اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/khojah/52.htm?print_it=1

الحزن

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
قال الله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم}.
في الجنة جلس أهلها المكرمون، يأكلون فاكهة مما يتخيرون، ولحم مما يشتهون، ويشربون من خمر بيضاء لذة للشاربين، لايصدع الرأس، ولايوجع البطن، ولا يسكر فيحمل على الهذيان كخمر الدنيا.
والغلمان يطوفون عليهم بأنواع الخدمة، كأنهم لؤلؤ مكنون، في حسنهم وبهائهم ونظافتهم، وحسن ملابسهم.
وقد اتكؤوا على السنادس والإستبرق، ينظرون في أنهار الجنة وأشجارها وثمارها، يتمتعون بهوائها. فأقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال خوفهم،
يقول بعضهم لبعض:
- بم صرتم إلى هذه المنزلة الرفيعة؟.
- فيرد بعضهم: إنا كنا في الدار الدنيا، ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه، فتصدق الله علينا الكريم الرحيم، وأجارنا مما كنا نخاف، إنا كنا من قبل نتضرع إليه أن يمن علينا بالمغفرة، ويتجاوز عن التقصير، فاستجاب لنا وأعطانا سؤلنا: مغفرة وجنة، ووقانا سموم جنهم، إنه لطيف صادق فيما وعد، رحيم بعباده.
- قال أحدهم لصاحبه: "يا فلان! أتدري أي يوم غفر الله لنا؟. يوم كنا في موضع كذا، فدعونا الله، فغفرلنا. [انظر: تفسير ابن كثير، الجامع لأحكام القرآن].
ما عبد الله بمثل الحزن والشفقة والوجل، هو دليل فهم المرء حقيقة الدنيا، واستعداده لما يستقبل من أمور الآخرة.
كان الحزن يعلو وجه الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
ويقول محمد بن وراق: " ما اشتهيت قط أن أبكي حتى أشتفي، إلا نظرت في وجه محمد بن واسع، كان كأنه ثكل عشرة من الحزن". ثكل: فقد. [صفة الصفوة 3/233]

ما قلب المرء ناظريه في هذه الدنيا إلا وجد ما يسوءه، سواء كان طالب دنيا، أو طالب آخرة:

- فأما طلاب الآخرة، فإن الدنيا تسوؤهم لأنها فتنة، يخافونها أن تصرفهم عن طريق الجنة إلى طريق النار، فهم يتقونها بكل وسيلة، يتضرعون إلى مولاهم مشفقين: أن يقيهم شرها.
- وأما طلاب الدنيا، فإن الدنيا تسوؤهم من حيث إنهم لا يحققون أمانيهم فيها، فكم يتقطعون حسرة من أجلها، وكم يشقون وراءها، ثم لا ينالون منها ولا عشر آمالهم، هذا إن سلموا من مآسيها ومصائبها وبلاياها، في أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم.
كيف لا يحزن المرء، وكيف لا يبيت حزينا، وهو في الظلمات يحيا ويتقلب ؟!.
كان في ظلمة الرحم.. ثم صار في ظلمة الدنيا.. ثم يوشك أن يكون في ظلمة القبر.. ثم لا يدري بعد ذلك، هل سينفذ إلى نور الجنة، أم يكون مستقره في ظلمة جهنم؟.
كيف لا يحزن ولا يشفق على نفسه، وأمامه منكر ونكير، وزلزلة الساعة.. يوم تكون السماء فيه كالمهل، والجبال كالعهن، ولا يسأل حميم حميما.. والشمس تقترب، والعرق ينحدر، والكرب يزداد، والناس في ذهول وحيرة، وكرب وشدة، والسماء منفطرة، والبحر مستعرة، والأرض مضطربة، والصراط منصوب، وجهنم تقول هل من مزيد؟!.
كيف لا يحزن المرء ولا يشفق على نفسه، وشياطين الإنس والجن على طريقه إلى الجنة، قد تآمرت على أن تلقيه في عذاب السموم؛ ليبقى فيها فلا يخرج منها؟...
كيف لا يحزن، وكل يوم يقترب من أجله، ينحني فيه ظهره.. يشيب رأسه، ويضمحل جاهه ودولته؟
كل ما في الدنيا محزن، والعاقل من أشفق على نفسه، والغافل من مشى ولم يدر لم خلق، ونام ولم يعلم ما أعد له.
- قالت زينب بنت جحش: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمرا وجهه يقول: ( لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وعقد سفيان تسعين أو مائة.
- وعن أم سلمة قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا، يقول: (سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات - يريد أزواجه لكي يصلين - رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) [رواهما البخاري في كتاب الفتن].
كانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت قوله تعالى: { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} في الصلاة قال: " اللهم من علينا وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم". [تفسير ابن كثير]
قال تعالى: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون}.
إن العاقل يصبح ويمسي مشفقا على نفسه حزينا على ما فاته، يشفق على نفسه من عذابه ربه. قال الله تعالى: { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون * إن عذاب ربهم غير مأمون}.
يشفق على أعماله أن ترد فلا تقبل: { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون}. قالت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر)، قال: لا، ولكن هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون أن لا تقبل منهم).
قال تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}.
ومن أين لنا أن الله تقبل منا ركعتين خالصتين؟.
وكيف يتقبل الله ممن يرائي أو يكذب أو ينافق أو يعجب بعمله، أو يصر مرتكبا الفحشاء والمنكر، أو يؤذي الخلق ويخاصمهم؟.
ألم يحك لنا رسول الله أن المتخاصمين لا ترفع أعمالهم، وأن ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم:
العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون؟. [صحيح الجامع رقم3057].
والله حكى لنا أنه تقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل: { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين}، فالله لا يتقبل من كل أحد، إنما يتقبل من المتقين، فهل نحن من المتقين؟، أليس هذا مما يدعونا إلى الشفقة على أنفسنا.

* * *

إن المؤمن يشفق على إيمانه من التقلب والتغير، وعلى طاعاته أن تتبدل معصية، فيدعو ربه دوما :
- ( يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك وطاعتك).
وقد قال تعالى: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}، قال ابن عباس: " ضربت مثلا لرجل يعمل بطاعة الله فبعث الله إليه الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق جميع أعماله"؛ أي أفسدها.
إن من الغفلة والجهل المبين أن يعيش الإنسان آمنا مطمئنا، وكأنه آخذ على ربه عهدا بدخول الجنة!. إن الله تعالى لم يصف عباده المؤمنين إلا بالإشفاق والخوف والوجل والحزن في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة زال حزنهم وخوفهم وإشفاقهم ووجلهم، وتبدل فرحا وأمنا، قال تعالى: { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون }، { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}.

ولم يذكر الفرح عن أهل الإيمان إلا في مقامات الطاعة والإيمان: بتنزيل القرآن، بالنصر على الأعداء، وبالموت في سبيل الله تعالى. فقال:

- { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين* قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}.
- {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}.
- {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وأما الفرح بالدنيا؛ بمالها وزينتها، فلم تذكر إلا بالذم، فقال:
- { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}.
- { وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}.
- {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}.
وأهل النار هم الموصوفون بالأمن والفرح، قال تعالى:
- { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن الله إلا القوم الخاسرون}.
- { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جنهم خالدين فبئس مثوى المتكبرين}.
والمقصود بالفرح المذموم: ذاك الذي يقارنه: الفخر، والبطر، والخيلاء، ونسيان الآخرة، كما قال تعالى: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور}.
فأهل هذا الفرح على الدوام في تقلب، إن أصابهم ضر أيسوا وكفروا نعمة الله تعالى، وإن أصابهم خير تفاخروا، وتعاظموا، وطغوا. كما قال تعالى: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كان كفور}.

أما الفرح بمعنى الاستبشار، والرضى، والشكر فهذا أمر جبلي، غير مذموم، بل هو مطلوب؛ لأنه إظهار لنعمة الله تعالى، وإقرار بفضله، وجريان مع طبع بشري محمود غير مذموم.
وصاحبه هو الذي إذا أصابه ضر صبر فلم يجزع، ولم يكفر نعمة الله تعالى عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَه.ُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَر،َ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ). [رواه مسلم]
 

* * *

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية