صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مؤتمر ماردين 2010
دراسة ومناقشة

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم


في يومي السبت والأحد 11-12 ربيع الثاني 1431هـ/27-28 مارس 2010 انعقد مؤتمر قمة السلام (ماردين دار السلام) برعاية المركز العالمي للتجديد والترشيد (لندن) وبالتعاون مع كانوبوس للاستشارات (لندن) وجامعة أرتكلو (ماردين) وبمشاركة ثلة من علماء الأمة، من مختلف التخصصات، لتدارس إحدى أهم أسس العلاقات بين المسلمين وإخوانهم في الإنسانية؛ وهي تصنيف الديار في التصور الإسلامي، وما يرتبط به من مفاهيم، كالجهاد والولاء والبراء والمواطنة والهجرة؛ لأهمية هذا التصور الفقهي، في تأصيل التعايش السلمي، والتعاون على الخير والعدل بين المسلمين وغيرهم.
تلك مقدمة نتائج المؤتمر – مختصرة – ومنها يتضح: أن المؤتمر هدف – في المقام الأول - إلى إيجاد وصف جديد للعلاقة بين الدول الإسلامية وغيرها، بدل الوصف القديم الوارد في كتب الفقه (دار سلام، ودار حرب)، سماه بـ "فضاء سلام"، أو "فضاء للتسامح والتعايش"، باستثناء الكيانات الغاصبة كالكيان الصهيون؛ التي تخوض حربا ضد المسلمين، من هذا الوصف الجديد.

والداعي لهذا التحول الفقهي الجذري أمران:
أولاهما: ظهور مستجدات عالمية، تضمنت مواثيق دولية، ومؤسسات ومنظمات عنيت بالحقوق الإنسانية، وأقرت العدل، وجرمت العدوان، وسلم لها جميع دول العالم وقبل بها.
وثانيهما: ظهور دولة المواطنة؛ التي ضمنت الحقوق الدينية والدنيوية للمسلمين بلا تفريق ولا تمييز عنصري، ولا ديني، ولا غير ذلك.
وكل هذا يتفق مع الشريعة في الجملة، وإن شابه نقص، بحسب بيان المؤتمر.
وهذا ما أشار الدكتور عبد الوهاب الطريري إليه، في تصريحاته لجريدة الشرق الأوسط السبت 3إبريل 2010: "أن المؤتمر هدف أيضا إلى إمكان إيجاد توصيف جديد للدول، يتوافق مع المستجدات العالمية، ومنها إنشاء المؤسسات والمنظمات الدولية، وإعلان المواثيق الدولية، التي تعطي للدول توصيفات جديدة، غير حصرها في دور حرب أو سلام، لافتا إلى أن المؤتمر دعا إلى اعتبار دول العالم جميعها، باستثناء الدول التي تخوض حربا ضد المسلمين، كالكيان الصهيوني (فضاء سلام)؛ إذ قلما يوجد بلد لا يعيش فيه مسلمون، ويتمتعون فيه بحقوق المواطنة".

وفي نتائج المؤتمر ذكر لكل هذا:
"إن تصنيف الديار في الفقه الإسلامي تصنيف اجتهادي، أملته ظروف الأمة الإسلامية وطبيعة العلاقات الدولية القائمة حينئذ، إلا أن تغير الأوضاع الآن، ووجود المعاهدات الدولية المعترف بها، وتجريم الحروب غير الناشئة عن رد العدوان ومقاومة الاحتلال، وظهور دولة المواطنة، التي تضمن في الجملة حقوق الأديان والأعراق والأوطان: استلزم جعل العالم كله فضاء للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف في إطار تحقيق المصالح المشتركة والعدالة بين الناس، ويأمن فيه الناس على أموالهم وأوطانهم وأعراضهم، وهو ما أقرته الشريعة ونادت به منذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووضع أول معاهدة تضمن التعايش بين جميع الطوائف والأعراق في إطار العدالة والمصالح المشتركة، ولا يسوغ التذرع بما يشوبها من نقص أو خرق دول معينة لها للتنكر لها، وافتعال التصادم بينها وبين الشريعة السمحة".
