

وكل من الفريقين لهم امتداد تاريخي، وإن كان التهاون في التكفير والتحرج منه، أغلب على الناس اليوم، وأما القول بتكفير من فعل الكبيرة، ففي حالة فناء وتلاش.

في منهج أهل السنة والجماعة قاعدة وأصل، لطالما درسه وعلمه كل طالب للعلم، بثه العلماء بين الناس، يدفعون به الغلو في التكفير، وهو:

التفريق بين الفعل والفاعل للكفر.


فعندما يباشرون النظر، يتحققون أولاً من ثبوت الكفر وصفا لعمل ما؛ مثلا إذا وقع استهزاء بالله تعالى أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بالدين وعلمائه وطلابه، نظروا هل هذا الفعل كفر في نصوص القرآن والسنة ؟.

فعندما يقفون على آية التوبة: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.

يجدون فيها تكفيرا صريحا للمستهزئ بشعائر الله تعالى، يؤيده أخبار السيرة وأحاديث السنة.

وبهذا يثبت وصف الكفر على هذا الفعل، وهو: الاستهزاء بالدين.

ثم يلتفتون بعدها إلى من يقع فيها، ويتساءلون: هل من وقع في الكفر، هو كافر بالضرورة؟.

وقد يتساءل أحدنا: ولم لا، إذا كان الفعل كفرا، ففاعله كافر. هذه هي النتيجة.

لكن منهج السنة يقول غير هذا؛ يقول: إذا وقع أحد في عمل ثبت أنه كفر، فلا يكفر بمجرد أنه وقع وفعل الكفر، بل قبل تكفير بعينه وذاته، هناك مهمة قبلها، وهي ما يسميه أهل السنة: إقامة الحجة.

إقامة الحجة بالكفر على من وقع فيه يكون بأمرين: إثبات الشروط، وانتفاء الموانع.

أن يكون: عاقلا غير مجنون، بالغا ليس صغيرا، ذاكرا غير ناس، عامدا غير ذاهل، قاصدا غير مخطئ، عالما غير جاهل، مختارا غير مكره، غير متأول ولا اشتبه عليه الأمر.

فإذا تحققت هذه الشروط كلها وانتفت الموانع كلها وليس بعضها، وهي لن تتحقق – في كل حال- على يد كل أحد، إنما التكفير حكم شرعي، يتحمله القضاء الشرعي بأمر الحاكم، فإن قام به أثيب.

إذا تحققت الشروط بالطريق الشرعي، ترتب عليه الحكم بكفر الفاعل الذي وقع في الكفر، إن كان مستهزءا أو سابا وشاتما لله أو رسوله أو كتابه أو دينه، أو يدعو غير الله شيئا لا يقدر عليه إلا الله تعالى، أو يذبح لغير الله، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يوالي أعداء الله، كلها من أعمال الكفر التي لا يقع الكفر فيها إلا على من أقيمت عليه الحجة.

* * *

قال الله تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا }.

أي إن الله تعالى لا يؤاخذ عبدا، حتى يعلم ويفهم دين الله تعالى ما هو؟.

وقال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.

أي إن من فعل الكفر مضطرا لإكراه ونحوه، فهو معذور مغفور له.

وقال تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، في الحديث: (قال الله: قد فعلت).

أي لا يؤاخذ الله تعالى الناسي والمخطئ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

وفي الحديث أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق).

فعذر الصبي، والمجنون، ويلحق به السكران لو نطق بالكفر، وكذا حديث النائم.

كل ذلك مما لا يؤاخذ به عند الله تعالى بمثل هذه النصوص الصريحة، التي منها أخذ العلماء مبدأ إقامة الحجة، في كل كفر يقع من الإنسان.

كذلك قول الرجل بعدما وجد دابته الضالة فرحا: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك). أخطأ من شدة الفرح، فلم يؤاخذ لغلطه في الكلام بغير قصد وعمد.

ورجل آخر حضرته الوفاة، وكان مسرفا على نفسه بالذنب، قيل كان ينبش القبور، فقال: "إذا أنا مت، فاحرقوني ثم ذروني في الهواء، فلئن قدر الله علي، ليعذبني ".

ففعلوا به ذلك، فأمره الله تعالى الأرض أن تؤدي ما عليها والبحر، فاجتمع عند الرب، فقال له: (ما حملك على ما صنعت؟. قال: خشيتك يا رب. فغفر له).

فهذا اعتقد من الرأي ما هو كفر بالإجماع؛ أن الله لن يقدر عليه، وأنه لن يبعث.

لكن درء عنه الكفر، ذهوله عن لوازم كلامه، فلم يؤاخذه الله بما يقول، وما في ظنه حال الذهول، فعلم أن العمد والقصد والذكر كانت من شروط التكفير للمعين.

في كل ما سبق، نرى احتياطا بالغا في نصوص الشريعة، حين الولوج في تكفير شخص بعينه لما يواقع الكفر، ولا يكرون عليه بالكفر لمجرد استهزاء أو سب وشتم أو غير ذلك، ولا يعملون بشرط دون شرط، كما يفعل بعض الناس؟!.

لا يستحضر من شروط التكفير سوى العلم والجهل، فيقدر أن الناس اليوم لا يجهلون، وعليه فيكفرون بكل فعل كفري؛ لأن الحجة أقيمت عليهم، فهذا غلط مرتين:

حين نسي شروط التكفير الأخرى؛ الإكراه، والجنون، والسكر، والخطأ، والاشتباه والتأويل.

وحين زعم أن الناس لا يجهلون، وهو تقدير خاطئ، فالجهل شائع في الأمة، وله أسباب عدة، منها ليس تفريطهم في التعلم فحسب، بل عدم وجود من يعلم، ووجود من يحرف، ومن يشوه الصورة النقية. وفي مثل هذه الحالات ليس عجبا كثرة الجهل.

بعض الناس يظن أن الزجر لا يتم إلا بإنزال الكفر بالشخص المعين الواقع في الكفر على الفور، أو دون تبطء وتمهل، وأن ذلك أبلغ في الردع ومنع الناس من الجرأة على الدين.

بل التوضيح والبيان والتحديد لما هو كفر من الأعمال بحد ذاته كاف في حصول البلاغ والزجر والردع، فإنك إذا بينت للناس ما هو كفر من الاعتقادات والأقوال والأعمال، كان ذلك أبلغ وعيد لمن تحدى وتعدى حدود الله تعالى، فإن لم يردعه ذلك، فلن يرتدع بالتكفير.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية