اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/mashal/53.htm?print_it=1

العطاء (1)

مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي


لا تكاد نفسي تشبع من قراءة الوصف الذي جادت به قريحة أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأته خائفاً وجلاً حين قفل عائداً من الغار بعد لقاء جبريل به وهو يردد \" لقد خشيت على نفسي \" فقالت تلك الكلمة التي من حقها أن تذهب على كل لسان \" كلا والله لا يخزيك الله أبداً .. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق \" ولو كانت واحدة من هذه الصفات في حياة إنسان لجعلته كبيراً في قومه رفيعاً في أمته فكيف وقد اجتمعت في حياة إنسان ، وانتظمت في سيرة مخلوق ؟! أما وإنها قد وجدت نفساً تُقِلّه وتحمله مجتمعة دون أن تستثقله فإنها والله لنفس كبيرة ، وهذه الصورة التي عرضتها لنا أم المؤمنين رضي الله عنها هي التعريف العملي لمعنى العطاء في حياة إنسان ..
إن النفوس جبلت على حب التملك للأشياء ، والنفوس التي يكون العطاء سمتها وروحها وحياتها نفوس نأت عن الطبائع ، وتاقت إلى معاني الكبار ، وذهبت تكتب في الأرض أن معنى الحياة ليس تلك الصورة التي نشبع فيها رغباتنا بالأخذ .. كلا ! وإنما هي تلك الصورة التي تجد روحها ومعناها في ذات العطاء .
إن عجبي لايكاد ينقضي وأنا اقرأ هذا الوصف عن سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ، وكلما أمعنت في معاني هذا الوصف زادت قناعتي أن سيرته ما زالت بحاجة كبيرة إلى إعادة تأمل في فصولها من جديد !
وإذا أردت أن تعرف معنى العطاء في حياة إنسان فتأمل في الوعد المترتّب على الصدقة في كتاب الله تعالى كمثال فهو الذي خلق النفوس وهو أعلم بخصائصها وصفاتها وأحوالها .. والله المستعان !
إن هذه الكلمات شهادة زوجة في حق زوجها ، وقد عاشت معه تفاصيل حياته كلها ، وليست شهادة إنسان رآه في موقف عارض وذهب يشهد بما رآه .. وأعلم كما تعلم الأمة كلها أن ذات الوصف بتفاصيله تجتمع الأمة عليه في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من فجر التاريخ إلى قيام الساعة ، وما لم تره أعيننا في لحظة حفظه التاريخ حتى كأننا نعيشه هذه الساعة لحظة بلحظة ..!
إن المهمة التي جاء بها رسولنا صلى الله عليه وسلم في الأمة ضخمة للدرجة التي يعجز عنها فئام الرجال ومع حاجة تلك اللحظة إلى حسن علاقة فيما بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ربه كانت كذلك بحاجة إلى حسن خلق وعظمة نفس وروعة إنسان تستوعب هموم الناس وظروف الناس وأحوال الناس قبل أن تخاطبهم وتدعوهم إلى الحق بكلمة .
كان النبي صلى الله عليه وسلم إنساناً كغيره حين يقف بجسده ماثلاً بين الناس وحين يقف بروحه ومعناه وعطائه يقف مختلفاً عن كل الناس .. إنك تلك اللحظة التي يقف فيها بروحه فقط هي تلك اللحظة التي تقف فيها مبهوتاً أمام إنسان بحجم محمد صلى الله عليه وسلم : \" إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق \" فيا لله أي وصف وصفت ؟ وأي معنى ذكرت ؟ إنها الروح الاجتماعية بكل تفاصيلها لإنسان يحمل رسالة الحق للناس يريد أن يبلغهم أمر الله تعالى ..!
إن العظمة الحقيقية في الوصف أنه جاء قبل أن يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً من الرسالة ، وتآلفت هذه الصفات كلها مجتمعه في شخصيته في نظر زوجه وفي أسوار بيته ، وكذلك هم الكبار يبدون بهذه الصور أولاً بين جدران بيوتهم وفي رحلة الحياة مع زوجاتهم ثم يمضون في الأرض يمدون في تلك السيرة كأروع ما تكون .
إن ما يشدني في وصف خديجة رضي الله عنها أنه جاء دون ترتيب أو إعداد وإنما دفعه الموقف ليكون حزمة واحدة في شخصية إنسان ، وشدني كذلك قسمها الكبير \" كلا والله لا يخزيك الله أبداً \" وهل عرفت خديجة الغيب حتى تقسم بربها أن ذلك حاميها .. كلا ..! لكنها درست سنن الله تعالى في الأرض ، وأن من تآلفت هذه الصفات في شخصيته لهو كبير بحق عند الله تعالى يستحيل معه أن يكون موضعاً للخذلان أو مكاناً للشماتة .
إن موضوعاً كهذا في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من أن تأتي عليه صفحات بهذا الحجم ، لكنني آثرت أن أقف هنا لأنه من الحيف أن تمر هذه الشهادة دون أن نتوقّف عند أسطرها متأملين روعتها وأثرها وأناقتها وجمال لحظاتها ...
\" كلا والله لا يخزيك الله أبداً .. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق \"
وأدعوك أخي القارئ الكريم أن تعيد قراءتها مرتين أو ثلاثاً لترى نفسك مع زوجك داخل أسوار البيوت ، وترى نفسك في حيك ومجتمعك ، وبين أرحامك لتدرك كم بينك وبين الكبار من مسافة ، ومثلك حقيق باللحاق .

مشعل عبد العزيز الفلاحي
Mashal001@hotmail.com

 

مشعل الفلاحي
  • الكتب والبحوث
  • رسائل موسمية
  • رسائل
  • تنمية الذات
  • للتواصل مع الشيخ
  • الصفحة الرئيسية