ولتحقيق هذا الهدف الرئيس، وشرعنة الوصف الجديد (= فضاء السلام): اتخذ له المؤتمر وسيلة.
جعل من مسألة التقسيم الثنائي (= دار السلم، وحرب) مسألة اجتهادية، لا نص فيها ولا دليل عليها، إنما هو استنباط فقهي غير ملزم، واستند في هذا إلى فتوى ماردين لابن تيمية؛ حيث إنه خرج على هذا التقسيم السائد، فزاد فيه ثالثا هو: الدولة المركبة من المعنيين؛ دار السلم، ودار الحرب.
وهذا ما ينطبق على ماردين، حيث إن أهلها مسلمون، وحكامها وجندها من المغول.
مما أكد اجتهادية التقسيم، وثم من إمكانية استحداث تقسيمات وأوصاف جديدة، بحسب اختلاف الأحوال، فإذا كان الحال الجديدة في ماردين، استوجب من ابن تيمية استحداث قسم ثالث، فالأحوال المستجدة اليوم (= المواثيق الدولية، ودولة المواطنة) تستوجب كذلك استحداث وصف جديد للحالة، هو: فضاء السلام.
وعلى الفقهاء أن يستجدوا صيغا تتلاءم وأوضاع المسلمين.
إن عناية المؤتمر بالفتوى مرده، وجود هذا القسم الثالث فيها؛ فهو مساعد لتحقيق الهدف الرئيس؛ إذ تحصلوا به على سند من عالم مجتهد اجتهادا مطلقا بالاتفاق، ولم يأت بعده مثله.
أما تصحيح كلمة "يقاتل" في جملة: "ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، إلى "يعامل". فذلك لم يكن هدفا أولا، إنما هو هدف لتحقق الهدف الأول، فإن فضاء السلام لن يتحقق في حال وجود من يجيز القتال في دولة المواطنة أو المركبة، وفي تصريحات الدكتور عبد الله بن بيه: أن مفتي مصر أخبره عن استغلال بعض الجماعات الجهادية – في أوائل الستينات - لهذه الكلمة "تقاتل" في الفتوى؛ ليجعلوا ديار الإسلام غير معصومة؛ أي يجوز فيها الاعتداء.
فكان لا بد إذن من إبطال محاولة الاستناد إلى هذه الكلمة من الجملة في الفتوى، وللإبطال استشهد المؤتمر بما: في الآداب الشرعية لابن مفلح، وهو تلميذ ابن تيمية، والدرر السنية، وما أورده محمد رشيد رضا، حيث جاء عندهم بلفظ:"يعامل" وليس "يقاتل".
ثم استدرك الدكتور الطريري لاحقا، بعد أسابيع من المؤتمر، في مقال له في موقع الإسلام اليوم: بما يفيد ظاهره: أن في المكتبة الظاهرية مخطوط فيه تصحيح الكلمة. وذلك بعد الاعتراضات التي وردت على المؤتمر: أنه لم يتخذ المنهج الصحيح للنقد والتصحيح للكلمة.
ترتب على هذه النظرة الفقهية الجديدة كليا، نظرة أخرى جديدة - أو شبه جديدة - في قضايا هي مبادئ إسلامية كبرى: الجهاد، والولاء والبراء، والهجرة.
فهذه المبادئ تبدو معوقة – على الأقل بمفهومها السائد عند كثير من الناس – عن شرعنة الوصف "فضاء السلام" وصون ذلك الهدف الرئيس.
حيث إن تقسيم البلاد إلى: دار سلام، وحرب. يحمل معه: المفاصلة والانحياز في العلاقات الدولية، إلا استثناءا في حالة العهد والذمة والأمان والمصالح المشتركة.
