صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وقفات مع أحداث ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان

د. مهران ماهر عثمان

 
بسم الله الرحمن الرحيم

وقفات مع أحداث ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان
9/9/2011م


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن أحداث ولايتي جنوب وكردفان والنيل الأزرق خلَّفت وراءها كثيراً من الدروس والعبر التي يتأكد علينا أن نقف معها، ونُفيد منها، وهذا تذكيرٌ بشيء منها:
 
شؤم الانفصال

فبعد أن كان القتال دائراً بين الحكومة وبعض المتمردين في دولتها أصبح القتال قتالاً بين دولتين، وكانت أول مهمة للدولة الوليدة الهشة دعم المتمردين في النيل الأزرق وجنوب كردفان! وهذا شيء تحتلف فيه وجهات النظر: هل الانفصال خير لهذه البلاد أم شؤم وشر؟
 
التعصب القبلي ينسي عقيدة الولاء والبراء

وقد ضربت الحركة الشعبية على هذا الوتر كثيراً (العرب الجلابة والزنوج)!!، فكثير من إخواننا من أبناء جبال النوبة أعلنوا انتماءهم للحركة بدوافع قبلية، وتمت الاستفادة منهم في أحداث تمرد هاتين الولايتين.
وهنا في بعض حارات أمبدة بعض الإخوة من المحسوبين على التدين لا يخفون إنتماءهم للحركة، وإن لم يكن الانتماء حقيقياً فإنه انتماء وجداني قلبي.
فمثل هؤلاء يجب تذكيرهم بأنه لا تعصبَ للقبيلة ولا للعنصر في الإسلام.
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ» رواه أبو داود والترمذي.
ولما حدث خلاف بين مهاجري وأنصاري ونادى كل قومه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة» متفق عليه.
 
وجوب اهتمام الدولة بغرز عقيدة الولاء والبراء

والإيمان لا يتحقق إلا بهذه العقيدة. قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة/81].
والحديث عن اليهود الذين اتخذوا المشركين أولياء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه جملة شرطية إذا وُجِد الشرط وُجد المشروط... ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء، فمن اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب"([1]).
وتحقيق هذه العقيدة أوثق عُرى الإيمان([2]):
سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا ذر t: «أتدري أيُّ عُرى الإيمان أوثق»؟ قال: الله ورسولُه أعلم. قال: «الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل» رواه الطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» رواه أبوداود والترمذي.
إن المؤمن يوالي المؤمن لدينه، وكلُّ كافرٍ فإنَّه بغيضٌ عنده ولو كان أقربَ قريب.
 
الاهتمام بوحدة الصف وجمع الكلمة ونبذ التفرق

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران/103].
وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم/31-32].
أي: ولا تكونوا من المشركين وأهل الأهواء والبدع الذين بدَّلوا دينهم، وغيَّروه، فأخذوا بعضه، وتركوا بعضه؛ تبعًا لأهوائهم، فصاروا فرقًا وأحزابًا، يتشيعون لرؤسائهم وأحزابهم وآرائهم.
وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران/ 105].
والمعنى: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأهل الكتاب الذين وقعت بينهم العداوة والبغضاء فتفرَّقوا شيعًا وأحزابًا، واختلفوا في أصول دينهم من بعد أن اتضح لهم الحق، وأولئك مستحقون لعذابٍ عظيم موجع.
وقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال/46].
وقال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام/153].
وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى/13].
وكما حذَّر ربنا من ذلك حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: «إياكم والفُرقة» رواه الترمذي.
وعن جابر بن سمرة t قال: خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حَلَقًا([3]) فَقَالَ: «مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: "معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع"([4]).
وفي سنن أبي داود قال أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ t: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَة([5]) إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ». فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.
 
قتال المعتدين البغاة واجب

قال ابن حجر رحمه الله :" فأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل فقُتل، فلا يدخل في هذا الوعيد([6])؛ لأنَّه مأذون له في القتال شرعاً"([7]).
ولا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»؟
قال الإمام النووي رحمه الله: "وهذا الحديث والأحاديث قبله وبعده مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يُقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبى بكرة الصحابي t وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها لكن إنْ قُصد دفع عن نفسه. فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي...} الآية، وهذا هو الصحيح، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون، والله أعلم"([8]).
 
وجوب الاهتمام بقضية النازحين

وقد لا يكون مناسباً إقامة معسكرات لهم لئلا يتكرر (سيناريو) دارفور. ولكن الأخوة الإيمانية توجب علينا أن نمد يد العون لهم، وإلا فلا خير فينا.
ومعلوم أن الدراسة في ولاية النيل الأزرق ستتأجل للأضرار البالغة التي أُصيبت بها المدراس، وبعد أيام ستحرر الكرمك وقيسان بمشيئة الله، وهذا يفضي إلى نزوح في داخل الدمازين، وكثير من الأسر عادت إلى الدمازين بعد استقرار الوضع بها، هذا كله يملي علينا وجوب الوقوف معهم ومد يد العون لهم، وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم» متفق عليه.
 
خطر التهاون وترك الحزم في التعامل مع من يحتاجه

وأين التفريط؟ وأين تهاون الحكومة؟
هذه بعض صوره:
1/ لاريب أن مالك عقار لم يفز في الانتخابات، وأكبر دليل أنَّ مواطني ولايته لم يقاتلوا معه، فلماذا سمحت الدولة بتزوير الانتخابات لتفويزه. وإجابتهم معلومة عندنا: العمل السياسي يقتضي ذلك! فهم يريدون كسبه!! هذا من أكبر الأخطاء.
2/ كيف نقبل بعد اتفاقية نيفاشا بأن تكون هناك بعض المناطق في النيل الأزرق مسلحة؟
3/ منع نائب رئيس الجمهورية من دخول بعض المناطق في جبال النوبة كجُلُد وتيمين! فكيف يسمح بذلك؟
4/ كثرت تصريحات عقار بعد انتخابه زورا وكانت تصريحات تفوح منها رائحة التمرد والغدر والخيانة وهو وال يتبع لدولة وحكومة فلماذا السكوت عنه بعدها؟
5/ وبعد تمرده لا زال بعض المسؤولين في الحكومة من يقول: نقبل رجوعه بشروط!!
وهذان موقفان سجَّلهما التاريخ، فيهما درسٌ لكل متهاونٍ لا يأخذ بالحزم مع أهله..
الموقف الأول([9]):
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي الاموي الذي يلقب بمروان الحمار، ولقب بذلك لثباته في الحروب، وهو آخر خلفاء بني أمية. اجتاز مروان وهو هارب براهب، فاطلع عليه الراهب فسلم عليه، فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان؟
قال: نعم! عندي من تلونه ألوان.
قال: هل تبلغ الدنيا من الانسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالكا؟
قال: نعم!
قال: فكيف؟
قال: بحبِّه لها، وحرصه على نيل شهواتها، وتضييع الحزم، وترك انتهاز الفرص.
الموقف الثاني([10]):
مروان هذا جلس يوما وقد أحيط به، وعلى رأسه خادم له قائم، فقال مروان لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على أيد ما ذكرت، ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت.
فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخَّر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا.
فقال مروان: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.
فهل تتعظ حكومة السودان بحال مروان؟
 
رسالة للقوات المسلحة

أسأل الله أن يبارك فيكم، فأنتم صمام الأمان لبلادنا، فتقبل الله شهداءكم، وداوى جرحاكم، وثبت أقدامكم، ونصركم على عدوكم، وجمع على الحق كلمتكم، وأعاننا على الوفاء لكم.
ربِّ صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

---------------------------
[1] / كتاب الإيمان، ص (14).
[2] / أكثرها وثاقة، أي: قوة وثباتا.
[3] / يجوز بفتح الحاء وكسرها.
[4] / شرح النووي (4/153).
[5] / الشِّعْب: الطريق في الجبل، والوادي: ما كان بين مرتفعين
[6] / وعيد قتل النفس المؤمنة.
[7] / الفتح (12/197).
[8] / شرح مسلم (18-8-10) .
[9] / ينظر البداية والنهاية (10/51).
[10] / المصدر السابق (10/52).


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. مهران ماهر
  • الخطب المنبرية
  • المقالات
  • البحوث
  • الردود
  • برامج إذاعية
  • المواعظ والدروس
  • الصفحة الرئيسية