اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/mehran/36.htm?print_it=1

دفاعٌ عن نبي الله داود عليه السلام

د. مهران ماهر عثمان

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد؛
فقد تناولت بعض الصحف السودانية يوم الأربعاء 29/10/2008 م قصة نبي الله داود عليه السلام مع الخصمين ، ونقلت ما جاء في بعض كتب التفسير مما لا يليق بوليٍّ من الصالحين ، فضلاً عن نبي كريم ، فكان لزاماً عليَّ أن أذبّ عن عرض هذا النبي الكريم ، عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأتم تسليم ..

آيات القصة :

قال تعالى :{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص (21-26)] .

معنى الآيات :

جاء في التفسير الميسر :" هل جاءك -أيها الرسول- خبر المتخاصِمَين الذَيْن تسوَّرا على داود في مكان عبادته، فارتاع من دخولهما عليه؟ قالوا له: لا تَخَفْ، فنحن خصمان ظلم أحدنا الآخر، فاقض بيننا بالعدل، ولا تَجُرْ علينا في الحكم، وأرشِدنا إلى سواء السبيل.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/165) : "وتسوروا أتوه من أعلى سوره ... وقيل: {تسورو} وإن كانا اثنين حملاً على الخصم إذ كان بلفظ الجمع ".
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}
قال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون من النعاج، وليس عندي إلا نعجة واحدة، فطمع فيها، وقال: أعطنيها، وغلبني بحجته .
{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ }
قال داود: لقد ظلمك أخوك بسؤاله ضم نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرًا من الشركاء ليعتدي بعضهم على بعض، ويظلمه بأخذ حقه وعدم إنصافه مِن نفسه إلا المؤمنين الصالحين، فلا يبغي بعضهم على بعض، وهم قليل. وأيقن داود أننا فتنَّاه بهذه الخصومة، فاستغفر ربه، وسجد تقربًا لله، ورجع إليه وتاب.
وقوله تعالى : { اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} قال السدي رحمه الله :" لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب" [تفسير القرآن لابن كثير (7/63)] .

فما هي المعصية المشار إليها ؟
بعض السلف آثر رد علم ذلك إلى الله بعدم الخوض فيها ؛ لأنها لم تأت في حديث ولا أثر صحيح .
قال ابن كثير رحمه الله :" فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل" [تفسير ابن كثير (7/60)] .
وقال بعضهم : الذنب المشار إليه أنهما لما تسورا المحراب ظن أنهما أرادا سوء به ، فاستغفر من هذا الظن .
والله تعالى أعلم .

قصة حبه للمرأة باطلة باطلة :

زعم بعضهم أنّ داود عليه السلام نظر إلى امرأة فأُعجب بها وكان لها زوج، فأرسل زوجها إلى معركة فمات فتزوجها !! فأُرسل إليه ملكان ، وبذكرهما للنعاج علم خطأه ، فلقد كان له تسع وتسعون امرأة فكيف يطمع في زوجة غيره .
وإني لأُشهد الله أنّ هذه القصة لا تثبت ، وهذه أدلتي:
الدليل الأول أقوال المفسرين :
قال الشنقيطي رحمه الله:
"واعلم أن ما يذكره كثيرٌ من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة- مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء" [أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن(6/339)].
وقال ابن كثير رحمه الله : " ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذة من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة" [تفسير القرآن العظيم (4/32)] .
وقال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله :
" قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب!" [الجامع لأحكام القرآن (15 /181)] .
وقال السيد طنطاوي :" قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذي أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظاناً أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم ، وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونه ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم في شيء منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - في كتابه يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه " [الوسيط (1/3613)] .
وقال القطان في تيسير التفسير (ج 3 / ص 161) :" نقل كثير من المفسرين ما جاء في التوراة ، من أنَّ داود كان يحب امرأة أُوريا ، وأنه أرسله إلى الحرب حتى قُتل ثم تزوجها ، ولم يثبت عندنا في الأثرِ شيء من هذا ، ولذلك يجب أن نكون على حذر من هذه الأمور ، فإنَّ التوراة قد حُرِّفت من الدفة إلى الدفة كما يقول (لوثر) وغيره ، وكما نص القرآن الكريم ".
ويقول سيد قطب رحمه الله في ظلاله (6/209) :" وخاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضاً كبيراً . تتنزه عنه طبيعة النبوة ، ولا يتفق إطلاقاً مع حقيقتها . حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطاً ، وهي لا تصلح للنظر من الأساس . ولا تتفق مع قول الله تعالى : {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}".
ولقد تركت من أقوال المفسرين أضعاف ما ذكرت ؛ فإنَّ فيه لغُنية.
الثاني :
ومما يدل على كذب هذه القصة قول الله تعالى في سورة النساء :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} ..
فدلت الآية على أنّ حضور المعركة لا يدني من أجل ، والتخلفَ عنها لا يمد في عمر ، فالآجال مقدرة مكتوبة قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما أخبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أفلا يعلم نبي الله داود عليه السلام بذلك حتى نزعم أنه أرسله للمعركة ليموت ؟؟! سبحانك هذا بهتان عظيم .
إن المنافق هو الذي يخفى عنه ذلك ، قال تعالى :{ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] .
الثالث:

قال القرطبي رحمه الله :" وحكى السُّدِّيُّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرماً لجلدته ستين ومائة؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون ، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة ذكره الماوردي والثعلبي أيضا." [الجامع لأحكام القرآن (15 /181)] .
الرابع :
قول الله تعالى : {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض؛ فاحكم بين الناس بالحق . ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد . بما نسوا يوم الحساب} يدل عل أنّ الأمر متعلق بمسألة الحكم ، قال في الظِّلال :" والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة؛ ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس ... ومن رعاية الله لعبده داود ، أنه نبهه عند أول لفتة، ورده عند أول اندفاعة ، وحذره النهاية البعيدة -وهو لم يخط إليها خطوة - وذلك فضل الله على المختارين من عباده ، فهم ببشريتهم قد تعثر أقدامهم أقل عثرة ، فيقيلها الله ، ويأخذ بيدهم ، ويعلمهم ، ويوفقهم إلى الإنابة ، ويغفر لهم ، ويغدق عليهم ، بعد الابتلاء " .
لله دره ، ما أحسن كلامه !

أقسام الإسرائيليات:

في بعض الأحاديث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قراءة كتب أهل الكتاب وعن النظر فيها وبالتالي عن حكايتها، من هذا حديث جابر رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم- المراد قُرئ عليه لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقرأ- فَغَضِبَ، فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ - التَّهَوُّك التَّهَوُّر وزناً ومعنىً، وهو الوُقُوع في الأمْرِ بِغَيْرِ رَوِيَّة- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» [أحمد والدارمي]، هذا النص أفاد عند العلماء : عدم جواز مطالعة كتب أهل الكتب وبالتالي لا يجوز النظر في أخبارهم .
نصٌ ثانٍ يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» [صحيح البخاري] ، فهنا : ينفي الحرج .
نصٌ ثالث : في صحيح الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الْآيَةَ..» .
وقد جمع العلماء بين هذه النصوص ، وذكر قولهم الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في أول التفسير قال : قال العلماء – رحمهم الله - : إن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : ما نعلم بطلانه بما جاءنا من الوحي ، فهذا لا يجوز لنا أن نحكيَه ولا أن نسوقَه ، وإن سقناه فإننا نرده ونكذِّبه ، وذلك لما قام لدينا في شرعنا من الدليل على أن هذا من الباطل .
النوع الثاني : ما جاءنا من أخبار أهل الكتاب مما نعلم صدقه لموافقته ما أخبرنا الله عز وجل به ، وهذا كثير من الأشياء في التوراة والإنجيل نجدها توافق ما عندنا ، وبالذات في باب القصص والأخبار ، فهذا النوع هو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ، أي : فيما عَلِمْتم أنه يوافق ما عندكم .
النوع الثالث : ما لا يوافق ولا يخالف ، فهذا هو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» . «لا تصدقوهم»؛ لأنه لا تعلمون صدقهم فيه ، «ولا تكذبوهم» يعني : أنتم لا تعلمون كذبهم فيه.
ومثل هذه القصة لا جرم أنها كذب واختلاق .

الشيء بالشيء يذكر :

قال تعالى :{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولً} [الأحزاب :37] .
ذكر بعضهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحب زينب بنت جحش وهي تحت زيد رضي الله عنه!! وذكر بعض المفسرين في تفاسيرهم بعض الآثار التي لا يقبلها عقل ، وقد أحسن الإمام ابن كثير لما قال عند تأويل هذه الآية :" ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف، رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً ؛ لعدم صحتها ، فلا نوردها " ، ثم أورد أثراً عند ابن أبي حاتم وهو :" عن علي بن زيد بن جُدْعان قال: سألني علي بن الحسين : ما تقول في قوله: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ؟ فذكرت له. فقال : لا ، ولكن الله أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال: اتق الله، وأمسك عليك زوجك. فقال: قد أخبرتك أني مُزَوّجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه " [تفسير القرآن العظيم (6/424-425)] .
وإذا تأمَّلت الآية وجدت أنّه لا يصح غير هذا القول ، ألم تر أن الله قال :{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } ، فالذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أبداه الله ، فما الذي أبداه الله ؟ هو زواجه من زينب ؛ فالله تعالى أعلمه بذلك فكيف يقول لزيد رضي الله عنه : أمسك عليك زوجك ؟ ولهذا كان العتاب .
أما وقف من نسب العيب إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم على هذه القصة التي أخرجها النسائي .. لما ارتد عبد الله بن سعد بن أبي السرح وأسلم اختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يا رسول الله بايع عبد الله ، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً ، كل ذلك يأبى ، فبايعه بعد ثلاث ، ثم أقبل على أصحابه فقال :« أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ» !؟ فقالوا : وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ؟ هلا أومأت إلينا بعينك ، قال :«إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنةُ أعين» .
فكيف يُقال في حقه ذلك ؟ سبحانك ربنا هذا كذب مبين وبهتان عظيم !
فعلينا أيها القارئ الكريم أن نحذر غاية الحذر ونحن ننقل ما يتعلق بالأنبياء والمرسلين من كتب التفسير التي تنقل الإسرائيليات، وعلينا أن نأخذ العلم من أفواه المشايخ، فمن كان شيخه كتابه كثر خطؤه وقل صوابه.
والقدح في الأنبياء والمرسلين قدح في الله رب العالمين، وإذا كان الله في سورة النور قد سبح نفسه لمَّا رمى الناس عائشة أم المؤمنين ، فما بالك بهم ؟

من فوائد القصة وهداية آياتها :

1. عدم الاستئذان يزيل الأنس ويدخل الفزع ولذا شرع لنا .
2. الخوف الطبيعي من غير الله تعالى لا شيء فيه، والخوف الذي يخرج الإنسان من الملة خوف السر .
3. إنّ من البيان لسحرا ، وقد يغلب الظالم بحجته ، ولذا ينبغي للقضاة أن يفطنوا لذلك .
4. لابد من إقامة حاكم يبت في أمور الناس .
5. لا قيام للسعادة إلا على ساق العدل .
6. الهداية من غير الله هداية إرشاد وبيان ، والتوفيق من الله وبه .
7. الشراكة في كثير من الأحيان لا خير فيها .
8. أثر الإيمان والعمل الصالح في الوقاية من البغي .
9. قلة الصالحين .
10. التوبة والاستغفار من وظائف العمر ؛ فإنهما فعل الأنبياء .
11. أتبع السيئة الحسنة تمحها .
12. قد يستدل بها على أنّ شرع من قبلنا شرع لنا ، فلقد سجد داود ، وسجدها نبينا عليهما الصلاة والسلام.
13. إطلاق الركوع على السجود .
14. تشكُّل الملائكة .
15. عدم علم الأنبياء للغيب إلا القدر الذي أذن الله به .
16. خطورة اتباع الهوى .
17. تعريف المستأذن لنفسه .
أسأل الله أن يجعلنا ممن يذب عن أنبيائه وأوليائه ، وأن يرضى عنا بذلك .
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

د. مهران ماهر
  • الخطب المنبرية
  • المقالات
  • البحوث
  • الردود
  • برامج إذاعية
  • المواعظ والدروس
  • الصفحة الرئيسية