لكن التوصيف الجديد يقلب هذه الأوضاع قلبا إلى علاقات قائمة - ليس على التعايش والتسامح، فهذه موجودة قديمة قدم الإسلام، خصوصا بين المسلمين وغيرهم في بلاد الإسلام، وليس ثمة جديد في هذا، والتاريخ شاهد، كذلك النصوص -:
إنما على التشابك والتداخل الكامل، والامتزاج التام في كافة النشاطات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية حتى العسكرية تحت مسمى "دولة المواطنة" و "فضاء السلام".
وتلك المبادئ تبدو وكأنها تصب في تأييد التقسيم الثنائي، وتمنع من التوحد تحت فضاء السلام، فكان بد من إعادة تفسيرها، واستخراج وصف جديد لها يتلاءم مع مقتضيات (فضاء السلام).
وقد اضطلع المؤتمر بهذه المهمة؛ فخرج بالتأكيد على أن علل الجهاد ثلاثة، ذكرت في النتائج، وهي: "رد العدوان، ونصرة المستضعفين، والدفاع عن التدين". ولم تذكر علة: إعلاء كلمة الله. مع كونها منصوص عليها في قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}.
والولاء والبراء أعاد ترجمته بما يلي، كما هو في النتائج:
"إن مفهوم الولاء والبراء لا يكون مخرجا من الملة، ما لم يكن مرتبطا بعقيدة كفرية".
فجائز إذ ن ولاء الكافر، وعدم البراء منه، إذا كان للدنيا فحسب، ويلاحظ عدم نصه على التفريق بين المحارب والمسالم في هذا.

وأما الهجرة فنقضت بالكلية، وحلت محلها "دولة المواطنة"، وفرضوا أمورا لتتم النتيجة:
الأول: أن الأقليات المسلمة نالت حقوقها كاملة، أو شبه، أو بالحد المعقول. مما أتاح القدرة على إقامة الدين، وعدم العجز عن ذلك.
الثاني: أن المعاهدات والمواثيق الدولية، مرجع لحماية الحقوق. مما أعطى الاطمئنان والضمان.
الثالث: أن مستقبل أوربا – وفيها أكبر جالية إسلامية – هو الإسلام، بحسب المقدمات الموجودة الآن وإفادة الدراسات السكانية بتكاثر نسل المسلمين، وتناقص نسل الأوربيين.
فلا مكان إذن لمصطلح الهجرة اليوم. الذي يعني: وجوب رجوع المسلم إلى بلد الإسلام، متى قدر على ذلك، أو إن عجز عن إقامة دينه. فعلة الهجرة غير موجودة إذن.
* * *
هكذا بدا المؤتمر في هدفه، ووسيلته إلى الهدف، وفي سعيه لصون الهدف..
وقد جافى المنهج العلمي، وارتكب خطأ ظاهرا، حين اتخذ الهدف ورسمه ابتداء، ثم سخر له كل طاقاته ووسائله، وليس الخطأ في أن يهدف المؤتمر إلى هدف ما، فما من مؤتمر إلا وله هدف معلن. إنما الخطأ في: أن يكون الهدف المرسوم مسألة اجتهادية محضة، في أقل الأحوال، وعند الآخرين خطأ محض، قابل للنقض والرد.
وأن يعقد لها مؤتمر، ليس من أجل البحث والمدارسة، إنما لترجيح رأي دون رأي.. هكذا ابتداء.
فإن هذه المسألة (= إبقاء قسمة الدار ثنائية، أو تغييرها إلى دار واحدة). في أقل أحوالها مسألة تحتاج إلى نظر وفحص دقيق بالغ الدقة.
لإقرار الجميع: أن القسمة الثنائية ملئت بها كتب الفقه والتفسير والحديث، وعليها نصوص تؤيدها.
فلا يسوغ ألبتة تفرد طائفة بها؛ لتستأثر بالاجتهاد والفتيا بما يحمل تحولا جذريا في خط الأمة، يمس صلب الدين، وينتشر بأثره إلى كل المسلمين، بمعزل عن فقه ورأي الآخرين، وهم علماء معروفون، لا ينكر أحد علمهم وفضلهم وإيمانهم.
فالواجب جمع كافة العلماء أو أكثرهم وجلهم، والنظر في المسألة من كافة أطرافها، ولو استلزم الأمر مؤتمرات عديدة، حتى ينقح المناط ويحقق، ويحصل التقارب، وتسد الفجوة قدر الإمكان.
لكن المؤتمر لم يلتفت لهذا.

فهذا ما يؤخذ عليه في الهدف، أما في الوسيلة:

فالمؤتمر بنى فكرته عن "فضاء السلام" على الأمرين السابقين – كما ذكر – لكنه أغفل النظر في الاعتراضات، أو لم يعطها حقها ومستحقها من النظر.
فالمواثيق الدولية المانعة من العدوان، لو سلم بأنها كذلك، فلا يوجد يحميها، ويقيمها على العالم.
فغير خاف على أحد: أن القوى العظمى هي من وراء هذه المواثيق، وهي التي تنتهك وتدوس عليه، فتعتدي في وضح النهار، فتحتل بلاد المسلمين. والجرح لم يلتئم بعد، فهاتان دولتان مسلمتان تحت الاحتلال إلى اليوم منذ أقل من عشر سنوات، وقد قتل وشرد الملايين من المسلمين، مع دمار شامل، وسرقة كاملة للثروات، فأين المواثيق، ومن الضامن لها، ومن يحميها من عبث القوى المتحكمة ؟.
وهي عاجزة – مع جبروتها – عن لجم إسرائيل عن غيها، ولا تستطيع توجيه اللوم إليها حتى ..
ودولة المواطنة، لم تعط إلى اليوم المسلمين كامل حقوقهم الدينية، بل محال لدولة علمانية، أن تعطي المسلمين ما تعطيهم الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله، وإلا لم يعد فرق بين الدولتين.
ولم تحفظ دولة المواطنة حقوقهم، بل انتهكتها علنا، ففرنسا عدت على الحرية الشخصية، تلك الحرية التي يختال بها الأوربي، بمنع المرأة المسلمة من لبس الحجاب في المدارس، والنقاب في الشوارع، ودول أخرى كأسبانيا تحذو حذوها. وسويسرا تمنع المآذن، والدنمارك وسائر أوربا يسيئون للنبي صلى الله عليه وسلم، بما لا تسمح بمثله في حق اليهود أو النصارى، فالحقوق إذن ليست على ما يطمئن ويطمح إليه المسلم، وما بقي مما لم يمس ليس بمأمن؛ أن يمنع من الصيام في رمضان، بدعوى عدم الإضرار بالإنتاج، وإجبار المسلمين على دفع زكاة أموالهم إلى الدولة، وغير ذلك، كل ذلك وارد مع كونهم أقلية مستضعفة، ووجود المتعصبين والأشرار في مراكز السلطة والقرار.
ولا يمكن الركون إلى القانون، فالتلاعب سيد الموقف، ولو كان القانون يحمي، فإنما يحمي الأقوياء وليس الضعفاء، ولذا لم يوقف القانون غزو العراق، على الرغم من اعتراض الملايين من الشعوب.
وأمام هذه الحقائق عما يعده المؤتمر متكسبات إنسانية وبشرية (=المواثيق، والمواطنة)، نجد من العجب، أن المؤتمر لم يجر موازنة بين هذه السلبيات، وما يراه إيجابيا، وأيهما الغالب.
فهذا أقل ما يمكن فعله، قبل الخروج بقرار وفتوى يلغي به مبدأ الهجرة، الثابت نصا وعقلا.
ثم لو فرض غلبة الإيجابيات، فما يلزم عنه إلغاء مبدأ الهجرة كليا، ولا يشترط، ولا يتضمن، فلم نصل بعد إلى نهاية التاريخ ولا العالم، فالتقلبات والتغيرات واردة، وحاصلة ومشاهدة كل حين.
من الممكن حصول اندماج بمعنى التعايش والتسامح بين الأقليات المسلمة وأهل البلاد التي هم فيها، ومن الجائز دعوتهم إلى التأقلم مع أوضاعهم، والعمل بالدين بما يستطيعون؛ لاستحالة الهجرة، فالفتوى تتغير بتغير الحال. لكن غير الممكن ولا المفهوم، حصر حل مشكلات الأقليات في إلغاء مبدأ الهجرة، والتخطيط لذلك من خلال مؤتمر، يصطلح فيه على اصطلاح جديد – غير معهود – هو: فضاء السلام: مع كون هذا المصطلح أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
ومع قدرة المسلمين على حل مشكلاتهم، من غير اللجوء إلى إبطال حقيقة شرعية كونية قدرية.
وأوربا لا شك أنها تعاني شيخوخة، وفيها أكبر جالية إسلامية، ولو سلمنا بالحسابات الجارية، واعتقدنا حدوث انقلاب سلمي في الأوضاع لصالح المسلمين، خلال قرن أو نصفه، فذلك ليس بمعين ولا مبرر لتبديل أحكام مستقرة، تهيئة لذلك الوضع منذ الآن.
فلتبق أحكام الله تعالى في الهجرة وغيرها كما أنزلت بالوحي، ولو كان العجز عن تحقيقها سمة العصر، حفاظا على الوحي المنزل وعدم تبديله أو تعطيله، قياما بالأمانة، فإن حدث تبدل وصارت أوربا أو غيرها مسلمة، فحينذاك قيل للمسلمين فيها: لم يعد في حقكم هجرة بعد الآن. كما هو الحال في جمهوريات البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا.
ذلك الحين تنتفي أسباب الهجرة (= العجز عن إقامة الدين، وأمن الفتنة في الدين) أما واليوم هي موجودة وقائمة؛ بكون الأرض غير مسلمة، وقطعا لن تتيح تطبيقا شاملا كاملا لأحكام الدين، فالعجز عن الهجرة لا يسوغ إلغاءها، وإلا لقيل بإلغاء وإبطال كل حكم عجز الناس عن إقامته، وليس هذا من الدين، العجز يأتي معه الترخص والمسامحة والتخفيف، وليس قلب الشريعة وإبطالها.
يبدو أن المؤتمرين ظنوا أنه بالإمكان تحقيق "فضاء السلام" المزعوم؛ ولأجله تخطوا مصطلحات شرعية مقررة، وتصرفوا فيها بغير حق.
فلا أحد يؤمن بهذا الخيال المسمى بفضاء السلام إلا الواهم، فقانون الدنيا الذي جعل الله فيه الخير والشر، والملائكة والشياطين، والصالحين والمجرمين، يأبى ذلك بشدة.

فالحقيقة:
أن الصراع دائم باق، والغرب يروج لشعارات السلام، ويقلده آخرون، ثم يرونه وهو ينتهك السلام برمته.. ألا يدعوهم هذا إلى التأمل في الفكرة نفسها، ومدى تحققها في الواقع ؟.
من لم تكن له قوة تحميه في نفسه وماله ودينه، فلا أحد يأبه له في هذا العالم، بل حماه مستباح، و"فضاء السلام" يعني: خلوص العالم من الشر والعدوان.
وهو محال، إلا في حال نزول عيسى عليه السلام. وهي فترة مؤقتة، سرعان ما يرجع الناس بعدها إلى طبائعهم، وعلى ما كانوا عليه منذ خلق الله تعالى الدنيا.
والإيمان بهذه الحقيقة، لا يعني ولا يلزم عنه: محبة الحروب والدمار والدماء. كلا، بل هو واقع مهما هربنا منه، لا يزال يلاحقنا ولو كنا في بروج مشيدة، كالموت. هكذا هي الحياة، وهكذا قرر القرآن:
- {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم استطاعوا}.
- {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}.
وطمس هذه الحقائق من المحالات، لكن علينا أن نعمل على تخفيفها، كالأمراض لا نستطيع القضاء عليها، لكن نخفف من آثارها بالوقاية والعلاج، والإسلام هو الدين الذي سعى في حقن الدماء، فجاء بالسلام والرحمة، فالسلام فيه هو الأصل، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وحروبه لم تكن إلا خيارا أخيرا، حين تتعطل فرص السلام.
وفي الحرب يتجلى حبه للسلم، في العفو والرحمة والإحسان إلى المحارب، والأسير، والضعيف، ولا أدل على هذا، من أنك لو عددت الذين قتلوا في حروب الإسلام كلها، لكان أقل من واحد بالألف، مقارنة بعدد الذين ماتوا تحت الحكم العلماني منذ القرن العشرين، في الحرب الأولى والثانية، وحرب فيتنام، وحروب الاستعمار.
وجهاده كان لرد العدوان، ونصرة المستضعفين، وإعلاء كلمة الله.. لهذه الثلاثة، والثالث لم يذكر في نتائج المؤتمر، واستبدل بقولهم: "دفاعا عن التدين"، وهو نفسه السببان الأولان، تكرر في هذا الثالث.
ولم يكن ثمة مبرر لهذا الاستبدال، فليس في ذكر: "إعلاء كلمة الله" سببا من أسباب الجهاد. ما يخشى منه أو يستحيا؛ فلا يلزم عنه إقرار العدوان على أحد، فتطهير بلاد المسلمين من المحتلين، ونصرة المستضعفين، وتبليغ الدين إلى العالمين من طريق الصلح ونحوه، كل ذلك لإعلاء كلمة الله تعالى.
فإذا كانت السبب الداعي لطي هذه العلة، اعتقاد أنه هو ذاته جهاد الطلب، فليس بلازم لما تقدم.
إن في ذكر هذا السبب أهمية كبرى؛ إذ به يستحضر المسلم علو الإسلام، وهذا أصل كبير.
وإن جهاد الطلب نفسه رد للعدوان؛ عدوان المتربص، بمبادرته بالحرب قبل أن يبادر هو. وعدوان المانع للناس من أن يسلموا الوجه لله تعالى.
إذا عرفت الحقيقة في هذا الصراع الكوني القدري، بطلت فكرة إلغاء الهجرة، بافتراض فضاء سلام، هو دائم ومستقر. فهذه مغالطة كبيرة، فليس السلام دائما، ولا مستقرا، وما بني من نتيجة على هذا الوهم، فهو باطل ولا شك.
وإذا كان الفرض والعلة في إلغاء الهجرة، استحالتها اليوم، فالاستحالة صحيحة، لكن علاجه لا يكون بتغيير التشريع في الهجرة، وطمس حقيقة بينة ظاهرة، إنما بالبيان الشرعي للأقليات وتيسير الفتوى لهم، ومراعاة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، مع وصيتهم: أن يحفظوا دينهم عن ظهر قلب، بحفظ المبادئ فلا تضيع، حتى يأتي اليوم الذي فيه ينصر الله الدين، وليس ذلك ببعيد.
وقد يرد هنا: أننا بين حقيقة وواقع.
فالحقيقة تنبئ بما ذكر آنفا؛ أن الأصل في البشرية الصراع، والأصل في الإسلام السلام.
والواقع أن الدعوة للسلم هو الذي يحقق للإسلام المكاسب، حيث ميل عموم البشر إلى السلم وكراهيتهم للحروب، فلو حدثوا بالحقيقة البشرية، ظنوا أن الإسلام يحب ويقدم الحرب، فنفروا منه.
ولو حدثوا بأن الأصل في الإسلام هو السلم، حسن ظنهم واطمئنوا، فأقبلوا مسلمين أو مناصرين.
والمتعصبون في الغرب لا يزالون يلصقون بالإسلام تهمة العنف وحب الحرب، وهم بفعلهم هذا عقبة أمام تمدد الإسلام، فالحكمة تقتضي: الحديث عن السلم في الإسلام، وإبرازه، أكثر من الحرب، خصوصا أنه الأصل، والحرب طارئ؛ إذ الحرب عقوبة، والعقوبة لا تكون مستديمة.
فالجواب: أن هذا المنحى صحيح، والإسلام دين السلم والسلام لاريب، وليس الاعتراض على شيء من هذا، إنما على قلب الأحكام، وتبديلها وتعطليها بالكلية، وتغيير المعاني جذريا، هذا الذي لا يجوز تحت أي ظرف، فطريق الدعوة إلى الإسلام، لا يكون بتغيير حقائقه؛ لأنه تحريف للكلم عن مواضعه، ولأنه لا يفيد بشيء؛ إذ كل ما في الإسلام معروض مكشوف، يطلع عليه كل أحد، فلا يخفى.
هذا وقد ارتكب المؤتمر خطأ جليا، بقياسه دولة المواطنة على الدولة المركبة؛ التي ذكرها ابن تيمية:
فأركان القياس غير متوفرة؛ فإنه تكلم عن أرض مسلمة، احتلها الكافر. ودولة المواطنة أرض كافرة يسكنها بعض المسلمين. وفرق بينهما: فواجب على المسلمين تحرير الأرض المسلمة، دون الكافرة.
ثم إن ابن تيمية فصل في أحوال أهل الدولة المركبة؛ أن من عجز منهم عن إقامة دينه، وجبت عليه الهجرة، وإلا استحبت. وأن من تعرض لمحنة معاونتهم، فلم يمكنه الامتناع إلا بالهجرة، تعينت الهجرة.
فها هو يقرر الهجرة حتى لأهل الأرض المسلمة المحتلة، فكيف بأرض كافرة (=دولة المواطنة) ؟.
وهذا عكس ما أراده المؤتمر تماما، فقد أخذوا فكرة الدولة المركبة، واحتزوها حزا من سياقها في الفتوى، ولو درسوها كاملة، لما قرروا إلغاء الهجرة، ولا شبهوا المواطنة بالمركبة، لكن هذا الخطأ من آثار خطأ منهجي آخر هو: استباق النتائج، وتقريرها حتى قبل الشروع في المؤتمر.
بقيت مسألة الولاء والبراء، وقد أباحوا ولاء الكافر للدنيا، وهذا خطأ، فالولاء مصطلح شرعي قرآني، مختص بالدين معناه: المحبة، والنصرة للدين. فلا يستعمل في الدنيا؛ لذا فقد جاء في القرآن الكريم، نهي المؤمنين مطلقا عن تولي الكافرين وولايتهم.
فهذا منهم من عدم التحرير، وقد كان يسعفهم لتقرير ما أرادوا، استعمال مصطلح المحبة، وقد ورد جوازه في حق الكافر، في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت..}. في محبة النبي لعمه أبي طالب.
ومصطلح المودة، وقد ورد جوازه في حق الزوجة النصرانية، في قوله: {وجعل بينكم مودة ورحمة}. أي الزوجين، وللمسلم أن يتزوج النصرانية، فهذا إذن بمودتها.

أخيرا:
لنا طلب إلى المشاركين أن يتأملوا ويتدارسوا القضية وما عليها من ملاحظات، فإنهم تصدوا لقضية كبرى، لا يحق لفئة واحدة، أن تنفرد بالأمر دون غيرها.
ثم نقول: إن الاستدراك على المؤتمر كان من خلال نتائجه المعلنة والتصريحات المرافقة؛ لأن النتائج باتفاق هي خلاصة رؤية المؤتمر، ولسنا بمعنيين بما دار في بحوثه وتعليقاته ومناقشاته؛ فلا يصح إذن، من حيث المنهج، الرد على النقد: بأنه هذه القضية أو تلك ذكرت أو بحثت في المؤتمر. والله أعلم.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية