صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







هل النقاب بدعة ؟

د. مهران ماهر عثمان

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فقد تعالت أصوات في الآونة الأخيرة تنادي بأنّ النقاب بدعة لا أساس لها في دين الله! فكان هذا المقال جواباً عن السؤال الذي جعلتُه عنواناً له.
فأقول: لقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية على مشروعية النقاب، وليس مقصودي هنا الحديث عن وجوب أو استحباب ستر الوجه، وإنما المقصود سرد الأدلة على مشروعيته، وأنه ليس ببدعة في الدين، وأنه سنةُ عبادةٍ وليس بسنة عادة..
وهذه هي الأدلة على ذلك:
الدليل الأول :
قول الله تعالى :{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ} [النور:31].
فالخمار يُطلق على ما تغطي به المرأة وجهها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -وهو يتحدث عن الخَمْر:"ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها "[فتح الباري:10/48].
وقال ابن تيمية رحمه الله : "الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تُسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لا بسها إلا العينان"[مجموع الفتاوى 22/146-147].
وتفسير الصحابيات عملياً لهذه الآية يدل على أنّ المراد منها تغطية الوجه، فقد قالت عائشة رضي الله عنها :" يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله :{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ } شققن مُرُوطهن – "جمع مِرْط ، وهو الإزار ". - من قبل الحَواشي - حاشية الشيء : طرفه وجانبه "[النهاية : 1/392] - فاختمرن بها " [صحيح البخاري] .
قال الحافظ في الفتح (9/480):" "فاختمرن بها" أي: غطَّيْن وجوههنَّ ".
وتغطية الوجه سنة ماضية درج النساء عليها في مختلف العصور، فقد جرى العمل على خروج النساء من بيوتهن منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال [راجع فتح الباري : 9/337 ، و إحياء علوم الدين ، للإمام أبي حامد الغزالي ، دار الشعب بالقاهرة ، 4/729] .

وقد اختلف المفسرون رحمهم الله في قوله تعالى { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا  } على قولين :
الأول : أن المراد : ما أظهرنه من الوجه والكفين ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما [سنن البيهقي : 2/225].
الثاني : ما لا يمكن إخفاؤه . فقيل المراد : ظاهر ثيابها، وهو لابن مسعود رضي الله عنه [مستدرك الحاكم : 2/431 ، ومعجم الطبراني الكبير : 9/228 ]، أو ما ظهر بغير قصدها .
قال الكلبي رحمه الله :" ثم استثنى الظاهر منها وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك ، فقيل إلا ما ظهر منها يعني الثياب " .
وقال ابن عطية رحمه الله :" ويظهر لي في محكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه "[ المحرر الوجيز : 4/178].
وقال ابن كثير رحمه الله :" أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : كالرداء والثياب . يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه"[تفسير القرآن العظيم 3/284].

ولو سلمنا بصحة القول الأول فإنه لا يدل على أنّ المرأة لا تغطي وجهها، بل يدل على أنه لا يجب عليها ذلك، والذي أعتقده أنّ القولَ الثاني هو أصوب القوليْن ، وأصحُّ المذهبيْن ؛ لما يلي :
1- أدلة القرآن الكريم تعضده ، فغالب إطلاق لفظ الزينة في القرآن الكريم على الخارج عن أصل خِلقة المُزَيَّن بها ، ومن ذلك قوله تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31]، فقد انعقد الإجماع على أن المراد بالزينة فيها : الثوب الذي يستر العورة [التفسير الكبير (14/51)].
وكقوله تعالى :{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، فالزينة هنا الثياب [تفسير الطبري (8/162)].
وكقوله :{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا }[الكهف: 7]، فما عليها غيرُها.
ومن ذلك :{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6].
وقوله عن لقمان :{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]، أي: " الثياب والدواب "[تفسير القرطبي (13/316)].
وقوله :{ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، والمراد بها زينة الخلاخل وغيرها مما تزين به المرأة رجلها ويصدر صوتاً.
2- لأن هذا القول هو الأحوط والأسلم .
3- لأن هناك من نازع في أن الزينة لا تُطلق على أصل الخِلقة ، واتفقوا على إطلاقها على ما كان خارجاً عنه [التفسير الكبير (23/179)]، فحمل اللفظ على ما اتُفق عليه أولى .
4- لأن بعض العلماء نص على أن تفسير الزينة بجزء من الجسد خلاف الظاهر ، وحمل النصوص على ظاهرها أولى [أضواء البيان (5/515)].
5- لأن الله تعالى قال: {إلا ما ظهر منه} ولم يقل : ما أظهرن ، فهو مشعر بأن الإظهار ليس من كسبهن ولا يد لهنَّ فيه ؛ فإن الفعل (ظهر) " لم يجئ متعدياً، بل جاء لازماً ، ومقتضى هذا أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقاً غير مخيرة في إبداء شيء منها ، وأنه لا يجوز لها أن تتعمد إبداء شيء منها إلا ما ظهر اضطراراً بدون قصد فلا إثم عليها ، مثل انكشاف شيء من الزينة من أجل الرياح ، أو لحاجة علاج لها ونحوه من أحوال الاضطرار ، فيكون معنى هذا الاستثناء رفع الحرج ، كما في قول الله تعـالى :{ لايكلف الله نفساً إلا وسعه} [البقرة: 286]، وقوله :{ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام 119]" [حراسة الفضيلة للدكتور بكر عبد الله ، ص : 50].

الدليل الثاني:
قول الله تعالى :{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } [الأحزاب: 59].
قال الطبري رحمه الله في تفسيره (20/324) :"عن ابن عباس، قوله :{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدةً".

الدليل الثالث:

ما دل من النصوص على وجوب ستر القدمين؛ لأنها إذا أُمرت بتغطية قدميها فمن باب أولى أن تغطي وجهها لكونه عنوان جمالها.
ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جر ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال :«يرخين شبراً». فقالت : إذاً تنكشف أقدامهن؟ قال :«فيرخينه ذراعاً، لا يزدن عليه» [أبو داود، والترمذي، والنسائي].
وهذا الإرخاء يكون من نصف الساق .
فدل هذا الحديث على وجوب الحجاب وستر القدمين ، وهو من أدلة من يوجب على المرأة أن تغطي وجهها لأنه أولى بالتغطية من الأقدام .
قال الترمذي رحمه الله :" وفي هذا الحديث رخصة للنساء في جر الإزار " [السنن : 4/224].
وفيه " دليل على وجوب ستر قدميها " [سنن البيهقي : 2/233] .

وفي المسند، وسنن أبي داود قال ابن عمر رضي الله عنهما :" رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً ، ثم استزدنه فزادهن شبراً، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً ". وهذا الحديث دليل على مسألتين :
الأولى : أن الخطاب المتوجه إلى أمهات المؤمنين لا يختص بهن دون سائر النساء إلا بدليل، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنته وأم سلمة رضي الله عنهما أن يجرا الذيل ذراعاً.
الثانية : أن الذراع شبران ، قال الحافظ رحمه الله :" وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة" [فتح الباري 10/259].
ولا يشوش على ما سبق أنه ربما أفضى ذلك إلى تعلُّق بعض القاذورات بثيابها ؛ لما جاء عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن أمَّ ولدٍ قالت لها : إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ؟ : فقالت لها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يُطَهِّرُه ما بعده» [مالك في الموطأ، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة].

الدليل الرابع:

قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القُفَّازين» [صحيح البخاري]، والنقاب: ما يُغطى الوجه به ولا يُظهر إلا العين، وكان اسمه قديماً البرقع والوَصْوَصة [راجع النهاية في غريب الحديث والأثر : 5/102]، وأما القفَّاز فـ "ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها" [فتح الباري 4/53].
فهذا الحديث يدل بمفهومه على أن غيرها تنتقب وتلبس القفازين، يقول ابن تيمية رحمه الله :" "وثبت في الصحيح أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن" [مجموع الفتاوى : 15/371-372] .
كما أن قول النبي صلى الله عليه وسلم عن المحرم :«لا يبلس السراويل» دليل على أنه كان يلبسها قبل ذلك.

الدليل الخامس:

أن المرأة تغطي وجهها وهي محرمة بغير النقاب فدل على أن غيرها أولى بهذا الحكم، فعن عائشة رضي الله عنها:" كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوَزَنا كشفناه " [أخرجه أحمد وأبو داود] .
وليس لأحد أن يظن أن هذا خاص بأمهات المؤمنين ؛ لما يلي :
- جاء في عون المعبود (5/201):" يمرون بنا أي : علينا معشر النساء".
- ولقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها :" كنا نغطي وجوهنا من الرجال ، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام " [المستدرك للحاكم] .
- وقول عائشة رضي الله عنها قالت :"المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً مسه ورس أو زعفران، ولا تتبرقع، ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت" [سنن البيهقي] .
فاتضح بهذا أن تغطية المحرمة لوجهها ليس مختصاً بأمهات المؤمنين، وأن المرأة تُنهى عن النقاب وليس عن تغطية وجهها، بل لها أن تسدل من ثيابها عليه وتغطيه، وقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر رحمهما الله الإجماع على ذلك فقال :" قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كلَّه، والخفاف، وأنَّ لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال ولا تُخَمِّره " [فتح الباري 3/406].

وهذه بعض أقوال العلماء الدالة على مشروعية هذا الأمر:

قال الجصاص الحنفي رحمه الله في تفسير الآية السابقة :" في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع أهل الريب فيهن " [أحكام القرآن 5/245] .
وقال ابن العربي رحمه الله : " قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر «لا تنتقب المرأة»؛ ذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها " [عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 4/56] .
فالإمام ابن العربي بهذا يرى أن تغطية المرأة لوجهها فرض، وقد مرَّ بك أن النقاب كان يُسمى البرقع .
أما البرقع المعروف اليوم فليس من النقاب في شيء ؛ وذلك لأنه يبدي أجزاء كبيرة من الوجه ، ولربما كانت المرأة دميمةً لا تُرجِع بصراً، فإذا أبدت عينيها وما فوقهما وأسفل منهما افتُتن بها !
وجاء في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل (1/499) :" واعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين ".
بل نص علماء المالكية على أن للمرأة ستر وجهها في الإحرام، ويجب الستر إذا ظنت الفتنةَ بها [راجع الشرح الكبير، للشيخ أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، تحقيق محمد عليش: 2/55] .
فينبغي أن يعلم أنّه لا خلاف في مشروعية تغطية الوجه، وإنما الخلاف في حكمه، مستحب أم واجب؟
فإذا بان لنا أنّ الله أمر النساء بذلك فكيف يكون عادةً! أليست العبادة ما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟!
فمن أحق بأنّ يكون من المبتدعين : المحرِّمون له، أم الآمرون به؟!
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. مهران ماهر
  • الخطب المنبرية
  • المقالات
  • البحوث
  • الردود
  • برامج إذاعية
  • المواعظ والدروس
  • الصفحة الرئيسية