اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/mashal/4.htm?print_it=1

الخائضون في رحيل صدام !!

مشعل عبدالعزيز الفلاحي

 
في يوم العيد العاشر من شهر ذي الحجة من عام سبعة وعشرين وأربع مئة وألف رحل صدام مشنوقاً ، ولم أكن أود أن يخوض قلمي في هذه الحادثة ، لولا كثرة الخائضين من الدعاة والمصلحين في هذا الرحيل ، رحل صدام بسيئاته ، وحسناته وهو بين يدي الله تعالى ، رحل بعد إن قتل ، وسفك الدماء ، وجر على شعبه ويلات الحروب ، وإن كان ثمّة حسنات لصدام فهي وقوفه سداً منيعاً لمطامع الصفويين ، وحتى هذه تلعب النية فيها دوراً كبيراً .. رحل صدام وهو يردد لا إله إلا الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة . أصدرت أمريكاً حكماً بالإعدام ، وندد أناس كثير بهذا الحكم مع أن هؤلاء جميعهم يقررون : لو أن مؤمناً تقياً قتل نفساً مسلمة عمداً ووقف في ساحة القصاص ، وضُرب عنقه كان ذلك حقاً ، ولم يجز لواحد أن يتحدّث فيه لائماً ، وصدام كل هؤلاء يعلمون أنه قتل أنفساً ، وليست نفساً واحدة ، صحيح أن المسألة قد يكون الاختلاف فيها جذري لكن أردت ن أقرّب الصورة للمسرفين في الاستنكار . إن إصدار الأحكام في حق الأسرى تختلف باختلاف أفعالهم وأوضح دليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر من المشركين في غزوة بدر سبعين ، منهم اثنان قتلهم في الطريق وهما : النظر بن الحارث ، وعُقبة بن أبي معيط ، وذلك لشدة أذيتهم للمسلمين أيام مكة ، ومبالغتهم في عداء الله تعالى ورسوله ، وبقية الأسرى عاد بهم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة ، وشاور فيهم أصحابه ، فأشاره أبو بكر بفدائهم ، وأشار عمر بقتلهم جميعاً ، وكان رأي أبي بكر رضي الله تعالى عنه أقرب إلى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففداهم وفك أسرهم ، ونزل قول الله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم في ما أخذتم عذاب عظيم ) وأعجب ما قرأت تعليقاً على ذلك ما قاله الغزالي في كتابه السيرة حين قال : وهناك نصوص توصي برعاية الأسرى ، وإطعامهم ، وتشرع القوانين الرحيمة في معاملتهم ، وهذا ينطبق على جماهير الأسرى من الأتباع والعامة ، أما الذين تاجروا بالحروب لإشباع مطامعهم الخاصة فيجب استئصال شأفتهم وذلك هو الإثحان في الأرض ، إن الحياة كما تتقدّم بالرجال الأخيار ، فإنها تتأخّر بالعناصر الخبيثة ، وإذا كان من حق الشجرة لكي تنمو أن تقلّم ، فمن حق الحياة لكي تصلح أن تنقّى من السفهاء والعتاة والآثمين . اهـ إن العدل هو الأمر الذي قامت عليه السموات والأرض ، ولست والله في هذا المقام أسطّر موقفاً ضد الراحل سواء إيجابياً أو سلبياً لأنني أعلم أن ذلك ليس من شأني ، وهو قد رحل ، وألسنتنا أحوج ما تكون للصمت منه إلى الحديث في زمن ترى فيه صوراً لا تستطيع أن تتكلّم فيها للتناقض الذي يحيط بها ، والله المستعان ! ورحم الله الذهبي حين قال في سير أعلام النبلاء في سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي : ... له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه ، وأمره إلى الله تعالى . اهـ وأنا أكتب هذا وأعلم يقيناً أن أمريكا لا تبحث عن العدل من خلال ما فعلت بدليل أنها تدفن تحت الأرض يومياً مئات من العُزّل الضعفاء ، وهي أولى بالمحاكمة من صدام ، لكنها الموازين الجائرة في الأرض تعلمنا أن الأقوياء في زمن الظلم لا يحق لأحد أن يناقشهم مجرد مناقشة فكيف يوقع بهم العذاب ؟ لكن أرادت أمريكاً أن توصل من خلال جثة صدام قيماً لا يمكن تصل للكثير إلا من خلال هذه الصورة التي هي فرصة لا تعوّض !! عموماً كل هذا مجرد مقدمة لا تعنيني في شيء ، وليس هماً يؤرقني حتى أستقطع جزءاً من وقتي لأنثر فيه بعض آثار الحبر على الورق ، وإنما أردت أن أقول :

هناك دائرتان يعيش فيها الإنسان : إما دائرة الهموم ، وإما دائرة التأثير ، دائرة الهموم هي تلك الدائرة التي نتكلم فيها في الغالب في المشكلات التي لا نملك قراراً فيها أو الأسباب التي لا يمكننا القيام بها ، أو القرارات التي لا علاقة لنا بها . والدائرة الثانية : هي دائرة التأثير ، وهي الحديث في ما يكون لنا فيه أثر بيّن بالتغيير ونحو ذلك ، كثير من الناس و قد لا أبالغ إذا قلت ( 90%) يعيش منهم في دائرة الهموم ، والسر في ذلك أن هذه الدائرة لا تكلفهم عملاً ، ولا قراراً ، ولا بحثاً ، وإنما تجعلهم في عداد من ينتقد ، ويقيّم ، وحسبه بذلك طريقاً ومنهجاً ، ورحيل صدام في هذه الدائرة ولذلك كثر المتحدثون فيه بين كاتب في صحيفة أو متحدث في قناة .

إن دائرة الهموم هي دائرة فسيحة لمن لا يريد أن يعمل ، أو يتقدّم . وهي دائرة تتسع لكثير من الاقتراحات ، والآراء ، والتخمينات لأنها لا تكلّف أكثر من ذلك .
إن المؤمل من الدعاة والمصلحين ، وطبقات المثقفين أن يحبسوا أنفسهم في دائرة التأثير في مثل هذه الحوادث وأشباهها ، وأن تكون هذه الأحداث فرصة للتجربة والتدريب على تمثّل هذه الجوانب . إن في رحيل صدم حيّزاً كبيراً كان بحاجة إلى تفعيل هذه الدائرة ، كيف وصل صدام إلى هذا المكان أصلاً ؟ كيف بقي على عرش الحكم هذا الزمن الطويل ؟ ألم يكن لصدام أعداء ؟ كيف تغلّب عليهم وحافظ على ملكه هذا الزمن ؟ لماذا ظل العراق عبر الثلاثين بهذا السكون ؟ وليس هذا فحسب بل المهم من هذا كله : ما هي الدروس والفوائد التي استفدناها من هذه التجربة الطويلة ؟ هل هذه التجربة من أساسها صالحة في تعميمها على بعض المؤسسات والأفراد ؟ أم أنها هي سبب هذه النكبات العظيمة ؟ وغير هذا كثير إن كان لا بد أصلاً من الحديث في هذا الموضوع .

إن الإنشغال في ظني بأن صدم كان يصلي أو ذكر الشهادة أو لم يذكرها أو قتل صنوفاً من البشر في زمن مضى ، أو مارس نوعاً من الإدارة الديكتاتورية ، أو اتضح أنه كان يفعل كذا ، أو أنه هو الذي تسبب في صنع هذا لنفسه إنشغال بما يبدد الوقت ، ويذهب الأعمار دون طائل ، ويجعلنا أكثر عيشاً في دائرة العوام والدهماء دائرة الهموم .

وأخيراً : أخشى أن تكون هذه الأسطر إعادة لبعض الحديث ، ونعود في ظل هذه الدائرة ، لكن أردت أن يكون رحيل صدام مجرد مثال لا أكثر . والأيام حبالى بكثير من مثل هذه الأحداث . والله المستعان !
سائلاً الله تعالى أن يصلح أحوالنا ، ويحمي ألسنتا من الكذب ، ويجعلنا ممن انشغل بنفسه عن غيره ، والله المستعان !


مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
مشرف تربوي بإدارة التربية والتعليم بمحافظة القنفذة

 

مشعل الفلاحي
  • الكتب والبحوث
  • رسائل موسمية
  • رسائل
  • تنمية الذات
  • للتواصل مع الشيخ
  • الصفحة الرئيسية