صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







آلام غزة، وتحرير الأقصى

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
كتبنا حتى مللنا.. جزعنا حتى سئمنا. صرخنا حتى انقطعت أصواتنا.. فسكتنا.
آلام ومحن ومصاب غزة لها حلان:
الأول: عاجل، هو: إيقاف العدوان على الفور، وفتح المعابر، وعلاج الجرحى، وإغاثة المصابين. وهذه مهمة الدول الإسلامية، ومن مسئولياتها بالدرجة الأولى، حيث تملك ما لا يملكه الأفراد.
الثاني: آجل طويل الأمد، هو: معرفة الأسباب التي أدت لمثل هذا العدوان على المسلمين، وعلاجها.
فأما السبب فمعروف، هو: الوهن. والعلاج ضده، وهو: إزالة الوهن. ثم لكليهما تفصيلات. لكن العلاج يحتاج إلى مدة، كما احتاج السبب إلى مدة، فالوهن ما تمكن من الأمة إلا بعد قرون، وإزالته مهمة تحتاج إلى مدة ليست بالقصيرة، قد تمر في سبيلها أجيال.
- {فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون}.
- {وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.

وما الوهن ؟. حب الدنيا وكراهية الموت. ليست المشكلة في ذات الحب والكراهية، إنما فيما ينتج عنهما، يقول صلى الله عليه وسلم:
- (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله!، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت). [أحمد/صحيح الجامع1359]
من أحب الدنيا وكره الموت، فتح على نفسه باب الموبقات، من كبائر، وموالاة الأعداء، والقول على الله بلا علم، وركوب الفواحش، بقدر ما أحب وكره؛ إذ تصبح الدنيا همه، فلا يبالي كيف أتت: أمن حله، أم من حرامه ؟. وسر انتصار المؤمنين دوما: طاعتهم، وإيمانهم. وحب الدنيا وكراهية الموت يهتكان الإيمان والطاعة، فلا مفر من الهزيمة إذن. وانظر في كل انتصارات المسلمين تجد عنصر الإيمان والطاعة بارزا؛ ولذا وجدتهم ينتصرون وهم قلة في العدة والعتاد.

ونحن لدينا تجربتان في استعادة الأقصى بعد احتلاله:
الأولى: احتلاله من قبل الروم النصارى، ثم استرداده من قبل الخليفة عمر رضي الله عنه مع الصحابة.
والثانية: احتلاله من قبل الصليبيين، ثم استرداده من قبل صلاح الدين، بعد تسعين عاما من الأسر.
هاتان التجربتان مهمة جدا، تحتاج إلى دراسة مفصلة؛ لمعرفة دواعي الاحتلال، ودواعي وأسباب الفتح والاستعادة، والتصدي لمثل هذا العمل، بدراسة تاريخية ونصية، عمل محوري مفصلي في الوقت.
لا ينبغي أن نبالغ في الجزع مما يحدث في غزة، فهذا المصاب متكرر "سابقا ولاحقا"، ولا يصلح أن نكثر العويل لحظة الحدث، ثم نرجع بعدها إلى: حب الدنيا، وكراهية الموت. بل نُعلّم الأمة كلها، ونُدرّسها: كيف سقط الأقصى مرتين، وكيف رجع في المرتين ؟. لتفهم الدرس، وتعي الحقيقة، وتعرف الطريق كيف يكون ؟.
العمل طويل وشاق، ويحتاج إلى زمن، فقد تمر أجيال قبل بلوغ الهدف، وفي هذا المقام سنعرض لِمَثَلٍ نجح في القيام بمهمة إنشاء جيل قادر على الردع، واسترداد المقدسات.

* * *

نور الدين محمود زنكي، أحد ملوك الإسلام العظام، تولى الملك سنة 541هـ ، يقول عنه ابن الأثير:
- "طبق ذكره الأرض، بحسن سيرته، وعدله، وقد طالعت سير الملوك المتقدمين، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن منه سيرة، ولا أكثر منه تحريا للعدل، وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم، ولنذكر هنا نبذة، لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به". [الكامل 9/125]
هو بحق ملك فريد، جمع إلى عظمة الملك: العبادة والتعفف. وإلى القوة: العدل والإحسان. وإلى الجهاد: العلم، والخشية. سعى في تربية رعيته على الامتثال للشرع. وعمل على إظهار السنة، وإبطال البدعة.. لم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب أو رضا.. كان فريدا في علاقته بربه، وبرعيته.
كان مجاهدا شجاعا، يتقدم جيشه، لا يبالي بالموت.. والدنيا عنده ليست بشيء، يقول:
- "تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان في خير، ولي عند الله قيمة، لرزقنيها".
قال له قطب الدين يوما:
- "بالله يا مولانا السلطان!، لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين. فقال له: اسكت يا قطب الدين!، فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود ؟، من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي، غير الذي لا إله إلا هو ؟، ومن هو محمود ؟. فبكى من كان حاضرا. [البداية 2/289]
حين جهاده النصارى في دمياط، قَرأ عليه بعض طلبة الحديث، جزءا فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يتبسم ليصل التسلسل. فامتنع من ذلك وقال [البداية 2/261]:
- "إني لأستحي من الله، أن يراني متبسما، والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط".
مع كل مهامه، لم يغب عنه الرياضة، يروض بها نفسه وخيله للجهاد، يلعب الكرة، يضربها بعصا وهو على الخيل، ثم يسوق وراءها حتى يأخذها وهي في الهواء. فعاتبه في ذلك بعض من فيه غفلة من الصالحين، يظنها لهواً، فقال: [البداية 2/279]: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها على ذلك، ونحن لا نترك الجهاد".
أبطل دين الروافض من بلاد الشام والعراق، وأظهر السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة، حي على الفلاح. وقد كان قبل يؤذن بحي على خير العمل. [البداية 12/278]
أحب السنة وعظمها، وجعل الشريعة فوق كل رأي. قُرأ عليه جزء حديث، فيه: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه). فتعجب كيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم، ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، فخرج إلى الموكب وهو كذلك وجميع الجيش. [البداية 12/281]
كتب إليه الشيخ عمر بن الملا: "إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وضرب وصلب، وإذ ا أخذ الإنسان في البرية من يشهد له؟".
فكتب إليه على ظهر كتابه:
- "إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة، وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة لنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة، فهو يريد أن يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم".[البداية12/282]

قال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال:

- كان نور الدين محافظا على الصلوات في أوقاتها، في جماعة، بتمام شروطها، والقيام بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها. قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد قولهم، أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة – أيام أخذ القدس الفرنج – فسمعهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم – يعنون نور الدين – له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله يدعو، فإنه يستجيب له، ويعطيه سؤله، فيظفر علينا. فهذا كلام الكفار في حقه". [البداية 12/283].
مرة اشتكت زوجته الضائقة، فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له، يحصل منها في السنة عشرين دينارا، فلما استقلتها، قال لها: [الكامل 9/125]: "ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين، لا أخونهم فيه، ولا أخوض النار لأجلك".
كان يقتات من تلك الدكاكين، التي اشتراها مما يخصه من المغانم، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال، فكان لا يزيد عليه، ولا يلبس الحرير، ولا يأكل إلا من كسب يده.[البداية12/278]
فذلك في علاقته بربه، أما علاقته برعيته، فقامت على التوقير والاحترام، وعلى العدل.
فقد عرف الفقه على مذهب أبي حنيفة - ولم يتعصب له - وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر [الكامل 9/125]، جمع الفقهاء وقربهم وأكرمهم، لم يكن أحد من الأمراء يتجاسر أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، فإذا ما دخل العلماء أو الفقراء، قام إليهم ومشى خطوات، وأجلسهم على بساطه، وإذا أعطى أحدا منهم شيئا،
فرآه بعضهم كثيرا، قال:
- "هؤلاء جند الله، وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم علينا، فلهم المنة علينا". [البداية والنهاية 12/281]

نال بعض الأمراء عنده، من الفقيه قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين:

- "ويحك!، إن كان ما تقول حقا، فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك، مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لأوذينك". [البداية 12/281]
وفي قيامه بالعدل، ادعى رجل أن له حقا عنده، فمشى معه إلى القاضي، وأمره أن يعامله معاملة الخصوم – يذكّرنا في هذا بالخليفة الراشد علي رضي الله عنه - فحكم القاضي له،
فقال نور الدين:
- "إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكم، أعلانا وأدنانا شَجْنَكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امثتلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى، ووهبته له".
وهو أول من ابتنى دارا للعدل، وجلس فيها مرتين في الأسبوع، وقيل أربع مرات، وقيل خمس، لايحجبه حاجب، يصل إليه الضعيف والمظلوم. [البداية12/280]
بنى المساجد والمدارس والأربطة، ووسع الطرق والأسواق، وأغنى الفقراء، حتى قيل: "إنه كان أدنى الفقراء في زمانه، أعلا نفقه منه". [البداية 12/278]، وأحسن إلى الناس جميعهم، حتى أهل الذمة، ووضع عن الناس الضرائب والمكوس، التي كان يأخذها لصرفها في قتال الأعداء، ثم كتب إلى الولاة بإسقاطها،
فكان بعد ذلك يقول في سجوده:
- "اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب". يقول ذلك عن نفسه[البداية 12/281]
هذا هو الذي حرر الأقصى من الصليبيين، لقد هيئ نور الدين الأمة للفتح الأعظم، بصلاحه وتقواه وجهاده وتربيته الأمة على السنة ونبذ البدعة، وعلى الطاعة وترك المعصية، وعلى توقير العلماء ورحمة الفقراء، وعلى الزهد والتعفف، وعلى الإحسان والعدل، والعبادة والخضوع لله، حتى فتح الله عليه الحصون المنيعة في الشام من أيدي الصليبيين، بعد عقود طويلة من الاحتلال، واستنقذ مصر من أيدي الفاطميين الباطنية، وضم إلى ملكه العراق واليمن والحجاز، وهكذا صار القدس مستوطنة تحيط بها بلاد الإسلام، لقد بدأ بتطهير ما حولها، حتى إذا سقطت بلدة بلدة، انكسرت شوكة الصليبيين، وبينما هو يعد العدة للفتح الأكبر، وكان صنع للمسجد الأقصى منبرا، جاءه قدر الله فاخترمته المنية رحمه الله سنة 569هـ، بعد أن قضى ملكه كله 28 عاما في الجهاد.
إن الأمة هي التي استولدته وصنعته على عين الله تعالى، فما كان لمثله أن يكون كما كان لولا فضل الله تعالى، ثم وجود أبرار أتقياء عالمين عاملين مجاهدين، كثير منهم أخفياء لا يعرفهم أحد، نذروا أنفسهم لعزة الأمة. حتى إذا تبوأ مكانته، قام بما عليه أحسن قيام. وهكذا تتكامل الأمة في عملها.
جاء بعده صلاح الدين الأيوبي، وما هو إلا أحد قادته الأفذاذ الصالحين الصادقين، فأكمل المهمة في معركة حطين سنة 583هـ ، بعدما فتح له نور الدين الأبواب المغلقة، وهكذا عاد بيت المقدس إلى كنف الإسلام والمسلمين بعد تسعين عاما من الأسر.
لقد مر المسلمون حينها بمحنة عصيبة، أكثر مما نحن فيه اليوم؛ إذ قتل الصليبيون حين احتلوا بيت المقدس سنة 492هـ أكثر من ستين ألف مسلم، حتى إن كانت الخيول لتزلق في الدماء، ولم يُرفع أذانٌ، ولم تُصل صلاةٌ مدة قرن.. دنسوا المسجد الأقصى، وفعلوا كل ما يشين.
لكن المسلمين استطاعوا استعادة أحوالهم الصالحة، فتقربوا من مولاهم بالصدق لا بالحيل.. وبالإخلاص لا بإرادة الدنيا.. وبالاتزان لا بالتهور الاندفاع.. وبالعبادة والصلاة لا باللهو واللعب.. وبتوقير العلماء ورحمة الفقراء.. حتى عادوا كما أراد الله، فكان الله لهم كما أرادوا، فاستعادوا بيت المقدس إلى حمى الإسلام. وما زالوا كذلك، حتى إذا بدلوا إلى أحوال لا يحبها الله تعالى، بدل الله حالهم فاحتل الأقصى.
- {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}
فالمسجد الأقصى لم يسقط صدفة ليعود صدفة، إنما سقط لما تساهلت الأمة في دينها، فتخففت من الأوامر، وطلبت المخارج والحيل، وأعرضت عن سبيل الصادقين، وما كان ليعود إلا بسنة الأولين.
وهذا بالضبط ما جرى عليه نور الدين رحمه الله، ورصد نفسه من أجله، لقد شبهه ابن الأثير بالخلفاء الراشدين، فقد كان يحيي سيرتهم في نفسه، ثم في رعيته، فامتثل فامتثلت أمته، وصلح فصلحت رعيته، ففتح الله عليه، كما فتح على عمر، والأمة اليوم قادرة على أن تخرج لنا مثلاً آخر، لو رجعت إلى سنة السابقين المقربين من الصحابة والتابعين، في الدين قولا وعملا، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم يثبت أقدامكم}. [انظر سيرته وصلاح الدين في كتاب أبي شامة "الروضتين"]

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية