اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/moslem/42.htm?print_it=1

المعارف الإسلامية و أزمة المثقفين

الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إنا نحمد الله حمدا كثيرا يوافي نعمه ويدفع عنا نقمه ، ونصلي و نسلم على إمامنا و إمام المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه ، و آله وسلم نبي الرحمة و الملحمة ، وبعد :

إن الفراغ الفكري الذي سيطر على كثير من مثقفي الأمة – إلا ما رحم ربي – لعدة عقود وسيطرة المؤسسات الاستشراقية و الاستعمارية وتلاميذهم الجدد على الثقافة المعاصرة و عموم المعارف كانت مأساة تاريخية عظيمة للعالم الإسلامي ، انتهت في كثير من الأحيان إلى عزل كثير من أجيالنا عن الثقافة الإسلامية الصحيحة الأصيلة عزلا يكاد أن يكون كاملا ، من حيث سيطرة الثقافات المادية اللادينية سيطرة شبه تامة على مؤسساتنا التعليمية بمختلف مستوياتها و دوائرنا الثقافية والإعلامية والاقتصادية التي غدت تفكر و تخطط لتغيير شامل لحياة المسلمين بمعزل عن الإسلام عقيدة وشريعة ، لا بل عدت تلك الجهات بمختلف تصنيفاتها الإسلام و كل ما فيه فكرا غيبيا رجعيا ، ولا يمكن التقدم و التطور إلا بوضع الإسلام و معارفه البدائية – بحسب تعبيرهم – ومن يمثله ويتبعه في الأقبية المظلمة و على الرفوف المهملة .

ومن يتتبع فهارس الدراسات الجامعية و غير الجامعية و المجلات و الدوريات يلاحظ تجاهل الإسلام تجاهلا تاما رجالا و علما و مذهبا و تاريخا و إن ذكر فيذكر من خلال السخرية و الاستهزاء فقط .

ثم بدأ ثلة من علماء و المفكرين يتحررون – بفضل الله ثم بفضل المخلصين لهذا الدين – من سيطرة الثقافات الإلحادية المادية و اللادينية و العودة إلى نور الله تعالى فيدرسوا عقيدتهم و شريعتهم وما قدمه علماء الأمة الإسلامية عبر العصور من دراسات و نظريات و علوم معارف .

ونستطيع أن نصف أولئك المفكرين و العلماء و المثقفين إلى قسمين :
قسم كانت دراساته للإسلام و معارفه وحضارته عميقة شاملة ، انطلق فيها من خلال حب الوصول إلى الحقيقة فوصل إلى نتائج باهرة بتوفيق الله سبحانه و تعالى .
فصرح بذلك بكل وسائل الإعلام المتاحة من كتب و محاضرات مرئية و مسموعة و مكتوبة .

وقسم آخر لا يزال مع صراع ضار مع ثقافاته الماضية التي شكلت بقوة خلفيته الثقافية و قناعاته الشخصية .

وهذه الفئة المثقفة تدرك الإسلام بقدر ما تبذل من جهد وصدق و توفيق الله سبحانه فبقدر ما تحمل على النفس الآمرة بالسوء فتتخلص من التعصب الأعمى و الرواسب البالية و الهوى الجامح المتبع تتوفق في الفهم و الإدراك .

والحقيقة التي لا يمكن أن نهرب منها أن هناك عوامل كثيرة تحول بين المنتمين إلى هذه الفئة و بين عودته إلى الله تعالى و طريقه المستقيم و لعل منها ما يلي :

أولا – إن الذي تربى على موائد الثقافات الغربية بكل ما فيها من تناقضات وشاب عليها من الصعوبة البالغة أن يتحرر منها لأنها سرت به و كأنها دمه فأصبح يفكر بطريقتها و يحكم على الأشياء بقوانينها .
فهو إن لم يهده الله سبحانه و تعالى عن طريق سبب من الأسباب كأن تحدث في كيانه ومكونات عقيدته هزة عنيفة تحوله من الظلام إلى النور و الشك إلى اليقين ومن الجهل إلى المعرفة بالله .

ثانيا – وهو الذي ينطلق من ثقافته الغربية ، ويحاول أن يفهم الإسلام وعلومه و حضارته من خلالها ، أي أنه يحكم من خلال ضوابط وخصوصية نمط حضاري آخر يختلف عنه اختلافا جذريا ، وعلى هذا النمط من التفكير و الحكم سيقوده لا محالة إلى نتائج خاطئة و أحكام باطلة.

فأمثال هؤلاء يدرسون أي عالم مسلم من خلال فكرهم العلماني فيجدونه بحسب وهمهم يدعو إلى ما يدعون إليه من فصل الدين عن الدولة ويوهمون الجيل و من يريد ان يخدع أن العلمانية لا تشكل خطرا على الإسلام ولا تصطدم معه بل تصطدم مع بعض المفسرين و المتشددين في فهم النصوص على نحو غير المراد بحسب زعمهم .
وهم ينسون و يتناسون أن علماء المسلمين كانوا يفكرون في إطار وضوابط الحضارة الإسلامية ، ويستحيل لأي منهم أن يخرج عن هذه الضوابط أبدا .
فأبا ذر الغفاري رضي الله عنه أبو الاشتراكية عند الاشتراكيين و لبرالي عند اللبراليين وهو رضي الله عنه منهما و أمثالهما براء فهو صحابي جليل التزم بالإسلام نصا وروحا و يخرج كغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و أئمة سلفنا الصالح رضوان الله عليه أجمعين عن الضوابط الإسلامية قيد أنملة .

ثالثا – وهناك صنف من المثقفين الذين ينطلقون في فهم الإسلام من خلال واقعه التاريخي في مجالات العلوم كلها .

و هذا الفهم قد يحمل من خصائص الفكر الذاتي وأخطاء وقصور العقل البشري ، كما يحمل سلبيات وانحرافات المراحل التاريخية التي نتجت من الاحتكاك المباشر بين الحضارة الإسلامية الحضارات الأخرى ، وكذلك المخططات الثقافية التي نسج خيوطها الأعداء في أوكار التآمر على الإسلام و أهله خلال تاريخه الطويل .

إنهم لا يدركون أن الإسلام وحي من عند الله تعالى و هو مستقل عن كل زمان و مكان و أن معظم الثقافات التي دارت حوله إنما تمثل أشخاصها و عصورها ، و يمكنها أن تمثل الإسلام .

ومن هنا كان لابد من الفصل الكامل عند الحكم بين الوحي و الفكر أو الوحي و التراث حتى تكون المراجعة واضحة و مفيدة .

ومن يمكننا أن أقوال و آراء المعتزلة وشواذ المتصوفة لا يمكن هي الإسلام نفسه بل هي أفكار متأثرة بالحضارات الدخيلة على عالمنا الإسلامي و ديننا الحنيف .

فالذي يريد أن يحكم على قضية لابد أن يعرضها على أصول الإسلام القاطعة في الكتاب و السنة و الإجماع إن كان لا يزال يعتقد بعصمة الوحي الإلهي .

وختاما فإننا ندعو المثقفين و أهل العلم و المعرفة الذين يريدون الحق و الإنصاف أن يدرسوا الإسلام و مختلف علومه دراسة شاملة و مختصة كل من خلال اختصاصه ، حتى لا يحكموا على القضايا حكما مبتورا مبهما بعيدا عن الحق و أهله ، يبعدهم عن الإسلام و مذهبتيه الواضحة في ضوء منهج علمي موضوعي بعيد عن الأحكام المسبقة و المصطلحات المادية و المبادئ التي تعود إلى منظومات حضارية تتنافى مع أصول الإسلام .

و أختم قولي هذا ، بقول الله سبحانه و تعالى :
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما ودعتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) سورة آل عمران ، الآية 193-194.
و الحمد لله رب العالمين

 

مسلم اليوسف
  • بحوث علمية
  • بحوث نسائية
  • مقالات ورسائل
  • فتاوى واستشارات
  • الصفحة الرئيسية